كانت صيغة سؤال، لكن وقعها لم يكن إلا أمرًا قاطعًا.
مونيكا لم تفهم في البداية ما الذي يجري، لكنها سرعان ما أدركت الموقف. بالطبع، إدراكها جاء قسرًا، لا طوعًا.
بِيكي رفعت شفتها باستهزاء، ثم لما رأت ارتباك مونيكا، همست لها وكأنها تشرح أمرًا بديهيًا:
“الجنية… ستلعبين دور الجنية.”
القارب، وقد غُمر بالزهور حتى فاض، كان واسعًا يكفي خمسة أشخاص على الأقل.
وبديهي أن عائلات النبيلات لم تُنفق كل هذا المال ليكتفين بإرسال القارب مزينًا بالزهور فحسب.
كما أن في مسابقات السباحة هناك رجل يفوز، فلا بد أيضًا أن تكون هناك فتاة تُتوَّج على أنها صاحبة أجمل باقة.
ولهذا، كل عام كانت تُختار إحداهن لتجسيد جنية البحر التي تحمل أجمل باقة زهور وتختفي مع الأمواج.
لكن… أي ابنة نبيلة، متأنقة بزينتها، سترضى بأن تُطرح في البحر هكذا؟ ناهيك عن أن من تؤدي دور الجنية ستضطر للتخلي عن باقتها. أي واحدة ستقبل؟
أما استئجار فتاة من عامة الشعب لقاء أجر فذلك أمر غير لائق. لم تكن النبيلات يرضين بأن يقيم أحد من الطبقة الدنيا، عديم الذوق والتهذيب، جمال أعمالهن. ففن تنسيق الحدائق وإعداد باقات تليق بالذوق الرفيع كان من مقومات السيدة الأرستقراطية.
لذلك، غالبًا ما كان الدور يُلقى على عاتق مربية، أو مُعلمة خاصة، أو امرأة ذات قدر من الثقافة يوازي مقامهن.
ومع ذلك، لم يكن الجميع يقبلن القيام بهذا الدور، إذ كان في الأمر أيضًا حرج. فكيف تستطيع امرأة ورعة أن تواجه الكنيسة وهي تجسد جنية غريبة من ثقافة أخرى؟
أما مونيكا، القادمة من الخارج، بلا روابط أو معرفة في هذا المجتمع، فقد كانت المرشحة المثالية بحجة واهية.
ارتبكت مونيكا واحتجت:
“هذا… هذا ليس عدلًا. أنا خادمة في بيت موليه! قد يُطلب مني اختيار باقة الآنسة موليه، فكيف أكون أيضًا الجنية؟ هذا غير منصف.”
رييلا التفتت إلى بِيكي بنفاد صبر، ملوّحة بيدها:
“ألم أقل لكِ أن تُخبريها؟ عندما ذهبنا إلى مشغل الطوب الأصفر لتفصيل ذلك الرداء المائي، أكدت الأمر. أليس كذلك؟ هل أخطأت في تذكري؟”
بِيكي ابتسمت ببرود وردّت:
“أبدًا! أخبرتها، لكن يبدو أن الآنسة مونيكا نسيت فحسب!”
ثم التفتت نحو مونيكا بعينيها الساخرتين، وفيهما رسالة واضحة: “وماذا بوسعك أن تفعلي؟”
حين عادت مونيكا لتحدّق في عيني رييلا، رأت فيها المعنى ذاته.
إذن، لم يُخبرنها عمدًا حتى اللحظة الأخيرة. هنا فقط أدركت مونيكا لمَ كانت بِيكي تهمس سابقًا عن دور الجنية.
“أتساءلين لماذا اختيرت مونيكا؟ أليس واضحًا؟ الآنسة رييلا قد حُسم أمر زواجها تقريبًا.”
قالت بِيكي بصوت عالٍ ليسمع القاصي والداني.
ضحكت بعض الفتيات، وترددت كلمة “سوليفان…” بين الهمسات.
فالزواج المرتقب بين إنريكي سوليفان ورييلا كان حقيقة شبه معلنة في مجتمع لاسبيتسيا الراقي.
ومن الطبيعي إذن أن تظهر رييلا بمظهر السيدة النبيلة، وتقول متواضعة: “هذا العام ليكن دور معلمتنا الخاصة.”
