كان إكليل الزهور ثقيلاً كقطعة من الحديد المصبوب، فخرج صوت مونيكا مخنوقاً كأن أحداً يضغط على عنقها.
“لماذا تفعلين بي هذا…….”
أرادت أن تقول: لماذا تعاملينني هكذا؟ لكنها لم تستطع. لم تجب ريلا، بل عادت لتعبث بصدرية فستان مونيكا وتصلحها بيديها.
ثم، وكأن ضيقها من عجز أصابعها عن التقييد غلبها، خلعت قفازيها القطنيين.
كانت القفازات محكمة النسج، فاخرة، مصنوعة لتقي بشرتها من الشمس. وما إن نزعتها حتى انكشفت يدان بيضاوان في غاية النعومة، في تناقض صارخ مع يدي مونيكا اللتان قسا عليهما العمل تحت الشمس الحارقة.
قالت ريلا فجأة، كمن يباغت خصمه:
“حين حملني ذلك الرجل بين ذراعيه.”
كان صوتها خافتاً، ونظرتها غائمة قذرة.
أدركت مونيكا على الفور أنها تقصد ما فعله غارسيا قبل قليل.
“ارتبكت، لكنني كنت سعيدة. أن يرفعني أمام الناس، كان أشبه بإشارة صريحة إلى خطبة، حتى لو كان محض صدفة. أتعلمين يا مونيكا؟”
“…….”
“في تلك اللحظة، أحببته حقاً.”
لم تفهم مونيكا شيئاً. كان صوت رييلا رتيباً، بلا نبرة ولا علو، كأنما يخرج من حلم بعيد. أصاب مونيكا الدوار.
“هو رجل يكفي لأن تقع في حبه أي امرأة، لكنني حتى الآن لم أشعر تجاهه بشيء سوى العمى… لم يخفق قلبي له قط. كان مجرد وسيلة بالنسبة إلي، كما أنني وسيلة بالنسبة إليه. لكن يا مونيكا…”
كان عقلها يعج بالفوضى.
“حين التفّت ذراعاي حول عنقه على حين غرة، رأيتك من فوق كتفه. رأيت وجهك المندهش. وفكرت…”
“…….”
“لن أسمح لك بأخذه مني ولو على جثتي.”
رفعت مونيكا رأسها في ذهول. كانت الكلمات الخام غير المصقولة تندفع حتى حافة شفتيها، لكنها لم تستطع أن تنطقها، كأن شفتيها تجمدتا. استرسلت ريلا:
“وكما لو أن الواقع يسخر مني، بدأ ذلك الرجل يتحدث عنك من جديد.”
غاصت عيناها الرماديتان في العمق.
في تلك اللحظة، أدركت مونيكا. الغيرة، الشعور بالنقص، الكراهية، وكل تلك الأحاسيس الصغيرة المتشابكة التي لا يكاد المرء يعرف لها اسماً.
كل ما كانت مونيكا تحمله في أعماقها، كان موجوداً أيضاً في قلب رييلا.
كان المشي على الرمال تحت الشمس الحارقة عملاً شاقاً يكاد يوازي الأشغال الثقيلة.
ارتدت السيدات أحذية طويلة لحماية أقدامهن، لكن الرمل كان يتسلل إليها بلا رحمة ويخدش الجلد.
طلبت ريلا من إنريكي أن يرافقها بحجة، لكنها لم تكن حجة فارغة تماماً. فما زالت دقات قلبها لم تهدأ، فاتكأت عليه تستمد منه بعض الثبات.
“أعتذر. لم أكن أدرك… أو بالأحرى نسيت أنه لا يليق أن أحملكِ.”
كان صوته على غير العادة متجهاً نحو الخشونة، ربما حياءً. ابتسمت ريلا ابتسامة خفيفة.
“قد يحدث ذلك. صحيح أنني تفاجأت، لكن الأمر لا يزعجني. لن ألومك يا لورد سوليفان على مثل هذا.”
“هذا يطمئنني…….”
