1
من بعيد، دق جرسٌ ناعمٌ مبهج. وفي اللحظة ذاتها، تبدد ذلك الجو الخانق الذي كان يلف القاعة.
صرخت كراسي الخشب الثقيلة وهي تُدفَع على الأرض، تتبع حركات الطلاب المتسارعة وهم يرتدون الزي الأسود الموحد.
جلَسَ رجلٌ في آخر القاعة، وضع ريشته جانبًا، ثم رفع ورقة اختباره ليتأمل إجاباته المُنجزة بكمال للمرة الأخيرة.
وفجأة… طرق خفيفٌ على طاولته.
التفت الرجل ببطء نحو مصدر الصوت.
وقف أمامه فتى لم يره من قبل، متلعثمًا، عيناه مثبتتان على ورقة الاختبار، وشفتاه تتحركان بخفة.
“ماذا تريد؟”
عند سؤاله، احمرّ وجه الفتى الشبابي قليلًا. تجنب التواصل البصري، وبدأ بفرك رقبته بعصبية.
أشار الرجل إلى ورقة الاختبار على مكتبه
“… هل تريد الورقة؟”
أومأ الفتى مرارًا. بين أصابعه الصغيرة، تمايلت أوراق اختبار أخرى يُفترض أنه جمعها من زملائه.
“تطلب مني تسليمها؟”
رفع الرجل حاجبه الأيمن، محدقًا في الفتى النحيل الذي بدا مترددًا. أجاب الفتى بإيماءة أكثر حزمًا هذه المرة.
“انتظر لحظة.”
قال هذا ثم بدأ بكتابة اسمه في أعلى الورقة. ريشة البجعة في يده تحركت بدقة وأناقة، كأنها ترسم لوحة فنية.
*ريتشارد سبنسر.*
بينما كان يخط اسمه بخط متصل أنيق،
زوج من العيون الغريبة اللون تتبعت بحرص حركة الحبر.
“ريتشارد سبنسر…”
همس الفتى بهمس بالكاد يُسمع، كنسيم عابر.
من خلال النوافذ الزجاجية الباهتة التي تملأ الجدار، تسلل ضوء الظهيرة الكسول لأوائل الصيف.
في أول يوم من يونيو، أضاءت الشمس الذهبية وجه الرجل المستند بذقنه على كفه.
تسلق نظر الفتى ببطء من تفاحة آدم التي تتحرك عند حديث الرجل، حتى توقف عند الذقن…
هناك حيث تلتمع نقطة تجمع الضوء والظل، مشكلة ذلك الخط الفكّي الحاد والصلب.
“هاك.”
عند سماع الصوت، أطبَق الفتى شفتيه المتراختين.
عندما مدّ له ريتشارد الورقة، أخذها بيدين مرتعشتين، مما جعل زاوية الورقة الرقيقة تتجعد بؤسًا.
“شكرًا لك.”
بعد كلمة الشكر القصيرة من ريتشارد، ساد صمتٌ وجيز. ثم التفت تلك الشخصية الصغيرة بسرعة ومشت نحو منصة الأستاذ.
بينما كان يرتب الأوراق بحرص، حاول الفتى إخفاء وجنتيه المحمرتين.
رغم أن الأستاذ بجانبه قال شيئًا ما، إلا أنه ظل شفتيه مغلقتين، مكتفيًا بالإيماء.
من دون وعي، ضيق ريتشارد عينيه.
وجه دائري ناعم الملامح، وتجعّدات بنية فاتحة تتدفق على جبينه الشاحب.
وتلك العينان اللتان تبرزان بوضوح
قزحية بنية محمرة، ناعمة كأوراق الخريف المُذهبة.
وأخرى بنفسجية رمادية باهتة، تشبه غيومًا غارقة في المطر.
هل كان مساعد البروفيسور “تشارلز دودجسون” دائمًا بهذا الجمال؟
بينما كان يتساءل، إندفع صوتٌ ساخر مليء بالمرح من خلفه
“ريتشارد، تهانينا على انتهائك من آخر امتحان.”
