4
“واو… يا لها من إطلالة.”
مع غروب الشمس، صبغت أشعتها غابة أنغريسيا المطيرة الشاسعة التي تحيط بالبرج بدرجات حمراء، وكأنها على وشك الاشتعال.
كان البرج يقع في قلب غابة أنغريسيا، وبمسافة كبيرة بين منطقة السكن والغابة، كما لو أنه مبنى شُيّد وسط طبيعة بكر لا يمسّها بشر.
وفوق ذلك، كان هذا الطابق العلوي هو أعلى نقطة في الهيكل الشاهق، لذا كانت الإطلالة عبر النافذة تخطف الأنفاس بحق.
“لماذا لم آتِ إلى هنا في هذا الوقت من قبل؟ هذا تحديدًا مكان يستحق الزيارة!”
وعندما فكرت في الأمر، أدركت أن هذه أول مرة أصعد فيها للطابق العلوي خارج الأوقات المحددة. إيديل كانت تعتني بالأمير صباحًا، وقت الغداء، وفي المساء قبل النوم.
أتذكر بوضوح أنه في اليوم الأول بعد التجسّد، كنت أحدّق في سماء ليلية سوداء شاسعة لدرجة شعرت معها وكأن النجوم ستنهمر فوقي.
“لماذا لا يوجد أحد هنا ليستمتع بهذه الإطلالة؟ كان سيكون رائعًا لو أن لدي كوب قهوة مقطرة الآن.”
أوه… هل يوجد قهوة أصلًا في هذا العالم؟ رأيت أنواعًا مختلفة من الشاي العشبي على الأقل.
حدّقت في المشهد بينما كانت الشمس تتلاشى تدريجيًا مانحة الغابة المتلألئة ألوانًا غريبة ومبهرة، كأنها لوحة سريالية.
للحظة قصيرة، شعرت وكأنني أقضي وقتًا في منتجع استوائي في جنوب شرق آسيا.
هل بدأت أحنّ إلى حياتي السابقة؟
للحظة، مرت في ذهني وجوه من عالمي القديم—أصدقاء وعائلة. لا بد أن أحدهم افتقدني، أليس كذلك؟
في عالمي السابق، لم يكن لدي عائلة إلا والدي… ومع ذلك كان بعيد المنال دائمًا.
جدتي التي ربّتني توفيت، ووالدتي رحلت من هذا العالم بعد ولادتي مباشرة. أما أبي المكسور قلبه، فكان يرسلني إلى جدتي كلما رآني لأن ملامحي كانت تذكّره بأمي الراحلة. ربما كان يلومني بلا وعي على وجودي بعد وفاتها.
وهكذا، عشت أكثر من ثلاثين عامًا دون أي روابط حقيقية… باستثناء والدي.
لم تكن غلطتي.”
الآن، بعد أن أصبحت في عالم آخر، لم أستطع منع ذلك الشعور بالارتياح لعدم وجود أحد يقلق عليّ. ومع ذلك كان هناك شعور مرّ—كأن جزءًا ناقصًا مني.
خرج مني نفس طويل.
لطرد هذا الشعور الغارق، صرفت بصري عن النافذة نحو الأمير الملقى في وسط الغرفة.
“يبدو أن الأمير ليس لديه أي خطط لليوم أيضًا.”
بغض النظر عن حالتي، كان الأمير ممددًا هناك كأنه عمل فني من عصر النهضة. ضوء الشمس المحتضر أضفى لونًا غريبًا على القفص الزجاجي، مما منحه جمالًا هادئًا وأثيريًا.
كان وسيماً. لا، كان جميلاً… جمالًا يتجاوز مستوى الوصف. حتى أكثر الكلمات شاعرية بدت عاجزة عن التعبير عن ملامحه. وكنت قد أعلنت سابقًا بكل ثقة أنني لن أقع في غرام وجهه فقط… لكن يبدو أنني قد أضطر للتراجع عن هذا المبدأ.
ربما هذا بسبب سحر الحفظ… شعره حتى لا يلتصق ببعضه.
مرّ أكثر من عامين، لكنه لا يزال في الحالة ذاتها. وكأن الزمن توقف داخل ذلك الصندوق الزجاجي. شعر أسود مرتب، بشرة ناعمة كالخزف، شفتان وخدان ينبضان بالحياة، وحتى جسد يبدو متماسكًا بشكل مذهل.