كان تصرفه اليوم عنيفاً بعض الشيء، لكن في أطراف أصابعه سكنت رقة بالغة. هو أيضاً كان متعباً من الحر والرمال، ومع ذلك اختارت ريلا أن تستمتع بحقيقة أنه يضمها بقوة.
لم يكن حمله لها مدعاة للغضب، بل للبهجة الخالصة.
وزاد من تلك البهجة منظر مونيكا أوفن بتلك الملامح المذهولة، فمها مفتوح وعيناها مشدوهتان نحوها.
في تلك اللحظة، كادت ريلا تنفجر بالضحك.
لقد اجتاحها شعور غريب بالمتعة، بسيط إلى حد البلاهة، جعلها تستغرب كيف كانت تخاف من مونيكا فيما مضى.
وفي تلك اللحظة، أيقنت ريلا أنها قد وقعت في الحب.
إنريكي سوليفان رجل يستحق أن يُحب. لكن لم يكن وجهه النبيل، ولا سلوكه المهذب، ولا نسبه الرفيع هو ما أسرها.
ما سحرها حقاً هو أن امتلاكها له يعني إذلال تلك الفتاة البغيضة.
لم تفهم نفسها، لكن أليس الحب في أصله شعوراً مستعصي الفهم؟
كانت قد أمرت هانز أن يراقب مونيكا، التي كثيراً ما كانت تهمس باسم سوليفان.
وكان هانز يفيض غيظاً كلما حدثها عن تهاون مونيكا مع سوليفان، بينما كانت ريلا تسخر منه في سرها.
مونيكا أوفن، بالطبع، لم تمنحه يوماً أي أمل.
حين سألت ريلا عن رسالة التوصية التي تمزقت، جاءها الجواب مليئاً بالثناء:
مونيكا أوفن فتاة جادة وأمينة. إن كانت رسالتها قد تضررت فذلك لسبب لم يكن بوسعها دفعه. لقد رفضت كذلك عرض زواج صادقاً من شاب فاضل. وهذا، رغم أنه يثير القلق، ليس سوى مظهر من مظاهر القلق الطبيعي الذي يتقاسمه معظم الفتيات في مثل عمرها.
لكن ما بقي في ذهن ريلا من كل ذلك هو أن مونيكا رفضت زواجاً.
والمرأة التي ترفض الزواج غالباً ما تحلم بما هو أعظم مما يُعرض عليها، وغالباً ما يكون ذلك حلماً بزواج أغنى وأرفع.
ولم يكن من الممكن أن تعطي مثل هذه الفتاة أي فرصة لهانز، ذاك الشاب العادي الذي لا يملك ما يتباهى به، سوى ميله إلى التفاخر.
لأن إنريكي سوليفان موجود.
كانت مونيكا تتسلل ليلاً من القصر لتذهب إلى منزل آل سوليفان في المدينة، وبلغ ريلا أن سكرتير اللورد هو من كان يوصلها.
وكان هانز يزداد غضباً وهو يحكي ذلك، غير أن غضبه يخفي في طياته نشوة خفية بفضيحةٍ تخص فتاة عفيفة.
حتى أنه وصف رقصها مع سوليفان خفية في حفل خيري بأنه سرقة لفرص السيدة.
مع أن الحقيقة كانت أنه شعر أن اللورد سلبه مكانته، فراح يتكئ على سلطة ريلا ليكيل لمونيكا التهم.
ورغم أن ريلا سخرت منه في أعماقها، إلا أنها لم تنجُ من شعور بالمهانة، لأنها تشارك هانز ضعفاً مشابهاً أمام مونيكا.
ومن هنا جاءت فكرتها: أن تجعل مونيكا جنية البحر.
لقد أرادت أن تذلها أمام أكبر عدد ممكن من الناس.
ومع ذلك، ظل في داخل ريلا شيء من الخوف الغامض تجاه مونيكا، بل وحتى شفقة غير مبررة.
