لم تتمكن مونيكا من النوم مبكّرا، إذ قضت الليل كلّه ساهرة.
لم يكن السبب أنّ السرير غير مريح، بل على العكس تمامًا؛ كان أدفأ وأهنأ سريرٍ اضطجعت عليه طوال أكثر من عشرين عامًا من عمرها. لكنّ النوم الهادئ استعصى عليها.
وأخيرًا، نهضت مُرهقة، وتوجّهت مجدّدًا إلى الحمّام لتغتسل. فتحت الصنبور وانتظرت قليلًا، حتى بدأ الماء الدافئ يتدفّق شيئًا فشيئًا.
في وقتٍ مضى، ربما كانت لتشعر بانتعاش جديد أمام هذا الدفء، لكنها الآن لم تجد لذلك أثرًا.
حين ذهبت إلى المطبخ في الصباح الباكر، بادرتها الخادمات بالتحيّة.
– “أهلًا بكِ، آنسة معلّمة.”
وكانت من بينهنّ ماريا، التي رأتها مونيكا بالأمس وعرفت اسمها، وقد عرضت عليها مقعدًا إلى مائدة المطبخ.
رمقت مونيكا الخادمات بطرف عينها، فإذا بهنّ يتناولن إفطارهنّ وهنّ جالسات في ركن من المطبخ، لا يحملن سوى أوعية خشبيّة صغيرة. لاحظت ماريا نظرتها، فابتسمت قائلة:
“هذا أسهل علينا، فنحن نأكل بسرعة ولدينا الكثير من العمل.”
قالت مونيكا:
“أشعر وكأنّي أزيدكم عبئًا…”
فردّت ماريا بمرح:
“إن كان الأمر كذلك، فتناولي طعامكِ بسرعة، فهذا أيسر لنا.”
كانت ماريا ذات طبع مرح، وكلماتها بسيطة لكن مريحة.
بعد أن أنهت مونيكا إفطارها من الحساء الدافئ مع الخبز الأبيض، سألت ماريا عن مكان السوق الأقرب.
“وما الذي تحتاجينه؟”
“مشط شعر… وأشياء بسيطة أخرى.”
“حسنًا.”
كانت قد أعدّت أمتعتها الكبيرة، كالثياب، لكنها افتقدت بعض المستلزمات الصغيرة. إضافة إلى أنّ الشمس كانت حارّة، فرأت أنّه من الجيّد شراء قبّعة قشّية. فالقبّعات التي ارتداها البحّارة في الميناء لم تبدُ غالية الثمن.
حين سمعت ماريا بما تنوي شراءه، قالت:
“سآخذكِ إلى محطة القطار! هانس!” ثم خرجت من باب المطبخ ونادت بصوت عالٍ.
“ماذا هناك؟”
جاء شاب وسيم ووقف أمام الباب الجانبي، وقد بدا عليه الانشغال. كان يضع قبّعة قشية على نحوٍ فوضوي فوق شعره القرمزي، وقد علق بها بعض الأوراق، فيما غطّت الأوساخ يديه؛ كان من السهل إدراك أنّه بستاني.
قالت ماريا:
“هذه الآنسة مونيكا، المعلّمة الجديدة لابن السيّد. هل ستذهب إلى السوق لاحقًا؟ اذهبوا معًا.”
أطلّ هانس من فوق كتف ماريا، وهمّت مونيكا بالاعتذار، لكنّه ابتسم وقال أولًا:
“سنغادر قريبًا، فتفضّلي إلى البوابة الرئيسية للقصر.”
هزّت مونيكا رأسها دون تفكير. وفيما بعد، أدركت أنّه كان أمرًا جيّدًا؛ فالطبيب الذي سيزور مارتينيل قال إنّه سيصل قرابة الظهر، ففكّرت أنّها ستذهب وتعود سريعًا إن سارت مع شخص يعرف الطريق.
ارتدت مونيكا أكثر ثيابها راحة: فستانًا ذا قطعة واحدة كانت قد لبسته وهي في الثامنة عشرة، يوم غادرت الميتم للعمل في مهمّة تمريض مع الجيش.
كان رماديّ اللون، باهتًا، وقديمًا من خمس سنوات، لكنه متين كما هي عادة ثياب الأيتام. يمكن طيّ أكمامه للأعلى أو الأسفل، وطول ذيله ينتهي عند ربلة الساق، مما يتيح الحركة بلا تكلّف.
سرحت شعرها في ضفائر، وعندما يحين موعد لقاء مارتينيل، ستجمعها وتلفّها على شكل كعكة.
حين التقت هانس عند مدخل القصر، اتّسعت عيناه.