“ومحفوظ… بإتقان.”
شرحت نظراتي عليه، وأخذت أفكاري تتيه. كان مشهدًا غريبًا بالفعل. بدا وكأنه على وشك فتح عينيه والعودة للحياة في أي لحظة… وهو أمر يفوق الخيال.
“نعم، إنه وسيم جدًا.”
إطلالة مُرضية مئة بالمئة. كنت أظن أنّ التخيل من خلال النص وحده سيكون كافيًا… لكن الواقع تجاوزه بسنوات ضوئية.
أي شخص كان سيراني في تلك اللحظة سيظنّ أن الأمر مخيف، وربما يلوّح بيده أمام وجهي ليوقظني.
طرقتُ على كتابي وتظاهرت بالتركيز، ثم ضحكت بخفوت.
كنت أستمتع بتخيل شكل التعبير الذي سيظهر على وجهه لو استيقظ وفتح عينيه فجأة… أمر يفوق التصور.
“هكذا يجب أن يكون بطل الرواية، في النهاية.”
نعم نعم… منظر مُرضي. التخيل يصبح أجمل حين يكون أمامك مشهد يساعدك.
ضحكت بطريقة تجعل أي شخص يراني يظن أنني غريبة الأطوار.
وبينما كنت غارقة في أفكاري، كانت الشمس تهبط أكثر فأكثر. ومع ذلك، لم يظهر الأمير أي علامة على الحركة.
“على الأقل… وهو نائم، لن يشعر بالاختناق، صحيح؟”
كان سؤالاً بلاغيًا، ولم أكن أتوقع إجابة. ومع ذلك، وبينما كنت أحدّق في الأمير، مددت يدي ولمست القفص الزجاجي.
“අවදි වන්න.”
خرجت الكلمات من فمي بلغة غير مألوفة، وفي اللحظة نفسها أحاط بالزجاج ضوءٌ خافت بالكاد يُرى.
كانت تلك العبارة المخصصة لتفعيل سحر الحماية الذي كانت إيديل تمارسه يوميًا بلا كلل.
ورغم أن قوتها السحرية كانت ضعيفة عند الولادة، إلا أنها كانت قادرة على النمو مع الاجتهاد. وإيديل كانت تتدرب كل يوم بعزم لا يتزعزع لتصبح ساحرة حقيقية
“من المدهش أن لا شيء تغيّر.”
كنت أظن أنني قد أكتسب بعض القوة بعد التجسّد، لكن للأسف بقي الضوء الأزرق الخافت عند أطراف أصابعي ضعيفًا كما كان.
“حتى أنني لست متأكدة إن كان يعمل أصلًا.”
لم يكن سحرًا خطيرًا، لذا ربما يمكنني تجربة شيء آخر؟
“උනුසුම් වීම.”
ما هذا؟ هل هو تعويذة شفاء؟ عقدت حاجبيّ وأنا أحاول استرجاع ذكريات إيديل.
“آه.”
ظهر الضوء الخافت من جديد. نعم، كان هناك بالفعل سحر—ولو بسيط.
“هممم… ماذا أيضًا؟”
بينما كان النطق والفهم يسيران بسلاسة، إلا أن اللغة ما زالت غير مألوفة تمامًا، ولم أستطع استرجاع عبارات التفعيل الخاصة ببقية التعاويذ التي كانت إيديل تتدرب عليها.
ليس وكأنني سأستخدم السحر كثيرًا مستقبلًا.
“الظلام يحلّ بسرعة.”
قبل أن أدرك، كان القمر المشرق قد ارتفع في السماء. وبفضل النافذة الكبيرة في الغرفة، بدأ ضوءه الهادئ ينساب شيئًا فشيئًا عبر المكان.
وبعد قليل، بدأت الأدوات السحرية المنتشرة في الغرفة تُضيء.
كانت تلك أضواء سحرية تعمل بأحجار المانا، بديلًا عن الكهرباء التي لا وجود لها في هذا العالم.
وأحجار المانا مكلفة، لكن ميليس، سيد البرج، كان ثريًا بما يكفي ليعتبرها مجرد حصى. وبفضل ذلك كان بإمكاني الصعود للطابق العلوي بأمان حتى في وقت متأخر.
