بعد انتهاء اجتماعنا القصير الطويل في آنٍ واحد، تلقّينا ـــ أنا وريشت ـــ إرشاد خَدَم قصر الأمير، ثم صعدنا مرة أخرى إلى العربة لننتقل إلى الجهة الأخرى. كان القصر مترامي الأطراف لدرجة أن التنقل بين أجزائه يحتاج عربة وإلا استغرق وقتًا طويلًا.
“على الأقل دوار الحركة تحسّن قليلًا.”
بعد الضغط الذي مررت به في القاعة السابقة، أصبحت اهتزازات العربة الآن أشبه برحلة خفيفة في مدينة ألعاب. وبعد برهة، توقفت العربة.
“واو…”
وقف لساني مشدوهًا أمام المشهد الساحر.
فالقصر الرئيسي كان ذا طابع مهيب، بأخشابه الداكنة وزخارفه الذهبية. أما قصر الأمير الخاص بريشت فكان مختلفًا تمامًا—مواد مختلفة، وجو هادئ مصقول، وكأنه يمثل ذائقة الجيل الشاب في هذا العالم.
سألني ريشت:
“ما رأيك؟”
“ماذا؟”
“هل يعجبك قصر الأمير؟”
“أوه، جميل… لكن بطريقة مختلفة.”
ولماذا كان مهتمًا برأيي في القصور؟ حتى بعد إجابتي العادية، بقيت نظراته تنتظر تعليقًا إضافيًا. فاضطررت للتوضيح:
“أقصد… جمال هادئ. ليس مبهرجًا لكنه راقٍ ومتقن.”
”…أفهم.”
أخيرًا، اكتفى ريشت بالإيماء برضا، بل وابتسم ابتسامة خفيفة.
ما به هذا الرجل؟
عندما كنت أراقبه وهو نائم لم ألاحظ هذه التصرفات، لكن يبدو أن في شخصيته بعض الغرابة.
وبينما نترجل من العربة، كان الخدم في استقبالنا، وكأن القصر بأكمله أصيب بحالة استنفار لعودة الأمير.
يبدو أن لذة السلطة أن تجد الجميع ينتظرونك.
رافقني ذلك الشعور القديم—حين كنت أنتظر بداية الاجتماعات في حياتي السابقة.
أما ريشت فمرّ من بينهم بهدوء تام، وكأنه تعوّد على ذلك، ودخل عبر أبواب قصر الأمير الواسعة. سرت خلفه بصمت، وأنا ألتهم المكان بنظري.
داخل القصر، استقبلتنا سيدة في منتصف العمر، تبدو مسؤولة القصر أو كبيرة الخدم. انحنت فور رؤيته، وتبعها جميع الخدم الآخرين بانحناءة موحدة. كان المشهد مهيبًا ومختلفًا عن تحية الفرسان.
“مرت فترة طويلة. آمل ألا تكون قد واجهت أي متاعب.”
“يا صاحب السمو، نحن في غاية السعادة لرؤيتكم تعودون بصحة جيدة.”
استقبل ريشت تحيات بسيطة ومحترمة أخرى.
“لقد مررتم برحلة طويلة. هل ترغبون بالذهاب إلى جناحكم مباشرة؟”
بدت ابتسامتها مشرقة وسعيدة بعودته.
“جيد.”
آه… لهذا لم يتفاجأ أحد عند رؤيتي. يبدو أنهم تلقوا شرحًا كافيًا حول هويتي. وأنا ممتنة لذلك بالفعل.
“اسمحي لي بمرافقتكِ، أيتها الساحرة.”
قبل أن تتحدث كبيرة الخدم، تقدمت نحوي خادمة بشعر بني داكن. لم أرها سابقًا، لكن ملامحها كانت مألوفة بطريقة ما.
“أوه، شكرًا لك.”
هل يفترض أن أتبعها؟ حاولت النظر إلى ريشت لأستدل برد فعله، لكنه كان يواصل حديثه مع كبيرة الخدم. وبالمنطق، سيبقى مشغولًا الآن بعد أن عاد لمنصبه كأمير بعد غياب عامين.
تركتُ المشهد خلفي، وتبعتُ الخادمة صعودًا عبر الدرج.
“سأرافقكِ إلى الطابق الثالث.”
تذكّرت بشكل غامض أن بعض الخدم في القصور ينتمون لعائلات نبيلة. وهذا يفسر لماذا كانت حتى خطواتها أنيقة. شعرها البني الداكن كان مربوطًا بعناية، وثوبها مرتب بطريقة لا تبدو عادية.
“تفضلي بالدخول.”
لم نمشِ كثيرًا بعد الوصول للطابق الثالث حتى توقفت أمام باب غرفتي. كان الباب مزينًا بجواهر زرقاء، متناغمة مع تصميم القصر.
