هناك أناس من هذا النوع. أناسٌ مهما جرى لهم من أحداث، يستسلمون للأمر الواقع ببرود، وكأنهم يقولون في سرّهم: “هكذا هي الحياة.”
حتى لو وقع عليهم شرٌّ عظيم، يرضخون له بقبولٍ صامت ويعتبرونه قدراً لا مفرّ منه.
مونيكا أيضاً عاشت نصيبها من التعاسة. أحياناً كان سوء الطالع يخصّها وحدها، وأحياناً كان يطول الجميع من حولها.
وفي كل مرة كانت تجد نفسها مأخوذة بدهشة ممزوجة بالإعجاب تجاه أولئك الذين يقابلون البؤس برضا وسكينة، ثم يحوّلون أنظارهم سريعاً إلى اتجاه آخر.
كيف يمكن لهؤلاء أن يظلّوا بتلك الطمأنينة؟
أمّا هي، فلم تعرف يوماً كيف تنظر إلى حظوظ الآخرين المفاجئة من غير أن تمتلئ غيرة، ولا كيف تحتمل نصيبها من الخيبات من غير أن تغصّ بالأسى.
خصوصاً حين يكون الأمر متعلقاً بـ رييلا، التي تنعم بكل ما كان يمكن أن يكون من نصيبها هي.
عندها كان من المستحيل على مونيكا أن تبقى هادئة أو مسالمة.
لقد كانت أعظم مصائبها أنها تدرك تمام الإدراك حدودها ومكانتها.
كانت تعرف بوضوح قاسٍ أن الحظ لا يطرق أبواب حياتها بلا سبب أو سياق. فما حدث في طفولتها حين كانت يتيمة فقيرة في الثانية عشرة، يوم داست بقدميها على فرصةً نادرة، كان البداية والنهاية في آن.
بعد ذلك لم يعد هناك مجال لانتظار معجزة.
ومع ذلك ظل سؤال يؤرقها:
هل هذا الشعور الخانق، الممزوج بالغيظ والنقص، الذي يغمرها كلما رأت من هو أفضل حالاً منها… هل هو شعور يخصّها وحدها؟
ذلك الإحساس الحقير، البشع، الذي يخجل المرء من نفسه لمجرد أنه يحمله… أكان وصمة عار لا يحملها سواها؟
لذلك تدرّبت على التظاهر بالهدوء. كبتت مشاعرها الدنيئة وحزناً تراكم داخلها طبقة فوق طبقة، كأنها تدسّه في أعماق حلقها وتغلق عليه بقسوة.
غير أن غارسيا كان قادراً على أن يجرّدها من أقنعة السكينة تلك بسهولة مخيفة، ويستخرج منها كل ما حاولت ستره بعناء.
ارتجّ بصرها.
ارتفعت حرارتها وتصبّب عرقها لم يكن سببه شمس الشاطئ وحدها.
صحيح أنّ ثوبها المصنوع من قماش الموسلين كان خفيفاً والهواء يتسلّل بين طيّاته، إلا أنّها مع ذلك كادت تتمزّق خنقاً.
تمنّت لو مزّقته من جسدها، إذ شعرت بالاختناق والغثيان.
“ليس صحيحاً…”
“ليس صحيحاً؟! مكتوب على وجهك أنّك تذوبين حسداً. يا… يتيمة!”
“قلت لك، إنه ليس صحيحاً!”
صرخت مونيكا بغتة وهي تنتصب واقفة. ففغر غارسيا عينيه بدهشة.
“أوه! أفزعتِني.”
قالها وهو ينهض بدوره، وتعلو شفتيه ابتسامة ساخرة، كأنه يوشك على قول شيء، لكن مونيكا سبقتْه بانفجارها.
هزّت جدائلها المضفورة بعصبية وصاحت في وجهه:
“اذهب من هنا! ألم أقل لك منذ قليل؟ إن أردت أن تسدي لي معروفاً فابتعد عني، فهذا أكبر عون تقدّمه!”
“لكن…”
“ألا ترى أنّك تضعني في موقف محرج؟ ألم تلاحظ كيف رمقتني رييلا قبل قليل بسببك؟!”
ارتبك الرجل ولم يجد ما يردّ به، لكن مونيكا لم تمهله. رمقته بعينيها المشتعلتين، متمنية لو يكفّ عن النبش في أعماقها.
ثم أضافت، وقد خانها لسانها بانفعال لم تفكّر فيه:
“وأنت لست يتيماً أصلاً! فلا تتظاهر أنك تعرفني أو تفهمني، فقط ابتعد عني!”