“…غراهام.”
عندما تعرف على الصوت، همّ ريتشارد سبنسر بفرك صدغه الأيسر لكنه توقف في منتصف الحركة.
الصداع الذي لازمه خلال الامتحان بدا يزداد سوءًا.
قام باعدال قامته بتأخر طفيف، ثم أجاب
“ما الذي أتى بك هنا؟”
“أوه، ريتشارد! أليس التحية أولى؟ حتى متسول أمام قصر سبنسر في ويستمنستر سيلقى ترحيبًا أدفأ!”
“هذا محتمل. إذا كنت تتوق لهذا النوع من الاهتمام، فزر القصر متى شئت.”
“هل يعني هذا أنك ستستقبلني بكوب شاي؟”
لم يكن لدى ريتشارد أدنى رغبة في تحمل ثرثرة لا معنى لها تذكره بنسبه، خاصة في قاعة المحاضرات.
والأمر زاد سوءًا عندما يكون الطرف الآخر هو غراهام هارولد، الذي يبدو دائمًا متحمسًا لإخباره بأخبار لايدن.
“غير مرجح. الكونتيسة سبنسر، التي تتطلع إلى مركيز وينشستر المستقبلي، ستتكفل شخصيًا بترحيبك.”
دفع كرسيه للخلف بلا صوت ووقف بأناقة.
رغم أن كلماته كانت بعيدة عن اللطف، إلا أن حركاته تنضح بالرقة الأرستقراطية التي رُبي عليها منذ الطفولة.
أمامه، انفجر الرجل ذو الشعر الفضي غراهام هارولد في الضحك.
شيء ما في التناقض الغريب بين صلابة ريتشارد وأناقته الصامتة أضحكه.
“حتى لو تدحرجت على الأرض كل يوم كالكرة في الرجبي، يبدو أن سبنسر سيظل سبنسر!”
(م/م:رياضة الرجبي بالانجلزية Rugby
دي هي👇🏼)

قال هذا بنبرة مبتهجة وهو يمعن النظر في ريتشارد من رأسه إلى قدميه.
كالعادة، كان ريتشارد يرتدي بدلة رسمية مُحاكة بدقة متناهية ، لا تشوبها شائبة.
قميصه الأبيض وسترته السوداء كانا نقيين بلا تجعد واحد، وجواربه مشدودة برباطات حتى لا يظهر أي ثني عند الكاحلين، بينما كانت أحذيته المصقولة تعكس سقف القاعة كالمرآة.
مظهره كان التجسيد المثالي لما تطلبه المدرسة من طلابها خلال الامتحانات.
طوال شهر الامتحانات الذي بدأ بعد عطلة عيد الفصح في أبريل، التزم ريتشارد سبنسر بقواعد الزي دون أي تهاون.
تناوب غراهام نظره بين زهرة القرنفل الحمراء المثبتة على طية صدر ريتشارد اليسرى، ووجه ريتشارد نفسه.
حتى تلك الزهرة الصارخة بدت متناغمة مع لون شعره، وكأنها لم تُزرع هناك عبثًا.
“هذا القرنفل يليق بك جيدًا.”
ألقى ريتشارد نظرة سريعة على الزهرة المعلقة ببدلته، ثم أطلق سخرية خفيفة.
في اليوم الأول من الامتحانات، يُعتاد الطلاب على تثبيت قرنفل أبيض، ثم زهري في الأيام التالية، وأخيرًا قرنفل أحمر قانٍ في اليوم الأخير.
تلك عادة قديمة في غرينتبريدج.
يُقال للطلاب الجدد أنها ترمز لتعمق المعرفة المتدفقة من القلب خلال الامتحانات.
“ليست سوى إجراءات شكليّة مُتعبة.”
عند رده المتجاهل، هزّ غراهام رأسه بسخرية. رغم كلام ريتشارد، إلا أن غراهام شعر أنه يفهم سبب اهتمام ريتشارد المفرط بمظهره.