“كنتُ أظنّكِ معلّمة…”
“في الواقع، لستُ معلّمة، بل ممرضة. الجميع يناديني بذلك من باب المجاملة، فبإمكانك التحدّث معي بحرية.”
لوّح هانس بيده وقال:
“لا، ليس هذا ما أعنيه! لم ألحظ الأمر حين رأيتكِ أوّل مرّة، لكنكِ تبدين شابّة جدًّا.”
احمرّت وجنتا البستاني وهو يتكلّم. أحاديثهما في الطريق إلى السوق كانت عاديّة، لكن بعضها حمل معلومات أفادَت مونيكا.
قال هانس:
“على ذكر ذلك، أنتِ في عمر الابنة الكبرى في هذا البيت! إذن لستِ صغيرة جدا.”
“هاها، أحقًّا؟”
“نعم. حتى الخدم يتهامسون أنّ الآنسة رييلا ستصبح عانسًا قريبًا!”
أأنا الآن عانس كذلك؟ تساءلت مونيكا في سرّها، بينما أكمل هانس متباهياً بخطبة ريلا القادمة:
“لكن حماقتها ستنتهي قريبًا. سمعت أنّها ستخطب لرجل من أسرة مرموقة جدًّا. يقولون إنّهم رأوه من قبل، وهو أشقر وسيم…”
كان الخدم يتعاملون مع الأخبار السارّة لأهل البيت كما لو كانت تخصّهم، لكن مونيكا لم تشأ التعمّق في موضوع زواج رييلا، فسارعت إلى تغيير الحديث:
“تلك الورود جميلة للغاية، أظنني رأيتها لديكم في قصر موليه؟”
“أوه! هذه وردة مستوردة، غالية ونفيسة، لكن المدهش أنّ سيّدنا يزرع زهور توليب أغلى منها بكثير! تلك الزهرية الوردية… لا تُقارن بتوليبنا.”
ولحسن الحظ، لم يلحظ هانس أنّها غيّرت الموضوع، فأخذ يتحدّث طويلًا عن الحديقة، بينما واصلا السير في الأزقة الطويلة الضيقة. قال إنّ هذا الطريق هو الأسرع من القصر إلى السوق.
“العربات الفاخرة لا تأتي إلى هنا، فلا داعي للحذر أثناء المشي!”
“حسنًا.”
لكن، لا أظنّ أنّه ينبغي لي المجيء وحدي من هذا الطريق.
أخفضت مونيكا بصرها نحو الأرض. فقد تحوّلت الأزقّة إلى قذرة فور الخروج من الحيّ الراقي؛ حبال قديمة، نفايات، وأحذية ضائعة منذ زمن. امتزجت رائحة الملح الآتي من البحر برائحة العفن.
كان هانس يتجنّبها ببراعة، بينما أبطأت مونيكا خطاها.
قال هانس:
“سأذهب إلى الحدّاد لطلب مجرفة جديدة. هناك متجر عامّ لشراء المشط. إذا وافقتِ، نلتقي هنا ونعود معًا!”
“سيكون ذلك رائعًا. لكن لا تنتظر طويلًا ، قد أتأخر عنك.”
“لكنها زيارتك الأولى! السوق هنا معقّد، وفيه الكثير من السكارى… آه، لِمَ لا أرافقكِ؟”
لكن مونيكا رفضت بإصرار مرافقة الشاب، فقد أثقلها شعورٌ بأنه يُبطن اهتمامًا خاصًّا بها.
ظلّ يلوّح بيده بعنف حتى غابت عن ناظريه في الزقاق، فابتسمت بتكلّف ولوّحت بدورها.
“هفف.”
كان السوق مزدحمًا منذ الصباح؛ رجال يحملون الفواكه والخضار، وباعة يعرضون الأسماك المتكدّسة، وأرض مليئة ببقايا الخضار الذابلة وشظايا صناديق الخشب. كانت العربات تُدفع وسط الحشود بعجلة.
تفادتهم مونيكا سريعًا ودخلت المتجر العام، فاشترت مشطًا خشبيًّا وقبّعة قشّية، وبين أوعية زجاجية مليئة بالحلوى البيضاء الصغيرة وشرائط الحرير، التفتت لتعود، ثم توقّفت.
“هلّا أعطيتني ما يكفي من الشريط الأزرق لأربطه حول القبّعة؟”
“يا لذوقك الرفيع، آنستي!” قال صاحب المتجر مبتسمًا، وهو يرفع الشريط.
“ستون سنتًا!”
“هذا غالٍ!”
“ألا تعلمين أنّ شريط الحرير غالٍ؟”
بعد أخذ وردّ، أخذت مونيكا الشريط، وكان طويلًا بما يكفي لعمل زينة صغيرة.