“ياليتهم يركّبون مصعدًا هنا… أو حتى سُلّمًا كهربائيًا.”
وبالطبع، عندما يستيقظ الأمير لن أحتاج للصعود كل هذا الطريق، أليس كذلك؟
لا يمكنني تحديد التاريخ بدقة، لكنني كنت أشعر أن وقت ظهور البطلة بدأ يقترب.
كنت متأكدة أنها ستكون فاتنة. ووجدت نفسي أدندن بحماس.
“آه… انظروا إلى الغبار.”
وقفت ونفضت ثيابي، ورأيت ذرات الغبار تتطاير في الهواء.
من المفترض أن الغرفة مزودة بتعويذة تنقية أساسية، لكن كما هو حال أي مكنسة كهربائية لا تنظف كما يجب، لم تكن الغرفة نقية تمامًا.
“ربما يجب أن أنظف لاحقًا؟”
لو فعلتُ ذلك بنفسي فعلى الأقل سينتهي الأمر بشكل صحيح.
“لا، مستحيل. عملت مثل الحمقاء في حياتي السابقة بسبب هذا!”
داهمني شعور قوي بالخطر. لا يمكنني إعادة الكرة! العادات فعلًا مخيفة—كادت تعيدني إلى دوامة العمل الزائد.
“يجب أن أحافظ على توازن حياتي! وأعيش حياة فيها عشاء!”
ɞ ━━━━━━ˊˎ-
“أيها الأمير الأحمق، قوتي ليست شيئًا يمكن لإنسانٍ مثلك إيقافه.”
“وهل كنت تمتلك موهبة في الهراء أيضًا؟”
أثناء التحقيق في قرية مدمرة تعرضت للهجوم من قبل الرسل، تلقوا تقارير تفيد باكتشاف بوابة متصلة بمعقلهم.
ورغم تحذيرات الفرسان من احتمال أن تكون فخًا، دخل رِيشت بنفسه. كان يعتقد أن التعامل مع الأمر بنفسه سيكون أسرع.
والفخاخ ليست غريبة عليه.
الإمبراطورة إليسيا كانت تعرقل كل طريق يسلكه، وقد وصل بالفعل إلى مستوى “سيّد السيف” خلال رحلته.
كانت سمة النار الفطرية قد ظهرت فيه منذ أن بدأ المشي، ونال لقب ساحر رفيع المستوى منذ زمن.
وفوق ذلك كان أيضًا مبارزًا قويًا قادرًا على استخدام سيف صُمّم للسحرة.
ربما لهذا لم يخطر بباله أنه قد يفشل في صد هجوم الرسل.
كان خطؤه الوحيد أنه لم يتوقع أنهم سيهاجمونه بطريقة مختلفة.
حالما اقترب ريشت من مدخل مخبئهم ظهر قائد الرسل، “ديوس”.
الفرسان الذين كانوا يتبعونه وجدوا أنفسهم محاصرين بحاجز انبثق فجأة ومنعهم من الاقتراب.
وبحلول الوقت الذي أدرك فيه ريشت أن ديوس يقوده بمهارة إلى نطاق محدد، كان الأوان قد فات—وفُعِّلَت الدائرة السحرية المُعدة مسبقًا.
ارتجاف بارد اخترق عموده الفقري، وفِي اللحظة ذاتها فقد وعيه.
كانت تلك آخر ذكرياته.
نعم، لقد سقط في سباتٍ عميق.
حاول ريشت استكشاف حالته الحالية عبر تتبع جزء من ذاكرته.
“أنا مستلقٍ بالتأكيد.”
كان صداعه النابض دليلًا على عودة حواسه تدريجيًا، رغم أنه لم يكن يرى شيئًا. لا يرى… ولا يسمع.
“لا شيء يُرى… لا شيء يُسمع.”
لم يستطع منع نفسه من إطلاق تنهيدة.
“لقد تهاونت.”
كان يظن أنه أصبح قويًا بما يكفي ليتجاوز أي عقبة، لكن هزيمته بهذه السهولة كانت خطأه الوحيد.
قبض على أسنانه بقوة— بالكاد.
التعليقات لهذا الفصل " 4"