ثم تابعت بِيكي بتفاخر:
“ثم إن هذه الأثواب المائية الفاخرة، المصنوعة من أفخر أنواع الموسلين، لم تكن لتُفصل من أجل خادممة لولا أنها ستقوم بدور الجنية! صدقوني، أي واحدة كانت لتغتنم مثل هذه الفرصة بكل سرور. إنه شرف، ومكافأة، ورغبة الجميع.”
أُسقط في يد مونيكا. كانت متيقنة أن غاية رييلا لم تكن سوى إذلالها. فمن لحظة جلوسها على ذلك القارب حتى غوصها في البحر، لن تُفلت من نظرات الاحتقار والشماتة.
والآن، وهي ترى تلك النظرات الماكرة في عيني رييلا، كان الأمر جليًا كوضوح النهار.
لكن مع ذلك، جزء صغير في داخلها بدأ يوسوس: أليست هي التي تبالغ؟ أليس من الممكن أن رييلا فقط تؤدي واجبها بلا سوء نية؟
لكن مونيكا قبضت كفها بإحكام. لا، هذا وهم. مجرد ذكرى دار الأيتام كفيلة بتذكيرها بالحقيقة: رييلا لم ترَ فيها يومًا سوى وصمة عار.
وخصوصًا بعد أن كانت شاهدة على لحظة انكسارها المذلّة حين توسلت لإنريكي سوليفان.
“لا بد أن أرفض.”
لكن كيف؟ كيف يمكنها رفض أمر رييلا علنًا أمام عشرات الفتيات الأرستقراطيات المتحلّقات حول القارب، وهنّ يترقبن المشهد بفضول وشماتة؟
كل العيون مسلطة عليها. بعض الفتيات نظرن إليها وكأنها غبية بلهاء على وشك أن تفسد حفلاً انتظرنه عامًا كاملًا.
فتحت فمها، محاولة التمسك بشيء من الشجاعة.
لكن الذي خرج من فمها كان:
“أعتذر… لا بد أنني نسيت.”
لم تجرؤ على أكثر من ذلك.
ثم انحنت بعمق، بانكسار شديد، كخادمة وضيعة تخضع لإرادة سيدتها.
وعلى وجه رييلا، ارتسمت ابتسامة صغيرة، باردة، راضية.
“لا بأس… سيكون كل شيء على ما يرام.”
كانت تلك كلمات مونيكا في داخلها، تواسي نفسها… كذبة هشة تتمسك بها كي لا تنهار.
لم تجد مونيكا بُدًّا من إقناع نفسها بتلك الطريقة. أقنعت نفسها أن رِييلا لم ترد سوى إخضاعها لا أكثر.
منذ البداية لم تقف هي ورييلا يومًا على كفّتي ميزان متساويتين.
لكنّ إنريكي سوليفان هو من أخلّ بتوازن الكفّتين بينهما، وما كانت رِييلا تفعل سوى أن تؤكد مكانتها من جديد.
لولا أن مونيكا أقنعت نفسها بهذا لارتجف قلبها خوفًا واضطرابًا، ولما استطاعت أن تصعد إلى تلك القارب.
“أوه، دائمًا متسرعة!”
قالت بيكي بابتسامة، كأنها كانت تتوقع ذلك.
أما رِييلا فاستدارت نحو الفتيات الأخريات ونظرت إليهن متفاخرة، ثم ابتسمت.
فضحكت الفتيات بدورهن باطمئنان، وبدأت ضحكاتهن تتعالى وهن يثنين على فساتين مونيكا ورييلا الكريمة.
“فستانك رائع، تبدين كجنية!”
“الآنسة موليه حقًا طيبة القلب.”
وفي تلك اللحظة، رغم أنها كانت في وسط عشرات الأشخاص، شعرت مونيكا بوحدة قاتلة لم تعهدها من قبل.
“القارب سينطلق بعد قليل. سنتركه ظاهرًا أمام الناس للحظة، وما إن يبدأ العزف…”
كانت بيكي تشرح تفاصيل ما سيجري بحماس زائد.
أما مونيكا فكان المطلوب منها أن تستلقي وسط الزهور المزينة على القارب لا أكثر.
القارب سيبقى لحظات في البحر الضحل و سيمسك به الخدم حتى لا يغرق، ثم ما إن يبدأ العزف سيدفع القارب بعيدًا إلى البحر المفتوح.