“يا إلهي، ستغتنين!” تمتم البائع ضاحكًا من خلفها.
لكن مونيكا شعرت بالرضا رغم ذلك. كانت مفلسة حتى تقبض أجرها هذا الأسبوع، لكنها لن تضطر لإنفاق الكثير أثناء عملها في القصر، فذلك حسن.
وحين أتقاضى راتبي، سأصبح ثرية بخمسمئة سينغ*!
*العملة في هذه الرواية*
وضع البائع الشريط في كيس ورقي صغير، طُبعت عليه زهرة بنفسجية بحبر رديء الجودة، ومع ذلك أدخل السرور إلى قلبها.
ربما أستخدم هذا الظرف لإرسال رسالة شكر إلى ديانا على كتابة خطاب التعريف.
“ما العمل الآن؟”
تردّدت مونيكا عند الطريق الذي وعدت هانس أن تعود منه. لم تكن تكرهه، لكنها أرادت العودة من طريق آخر. فما زال الوقت باكرًا، وهناك متّسع حتى يحين موعد الغداء.
ترددت مونيكا قليلًا، لكنها قررت في النهاية أن تسلك طريقًا آخر. كانت قد طلبت منه أن يذهب أولًا حتى لا ينتظرها.
لكنها سرعان ما ندمت على ذلك. كلمات هانز لم تكن مجرد تحذير عابر؛ فقد ضلّت طريقها في الأزقة المتشابكة لسوق المدينة.
«أين هذا المكان…؟»
«عذرًا، كيف أصل إلى حي الأثرياء؟» سألت أكثر من شخص، لكن دون جدوى، إذ لم تستطع العثور على الاتجاه الصحيح. عندها فقط أدركت أن مدينة لا سبيتسيا قد بُنيت وأعيد بناؤها مرارًا، حتى صار تنسيق شوارعها مربكًا.
والطريق الذي سلكته أخذ يزداد قذارة. قبل لحظات فقط، كانت تمر بشارع مليء بالمطاعم، لكن الزقاق الذي انعطفت إليه، والذي بدا وكأنه يؤدي إلى الخارج، كان مصفوفًا بالحانات.
وفوق ذلك، لم يكن المكان آمنًا؛ فهناك سكارى ممددون على الأرض بعد ليلة شرب طويلة.
‘هذا لا ينفع… يجب أن أعود أدراجي.’
استدارت مونيكا، مقتنعة أن الرجوع من حيث أتت أفضل من الضياع بلا هدف. لكن في اللحظة التالية، اصطدمت بشخص ما بعنف.
«آه!»
دوّى الصوت، وتطايرت الشرارات أمام عينيها. سقطت مونيكا إلى الوراء وهي تصرخ بلا وعي، وقد ارتفعت تنورتها قليلًا.
أما الطرف الآخر، فقد بدا أنه تلقى الصدمة بقوة أيضًا، إذ تراجع مترنحًا واصطدم بالحائط. لم تستطع مونيكا أن ترى بوضوح، فاكتفت بالتمتمة: «أنا آسفة…»
«آه، أنا آسف، هل أنتِ بخير…»
لكن ما خرج من فمه بعد ذلك كان شتيمة قاسية:
«اللعنة، ما هذا بحق الجحيم…»
حاولت مونيكا النهوض، لكنها توقفت، تنظر أمامها بحيرة.
كان الرجل قوي البنية، ومع ذلك كان يستند إلى الجدار ويتمايل رغم أنه اصطدم بفتاة صغيرة مثلها. عندها فهمت مونيكا سبب ضعفه الظاهر.
‘رائحة الكحول…’
كان الموقف فوضويًا بحق.
‘اللعنة… كان علي أن أتعرض لهذا الحظ العاثر…’
لو كانت مونيكا القديمة، لأمسكت بأغراضها وفرّت في اللحظة التي سمعت فيها ذلك الصوت.
لكنها لم تستطع هذه المرة. فالرجل الثمل الذي يتشبث بالجدار ويتذمر… كان شخصًا تعرفه مونيكا.
شعر أشقر يلمع حتى وسط ظلال الزقاق، وكتفان عريضان على نحو غير مألوف. حتى وهو منحنٍ، لم تخفَ قامته الطويلة.
«لويس؟»
عند سماع ذلك، رفع الرجل رأسه ونظر إليها. عينان زرقاوان عميقتان، مألوفتان كبحر الليل…
“من أنتِ؟”
“وماذا تريدين مني؟”
فتحت مونيكا فمها، مذهولة لا تعرف بمَ تجيب.
᯽᯽᯽᯽᯽᯽᯽᯽
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 9"