لذلك، حين رفعها إنريكي على الشاطئ، قررت أن تسامحها.
فجنية البحر، إذا جعلت بيكي مكانها، ستكون ممتنة.
وبيكي، تلك الخادمة المتعجرفة قليلة الورع، لا بد أنها ستفرح بأن تُزيَّن بتاج الزهور الذي طلبته ريلا خصيصاً.
حينما عقدت العزم على ذلك، وجدت رِييلّا أن الحديث مع إنريكي صار ممتعًا بلا سياق.
كان الرجل متجهّم الملامح، ومع ذلك يحاول بارتباك أن يسترسل في الكلام. خمّنت أنّ ذلك من أثر الخجل الذي ما زال يثقل صدره بعد أن حملها بين ذراعيه.
فضحكت هي كطفلة، بمرحٍ صافٍ لا يشوبه شيء.
غير أنّ كل ذلك تبدّد منذ اللحظة التي ذكر فيها إنريكي سوليفان اسم مونيكا.
قال بارتباك: “قلتِ أن أخاك في العاشرة من عمره… أليس كذلك؟ حتى في هذا العمر، لا يبدو لائقا أن يبصق طعامه في يد غيره. ليس صحيًا للهضم، ولا حسنًا في أعين الناس…”
كان يتلعثم وكأن لسانه نسي فنّ الكلام.
وفي تلك اللحظة، أدركت رِييلّا بفطرتها أنّه، رغم هذا التكسّر في حديثه، لم يطل الكلام عن مارتينيل إلا بسبب تلك الفتاة.
لقد كانت قد خمّنت ذلك من قبل. على مائدة الغداء، رأت عينيه تتسللان خلسة إلى مونيكا الجالسة بجوار مارتينيل.
لكنّها دفنت ذلك في أعماق وعيها. غير أنّ كلماته الآن أيقظت ما كان مطمورًا، فاندلع في صدرها من جديد غضبٌ حارق، وغيرةٌ ملتهبة.
وهكذا أكّدت لنفسها مرةً أخرى أنّها تحب إنريكي سوليفان.
فلو لم تكن تحبه، لما رغبت في هذه اللحظة بالذات أن تصفعه بكل قوتها.
ثم تسلّطت عليها رغبة أخرى: أن تُنزل بتلك الفتاة عارًا لا يُمحى.
أخرجت رِييلّا إكليل الزهور الذي أعدّته، ووضعته على رأس مونيكا.
كان على ملامح تلك الفتاة الحقيرة أثر من الوعي بما سيحدث، إذ ارتعشت جسدها في خوف ظاهر.
وبينما تحلّ عقدة فستان مونيكا، أخرجت رِييلّا من داخل قفازها الأبيض مقصًّا صغيرًا حادًا كانت تخفيه.
مقصٌّ دقيق، وخطير في حدّته، حتى إنها جرحت كفّها غير مرة وهي تُخبِّئه هناك. لكنّها لم تبالِ.
لم تخجل من انحدارها إلى هذا الدرك، بل شعرت بنشوةٍ في قلبها.
فما قيمة الحيل الرخيصة، إن كانت النتيجة أن تختفي تلك الفتاة من أمامها؟
أما مونيكا، فقد كانت ممدّدة في القارب.
ارتجافها لم يَغِب عن صديقتها بيكي، التي قالت محاولةً التخفيف عنها:
“هل أنتِ متوترة؟ يكفي أن تفكّري كم يبلغ ثمن ذلك الإكليل.”
لكن كلماتها لم تُجدِ شيئًا.
ثمانية خدم كانوا يدفعون القارب.
وفي القارب، الموارى عن الأنظار بين الصخور، فتاةٌ وحيدة لا تعرف من حولها.
لم يكن ثمة مفرّ من الانكماش والشعور بالضآلة.
بل زاد الأمر سوءًا حين بدأ الخدم، وهم يجرّون القارب إلى البحر، يتبادلون تعليقاتهم المهينة:
“قارب هذا العام ثقيل بعض الشيء!”