“لكن عليك أن تنتبهي للعزف، فصوت الأمواج يغطيه بسهولة. أتذكرين معلمة إحدى العائلات قبل عامين؟ لم تسمع الموسيقى وظلت ممدة هناك حتى فات الأوان، فانهالت عليها نظرات الاستهجان من الجميع. وفي نهاية الأمر، تم طردها قبل حلول الشتاء!”
تمنت مونيكا لو أنهم طردوها الآن في هذه اللحظة.
كم كان أسهل عليها أن تنسحب! لكنها لم تستطع.
كانت تسحب نفسها مكرهة، وتشعر أنها تزداد بؤسًا وعجزًا كلما فكرت في الهروب.
“آه، انحل الشريط. سأربطه من جديد… بشكل أجمل هذه المرة.”
حتى يدَي بيكي التي أعادت تعديل زينتها لم تكن مرحبًا بها.
كانت الفتيات اللواتي ساعدن في تزيين القارب بالزهور قد انصرفن، وبقيت مونيكا واقفة متيبسة تتلقى لمسات بيكي الثقيلة.
ولم تكتفِ بيكي بذلك، بل أخذت تستخدم لها مستحضرات التجميل نفسها التي كانت تخصصها لرييلا، فتلونت وجنتاها وشفاهها بلون وردي ناعم.
“انتظري، بيكي.”
ظهرت رييلا من جديد، تحمل بين يديها إكليلًا من الزهور. وإلى جانبها كانت إيزابيلا ومارتينيل قد عادا بعد أن وضعا باقات الورد على القارب.
“أعددت هذا خصيصًا لكِ يا آنسة مونيكا. سيليق بك كثيرًا، ويجعلك جميلة كالجنية.”
كان إكليلًا فخمًا، منسوجًا من أزهار بديعة تتخللها قطع فضية صغيرة لامعة. ثمنه كافٍ لأن تكتفي مونيكا بمشاهدته من بعيد، لو كان في يوم آخر.
لكن لحظة أن وضعت رييلا الإكليل على رأسها، شعرت مونيكا بأنها تختنق أكثر من أي وقت مضى.
لم تستطع أن تنطق بحرف، حتى بعدما أخذت رييلا ترتبه فوق شعرها وتلمسه مرات عدة.
“يا للجمال! أليس كذلك يا بيكي؟”
“بالفعل! لم أرَ إكليلًا بهذه الروعة في حياتي.”
“آنسة مونيكا! تبدين مذهلة!”
هكذا هتفت إيزابيلا بعينين متألقتين، ثم غمزت مارتينيل بمكر. وما كان منه إلا أن انبهر بدوره وفتح فاه دهشة، ثم راح يطيل الثناء متأخرًا.
“معلمتي! لو كنتِ ظهرتِ قبل الآنسة فيوليت، لكنتُ خطبتك من دون تردد!”
“ماذا تقول؟!”
صرخت إيزابيلا غاضبة حتى احمر وجهها.
“كيف لك أن تكون بهذه الخفّة! أن يكون نصيبي زوجًا مثلك… يا له من عذاب!”
“لماذا تغضبين فجأة؟”
ارتبك مارتينيل من غير أن يفهم شيئًا، فيما أدارت هي ظهرها غاضبة وغادرت بخطى سريعة.
“انتظري!”
ركض خلفها، بينما تبعته الآنسة روزماري بخطوات محرجة، بعد أن ألقت نظرة إطراء صغيرة على مونيكا.
لو كانت الظروف عادية لضحكت مونيكا من هذا المشهد.
لكن الآن بدا لها الأمر كله بعيدًا، كأنه يحدث في عالم آخر.
أما رييلا فهزّت كتفيها بخفة، ثم التفتت إليها مبتسمة:
“هذا عربون شكر مني لكِ يا آنسة مونيكا.”
“يا للعجب.”
قالت بيكي، وعينيها مشبعتان بالغيرة.
رييلا أنزلت عينيها بأناقة وابتسمت.
“لقد ربطتها بشدة، بيكي. القارب بلا مظلة، سيصعب الأمر عليها. سأعيد ربطها بنفسي.”
أخذت تشد شرائط الفستان من جديد، وتزين شريط الظهر بعقدة أنيقة. لكنه بقي ضيقًا خانقًا.
التعليقات لهذا الفصل " 49"