كانت القاعة الرئيسية التي سيُقام فيها حفل الاستقبال بعيدة نسبيًا عن موقعنا لذلك اضطررنا إلى ركوب العربة. تذكّرت القاعة الرئيسية التي رأيتها في أول يوم لي في القصر حين كان النبلاء مجتمعين هناك. بدت لي آنذاك شاسعة للغاية، أما اليوم فستمتلئ بنبلاء العاصمة.
«قد تكون مارين هناك أيضًا.»
نعم، لم يكن هذا وقت الانشغال بوسامة ريشت. الأولوية المطلقة كانت حماية مارين وريشت معًا.
وبعد أن استعدتُ في ذهني أهمية مهمة اليوم، رفعت رأسي بعزم. كانت ريليا ستستقل عربة أخرى مع لوكاس، لذا أمسكت بيد ريشت وصعدت إلى العربة المنتظرة في المقدمة.
كان داخل العربة أفخم وأكثر راحة بكثير من تلك التي ركبتها سابقًا.
«هذا يكفي لتجنّب دوار الحركة.»
دوار الحركة؟ في الواقع، كنت أنوي أخذ غفوة لطيفة. فتحت النافذة قليلًا لأدع الهواء النقي يدخل. كانت الشمس توشك على الغروب، والسماء بدأت تميل إلى العتمة.
مرّت لحظة صمت محرجة، ثم تحدث ريشت بصوت خافت.
«هل الفستان غير مريح؟»
«نعم! هذه الملابس غريبة عليّ قليلًا، فهي المرة الأولى التي أرتدي فيها شيئًا كهذا. هاها، ميليس ستُصاب بالدهشة لو رأتني، أليس كذلك؟»
ضحكت وأنا أزيح طرف الفستان بحركة مبالغ فيها. كان الدانتيل الفضي يلمع مع كل لمسة.
«قد تكونين محقّة. إنه يليق بكِ كثيرًا.»
«أوه، شكرًا لك.»
جعلت كلماته المفاجئة وجنتيّ تحمران. كان إطراؤه مباشرًا ولطيفًا ففاجأني تمامًا. فنحن الكوريين لسنا معتادين على هذا النوع من المجاملات الصريحة!
هل كان ذلك من وحي خيالي، أم أن وجنتي ريشت كانتا محمرّتين قليلًا أيضًا؟ ربما كان النسيم البارد هو السبب في احمرار وجهه.
«اهدئي، اهدئي!»
كان عليّ تهدئة قلبي المتسارع. والخوف من الإحراج في هذا الجو دفعني للحديث عن أي شيء، حتى لو كان تافهًا.
«سيكون هناك الكثير من النبلاء في حفل الاستقبال، أليس كذلك؟ إنها المرة الأولى لي، لذلك أشعر ببعض التوتر.»
وبينما أحاول تبديد قلقي بدأت أتكلم بلا هدف. كنت بحاجة لكسر هذا الصمت الثقيل.
«في قاعة الاستقبال، من الأفضل أن تبقي مع ريليا، لكن إن حاول أحدهم جرّك إلى حديث لا طائل منه يمكنك تجاهله. سأسمح بذلك.»
قال ريشت ذلك بملامح باردة وهو يدير وجهه بعيدًا. بدا أن القاعة لن تضم ضيوفًا مرحّبًا بهم فقط.
«مع ذلك، الحضور كلهم نبلاء، أليس كذلك؟»
«نعم.»
«لكن كيف يمكنني تجاهلهم؟»
«لا بأس. لا أظن أن هناك من هو أهم منكِ في ذلك المكان.»
«…حسنًا.»
كانت صياغته غريبة قليلًا. سبق أن شعرت بهذا من قبل، لكن ريشت كان يملك أسلوبًا في الكلام يجعلني أشعر بعدم الارتياح.
«إذا واصلتَ التصرف هكذا، قد تُساءُ الفهم.»
ألم يكن من النوع الذي يضلل الآخرين دون قصد بسبب أسلوبه العفوي؟ شرير غير مقصود! أعني، هو وسيم إلى هذا الحد، كيف لا يحدث ذلك؟ ولحسن الحظ، أنا مجرد متقمّصة شخصية؛ وإلا لكنت عشت في وهمٍ أظن فيه أنه معجب بي الآن.
«إن كنت بهذه الوسامة، فعلى الأقل انتبه لما تقول.»
لم أجد ما أردّ به، ولم يتحدث ريشت مجددًا. بدلًا من ذلك، قرّبت وجهي من النافذة. كان الضوء خافتًا وهذا أمر جيد، لكنني ما زلت أشعر بحرارة وجنتيّ.
«آه، لو كنتُ إيديل فعلًا، لكنتُ جررت ريشت إلى قاعة الزفاف مباشرة، ثم إلى مراسم ختم الزواج الرسمية بعدها.»
لحسن الحظ، لم يبدأ ريشت حديثًا جديدًا. ومن بعيد، ظهرت أضواء متلألئة. كانت الأضواء لافتة للنظر من مسافة بعيدة تحيط بمدخل القاعة الرئيسية.
كانت العربات مصطفّة حول القاعة. ولم يسعني إلا أن أُدهش من العدد الهائل للخيول والعربات المتراصة أمام الأبواب الضخمة للقاعة.
«هاه؟ هل علينا الوقوف في طابور للدخول؟»
ما إن خرج السؤال من فمي دون تفكير، حتى أدركت أنه غير منطقي أصلًا. فهو ضيف الشرف في الحفل. لماذا قد ينتظر؟
«لا.»
أجاب ريشت على سؤالي الساذج بابتسامة لطيفة، فخفق قلبي مجددًا.
«آه، صحيح. بالطبع، سموّك هو ضيف الشرف.»