“سمعتُ أن سيدتها من أسرة مرموقة… يبدو أن مائدتها عامرة كل ليلة، أليس كذلك؟”
لكن مونيكا ظلت صامتة، لا تردّ بكلمة، وهم بدورهم لم يكترثوا لها، وانطلقوا بها نحو البحر.
وامتدّ أمامها الأفق، والشمس تصبّ أشعتها اللاهبة على رأسها بلا رحمة.
وكانت الأزهار التي تزيّن الشاطئ تحجبها عن أنظار الناس، فبدت كأنها وحدها في عالم قاسٍ.
وقبل أن يدفعوا القارب دفعة أخيرة، التفت إليها أحدهم وقال:
“أتعرفين الدور؟ حين تسمعين الموسيقى، انهضي واحملي الباقة الموضوعة إلى جانب مِقعد المجداف الأيمن. إنها الممزوجة من اللون الوردي والأزرق السماوي. وحين يتأكد الجميع من أنك رفعتها، عليكِ أن تسيري بها إلى البحر وتغوصي فيها.”
كانوا يتشدّقون بالحياد، لكن مونيكا كانت تدرك أنّ الباقة المختارة سلفًا ليست مصادفة. لقد علمت أنّها تخصّ إحدى بنات الأسر التي دفعت سرًا بعض المال للخدم.
تلك الباقة بالذات كانت باسم”فايلوت غولدفيلد”… الفتاة التي يعشقها مارتينيل.
يا لسخافة الوضع! صار لديها الآن سبب آخر يجعلها لا تستطيع أن تُفسد هذا المشهد. عضّت على شفتيها، وردّدت في نفسها:
“إلى جانب مقعد المجداف الأيمن… الباقة الوردية والزرقاء…”
وبينما هي شاردة في ترديدها، كان القارب قد أخذ ينساب في عرض البحر.
السماء متوهجة، الموج يتلاطم، ولم يبقَ في المشهد إلا هي وحدها.
تمنّت لو أن القارب يمضي بها بعيدًا، ويبتلعها البحر فلا تعود.
لكن أنغام الموسيقى وصلت أخيرًا إلى مسامعها.
ببطء، نهضت مونيكا. كان جسدها واهنًا، لكن عينيها اتجهتا إلى الباقة الممزوجة بالألوان الموعودة. أخذتها بين يديها، ونهضت واقفة.
عندها فقط أدركت كم من الناس قد تجمّعوا على الشاطئ. ارتفعت أصواتهم بالهتاف: “واااه!”
هبت الريح البحرية، فبعثرت شعرها على وجهها، فيما هي تحمل الباقة وتخطو نحو مقدّمة القارب. ثم قفزت بالماء.
كان البحر ضحلاً، لم يتجاوز عمقُه رأسها. غاصت بكامل جسدها لحظة، ثم أخرجت وجهها من بين رغوة الموج.
كان عليها الآن أن تُشبه جنية وُلدت من زبد البحر، ممسكةً بالزهور، لتسلمها إلى من كُتب أن يكون صاحبها.
بدأت تمشي ببطء. كان فستانها المعدّ للماء أثقل من أن يُحتمل، وقواها توشك أن تنهار، لكنها مضت. وفي خضمّ ذلك، لم تفارق ذهنها نظرات رِييلّا.
كم كانت ساذجة وهي تظن أن كل ما في الأمر أنّ رِييلّا أرادت جعلها أضحوكة أمام الناس. في عينيها الرماديتين، رأت شيئًا أبعد… حقدًا عميقًا، مصممًا على الإذلال.
ولهذا السبب، أدركت مونيكا متأخرة جدًّا أن ثقل ثوبها لم يكن صدفة. كان عبئًا خُطط له منذ البداية.
***
الفصول لغاية الفصل 56 بقناتي على التلغرام، الرابط بتعليقات الرواية ••••◇•••••••☆•♤•☆•••••••◇••••
التعليقات لهذا الفصل " 50"