“ريتشارد، إذا كانت شكليّة مُتعبة، فلماذا تبذل كل هذا الجهد في أناقتك؟”
“لأنني، على عكس الآخرين، أبدو رائعًا بها.”
آه، بالطبع! هذا هو ريتشارد سبنسر.
مُولع بذاته، خبير الأناقة الذي يعيش ويتنفس من أجل الفخامة.
كاد غراهام أن يختنق من كتم ضحكته عند سماع الرد.
لكن كان لغراهام سبب مهم لبحثه عن ريتشارد اليوم.
تذكر هدفه، فأصبحت نبرته أكثر جديةً بشكل خفي
“ريتشارد، هل تخطط للبقاء في غرينتبريدج حتى التخرج؟”
“……”
“ألستَ تنوي العودة إلى لايدن؟”
غرينتبريدج كانت مدينة أكاديمية، رمز الفكر في إنغرينت، تبعد يومًا كاملًا بالعربة عن لايدن.
كلية كرايست تشيرش التي يدرسون بها كانت واحدة من عدة مؤسسات في المدينة.
معظم الطلاب كانوا ورثة نبلاء تخرّجوا من مدارس النخبة، مع قبول عدد قليل من الموهوبين من عامة الشعب.
بسبب الرسوم الباهظة والجدول الدراسي المُنهك، أقل من نصف الطلاب المسجلين يتمكنون من التخرج.
في الواقع، لم يكن ريتشارد ولا غراهام بحاجة إلى شهادة جامعية.
لأعضاء العائلات النبيلة الثلاث الكبرى في إنغرينت دوقات ديفونشاير، وإيرلات سبنسر، ومركيزات وينشستر لم يكن التعليم الرسمي ذا أهمية كبيرة.
على سبيل المثال، دوقات ديفونشاير لم يرسلوا وريثهم ديموس كافنديش إلى الجامعة. حتى الطفل غير الشرعي الذي تبنوه قبل سنوات تلقى تعليمه خاصًا في عقارهم في كينسينغتون، تحت إشراف مدرسين مختارين. كان يُعتبر أكثر كفاءة جلب المدرسين مباشرة إلى القصر.
في الحقيقة، كان معروفًا أن هذه الإجراءات تتخذ لمنع أبنائهم من الاختلاط بأقل شأنًا.
عائلة سبنسر لم تكن استثناءً.
بينما أرسلت عائلة وينشستر المعروفة بصورتها المتواضعة والقريبة من العامة أبناءها إلى غرينتبريدج لأجيال، ظلت عائلتا ديفونشاير وسبنسر متعاليتين وغير قابلتين للتفاوض.
ريتشارد كان أول من كسر هذه القاعدة.
رفض التعليم المنزلي، واختار بنفسه الالتحاق بغرينتبريدج جنوب شرق لايدن، مما جعله الابن الشاذ في عائلة سبنسر.
(م/م:الشاذ هنا ما بقصدون لي فبالكم الشذوذ معناه شيء بخرج عن المعتاد ويميل لشيء عكس المعروف عليه )
رغم أن قراره بالالتحاق بغرينتبريدج لم يكن بدوافع أكاديمية في البداية، إلا أن ريتشارد سبنسر استفاد إلى أقصى حد من خياره.
على الأقل، تأكد أنه لن يُستثنى من قائمة الخريجين.
الآن، مع انتهاء برنامجهم الدراسي الثلاثي، كان هو وغراهام يستعدان للتخرج.
“… لست متأكدًا.”
ابتسامة ريتشارد تلاشت عند إجابته.
أضاف غراهام بتعبير دلالي
“ريتشارد، هذه المرة… لن تستطيع تجنب الأمر.”
___________________________________
تفاعلو بليز 🥺💞🦋
حسابي بالواتباد :@luna_aj7
حسابي بموقع هيزو مانغا:luna_aj7
حسابي بالانستغرام :luna.aj7
Chapters
Comments
- 1 - اللقاء الاول منذ 6 ساعات
- 0 - ملاحظة مهمة جدا 2025-12-08
التعليقات لهذا الفصل " 1"