دخلت العربة بسلاسة، وكانت نظرات النبلاء المنتظرين في الخارج كالسِهام، موجّهة نحوي ونحو ريشت. حتى أولئك الذين كانوا يتلصصون من خلف الستائر لرؤية الوافدين الجدد كانوا واضحين.
بلعت ريقي.
التوتر الذي خفّ قليلًا عاد ليجتاحني، مولّدًا إحساسًا زائفًا بالإثارة.
«لا بد أن مارين ستصل قريبًا.»
من دون أن أشعر، تركت الفستان الذي كنت أقبض عليه بإحكام. قبضت يدي ثم بسطتها مرارًا. لقد حان وقت الصعود إلى المسرح.
بدأت العربة تبطئ تدريجيًا، وسُمع صوت السائق وهو يوقف الخيول. وأعلن صوت المعلن قرب الباب أن الوقت قد حان للنزول.
فتح ريشت الباب أولًا، ومدّ يده نحوي.
«تفضّلي.»
«حسنًا.»
وأخيرًا، بدأ حفل الاستقبال الترحيبي بريشت.
⸻
«وهكذا، قامت إيديل بالتحقيق في ما يجري مع الأمير ريشت، كما تولّت إدارة الحدود نيابةً عن الدوقة ميليس!»
«أوه نعم، لم يكن الصعود إلى قمة البرج ثلاث مرات يوميًا أمرًا سهلًا، لكن…»
«أنتِ مذهلة حقًا!»
ضحكات خافتة.
كانت عودة ريشت غلاسياس لودينسا، أمل إمبراطورية لودينسا، سببًا حقيقيًا لاحتفالٍ يستطيع الجميع الاستمتاع به بلا قيود لأول مرة منذ زمن طويل. أقيم حفل اليوم في القصر فقط لكنه سيتبعه مهرجان ترحيبي في أرجاء العاصمة ليكون يومًا من البهجة يعمّ الإمبراطورية بأكملها.
وحين غادر ريشت القاعة للقاء الإمبراطورة، تحوّل الجو إلى هذا الشكل فور أن وقفت ريليا إلى جانبي.
«يبدو أن الناس فضوليون جدًا بشأن أخبار البرج.»
كان في القصر سحرة، لكن أجواءهم كانت مختلفة عن سحرة البرج. فمعظمهم من النبلاء، ويؤدون مهام إدارية لصالح القصر، ولذلك كانت ملابسهم تشبه ملابس الموظفين الإداريين العاملين فيه.
وربما لهذا السبب، بدا سحرة البرج، المعروفون بارتداء العباءات السوداء والعمل في قمة البرج، غامضين في نظر النبلاء العاديين.
«مع أنني لست غامضة فعلًا، فأنا واضحة تمامًا بشأن هويتي.»
كانت مارين إسفين غراسي الدوقة الكبرى، من كبار النبلاء، لكنها نادرًا ما تكشف عن هويتها، وربما كان ذلك سببًا في أن النبلاء العاديين قلّما أُتيحت لهم فرصة التحدث مباشرة مع سحرة البرج.
ولعل هذا ما جعل السيدات النبيلات، اللواتي اقتربن مني بحجة تحية ريليا يلمعن بفضول واضح في عيونهن وهن يبدأن الحديث معي.
«ومع ذلك، ردود أفعالهن ودّية إلى حد كبير.»
وبفضل ذلك، استطعت الاندماج بسهولة وسط هؤلاء السيدات الودودات. ومن دون أن أشعر، كانت ريليا تراقب محيطي بعد أن ابتعدت قليلًا، لكنها بدت مرتاحة نوعًا ما بسبب الأحاديث الهادئة والجو المتناغم.
كانت ريليا تكتفي بتبادل أحاديث مهذبة مع السيدات اللواتي يبدين حسن السلوك، وترتشف من كأس أُعدّ لها. وبدا أنها فعلًا غير مهتمة بالحفل، رغم ادعائها العكس.
وكذلك كان لوكاس. بدا أن له نصيبًا لا بأس به من اهتمام السيدات، إذ رقص على مضض بضع مرات ثم انسحب بابتسامة محرجة، وانشغل بالحديث مع فرسانه.
ورغم أنه جاء بصفته مرافقًا لي، بدا أن لوكاس، مثل ريليا، لم يجد وقتًا لنفسه بسبب اهتمام الآخرين. كان مشهدًا طريفًا أن أراهما كأخوين عاديين لم يكونا مشغولين إلا بالاعتناء بي. وجعلني ذلك أبتسم دون أن أدري.
عادةً ما تستغرق التحضيرات لحفل القصر عدة أشهر. ومع ذلك، كانت الاستعدادات مذهلة رغم أن الوقت المتاح لم يتجاوز شهرًا واحدًا. فخامة الحفل تجاوزت كل ما رأيته في الأفلام. كما لفتت انتباهي أدوات الإضاءة السحرية المنتشرة في المكان. ورغم أن الأدوات السحرية ثمينة، فإن رؤيتها مبعثرة هنا كالحصى كان أمرًا مدهشًا. حقًا، هذا هو قلب الإمبراطورية.
كانت قاعة الاستقبال قد امتلأت بالنبلاء المدعوين، وكان موظفو القصر في حركة دؤوبة لإدارة هذا الحدث الذي لم يُقم منذ زمن طويل.
كان موعد دخول الإمبراطورة يقترب. ستلقي نخبًا احتفالًا بعودة ريشت. وسيستمر هذا الجو الاحتفالي طوال المساء.
وفي خضم هذا الصخب، لم أستطع تجاهل الإحساس بأن الوقت قد حان… لحدوث شيء ما.
التعليقات لهذا الفصل " 38"