“واو…”
كنت أتوقع غرفة واسعة، لكن المساحة التي رأيتها كانت أبعد من أي خيال. ربما أكبر بعشر مرات من شقتي الصغيرة في حياتي السابقة، تلك التي كنت أدفع إيجارها بالكاد.
أن أقيم في غرفة كهذه؟ إنه أشبه بالحلم.
“هل… هل يُسمح لي بالعيش هكذا حقًا؟”
دخلت ببطء وأنا أتفحص المكان. سرير ضخم يمكنني التدحرج فوقه خمس مرات دون السقوط، أغطية تبدو ناعمة وفاخرة، طاولة عند النافذة مع باقة زهور جميلة… وكل شيء ينطق بالفخامة.
كأنهم يحققون لكِ حلم السكن الأوروبي المثالي.
تأثرت لدرجة أنني نسيت للحظة أنني في قلب أخطر مكان في القصر.
“إن احتجتِ شيئًا، اسحبي هذا الحبل.”
كنت مأخوذة بالمنظر لدرجة أنني اكتفيت بهز رأسي.
“لا بد أنكِ متعبة. سنزوركِ في وقت العشاء. ارتاحي جيدًا، أيتها الساحرة.”
“حسنًا… شكرًا.”
ابتسمت الخادمة بانحناءة رقيقة، واضح أنها تعاملني كصاحبة مقام. وأنا، كمواطنة بسيطة، لم أعرف كيف أتعامل مع ذلك.
لكنني كنت ممتنة.
“أخيرًا… سأرتاح وحدي!!!”
ألقيت العباءة عن كتفي واندفعت إلى السرير الضخم.
“ياااه… ناعم جدًا!”
السرير كان قطعة سحابية من الراحة، والفراش دافئ بطريقة لا تُصدق. بالتأكيد أفضل من فراش البرج—ربما لأنه كان مخصصًا للمبتدئين هناك.
“حسنًا…”
وأنا مستلقية، بدأت أحدق في زخارف السقف بذهول، أفكر في ما ينتظرني.
القصة الحقيقية ستبدأ الآن. أو بالأصح، قد بدأت بالفعل. مجرى الأحداث تغيّر لسبب ما، لكن بما أن ريشتر قد استيقظ…
ذكرت ميليس التحقيق في الصفة الفريدة…
بصراحة، قدرتي الفريدة لم تصلح لشيء سوى تقليل خطر اللعنات. لا هجوم، لا دفاع… قدرة ضبابية بلا فائدة كبيرة.
في النهاية، لم يكن أمامي سوى حل واحد:
“سيفينا.”
هي الأكثر فعالية. وهي التي كانت تنقذ ريشت مرارًا، وتدعمه، وتحرف عنه الأخطار.
لكن… كيف أعثر عليها؟
“القصر…”
صحيح. القصر أسهل من البرج. هنا، الناس أكثر، والارتباط بالمعبد أقوى—وهذا ما أحتاجه.
“وقد يساعد ذلك في إيجاد وظيفة أيضًا.”
في حياتي السابقة، تعلمت شيئًا مهمًا: العلاقات أهم من السيرة الذاتية. خصوصًا عند تغيير المسار الوظيفي.
“وهنا… عدد كبير من الاشخاص ذوي النفوذ.”
ربما وجودي في القصر سيكون ذا قيمة أكبر مما ظننت. بمجرد تغيير طريقة التفكير كان الحماس يتسلل إليّ ببطء.
لكن يبدو أن الاستلقاء والتفكير كانا وصفة مثالية للنوم. فقد غفوت دون أي خطة واضحة—كالعادة، التفكير فوق السرير مهمة مستحيلة…
⸻
-ˏˋ ━━━━━━ ʚɞ ━━━━━━ ˊˎ-
“هاه… كم نمت؟”
عندما فتحت عيني، كانت الغرفة شبه مظلمة. ربما حان وقت العشاء… أو تجاوزناه.
“يا الهي… أنا جائعة جدًا.”
بعد يوم كامل من التوتر، ومع الراحة الآن، كان بطني يصرخ. لا أعرف طريقة تقديم العشاء هنا، لكن يبدو طلبه سهلًا.
مددت يدي وسحبت الحبل بجانب السرير. وبعد لحظات، دخلت الخادمة ذات الشعر البني وهي تطرق بخفة قبل فتح الباب.
“هل استدعيتِني يا الآنسة إيديل؟”
“نعم، أنا…”
ثم حدث الأمر.
غرررروووووووول…
هدير مدوٍّ… من بطني.
”…”
”…”
صمت قاتل.
يا للروعة… الانطباعات الأولى مهمة جدًا، كما تعلمين يا معدتي العزيزة.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 18"