حتى تلك اللحظة كان وجهه ملوّناً بالدهشة، لكنّ ملامحه سرعان ما تصلّبت فجأة، حتى بدا كأن الصخر قد جمد في محياه.
“…إذن أنتِ. كنتِ تظنينني ذلك الوغد البائس طوال الوقت.”
لم يكن هذا صوته العابث المتهاون المعتاد، بل نبرة أخرى، جادّة ومخيفة. فشعرت مونيكا بوخزة خوف داخلي، غير أنّ الأوان قد فات، فقد لفظت ما في صدرها.
“نحن لسنا مقرّبين أصلاً. وحتى لو لم تدّعِ القرب مني، سأفي بعهدي وأصنع الدواء مهما كلّفني الأمر. لذلك، لا تضعني في الحرج مجدداً. أنت ستتزوج عاجلاً أم آجلاً، فلماذا تلاحقني أنا؟ لماذا تعاملني وكأن…”
وكادت تقول: وكأنك تهزّ قلبي بتهوّر. لكن ما خرج من فمها لم يكن سوى اتهام آخر، وكشف لسره.
لعل السبب أنّه هو من خلط مشاعرها وأربكها.
كل ما كانت تدفنه في صمت تفجّر دفعة واحدة.
لقد أرادت أن تظلّ متظاهرة بالهدوء، لكنها لم تعد قادرة.
شكوك صغيرة لطالما راودتها أخذت تكبر وتنفجر بفظاظة.
ربما كل ما في الأمر أنه كاذب بارع، ينسج حكايات بجرأة.
ذلك الخاطر راودها مراراً: حين كان يتحدث إليها بجدية، أو عندما رأت لويس منتحلا شخصيته، وحتى وهو يرقص البولكا في القاعة بلا مبالاة.
أنت لست يتيماً في الحقيقة. ولست وغداً تافهاً كما تدّعي. ولا ذاك الفاسق الذي يعمل بحسن نية. بل في الواقع أنت ابن أسرة مرموقة، رجل نشأ في بيت كريم، لا يعرف شيئاً عن حياة الأيتام ولا عن آلامهم.
ومع ذلك… إن كان يريدها أن تصدّق صورته تلك، فهي مستعدة لمسايرته. لم يكن الأمر عسيراً. تماماً كما انحنت هي أمام رييلا ذات مرة، قائلة:
ـ “رييلا… أنا أعرف قدري.”
تظاهرت بالخضوع والامتنان، كما يتظاهر الخدم الأوفياء الذين يعرفون حدودهم. لقد سايرت رغبته، كما يفعل الجميع مع أبناء النبلاء.
لكن لماذا لم يكتفِ بذلك؟
لماذا يتصرّف كأنه يعرف أعماقها؟ لماذا يصرّ على التقرب منها بهذا الإلحاح؟ وهو في الواقع لا يفهمها، ولن يفهمها يوماً.
كيف يجرؤ على لمس جرحها الأعمق، ذلك الجرح الذي سترته بكل ما أوتيت من قوة؟
إنه النبيل العابث يلهو ويعبث بمشاعرها، ثم يتركها لتتخبّط وحدها في أنقاض غيرتها وجرحها.
كم كان في نفسها من الكلام. لكن غصّة الكلمات تحجّرت في حلقها ولم تنسكب كما أرادت.
لم تفعل سوى أن شدّت قبضتيها، تحدّق فيه بعينين تغليان. هو بدوره نظر إليها بذهول، وكأن المشهد برمته غير معقول.
*مسكين، ليس صبت غضبها على غارسيا مو بين الكل؟ هو أكثر واحد بريء بينهم*
ثم قال في النهاية:
“فهمت… أنا آسف.”
قالها ببرود، من غير أن تتحرك شفتاه بزيادة، ثم استدار بخطوات طويلة ونزل من فوق الصخرة كما جاء، تاركاً إياها.
تمّ كل شيء بسرعة خاطفة، ووجدت نفسها وحيدة.
شعرت بحرقة غريبة عند أطراف عينيها.
راحت تحدّق في مقدمة حذائها الملطخ بغبار الرمل، بلا هدف، بينما ينهشها الضيق.
وربما لأنها كانت تعرف في أعماقها أنها كانت مفرطة الحساسية، و ضيقة الأفق أكثر مما ينبغي.
***
ظهرت إيزابيلا متأخرة على الشاطئ، لكنها بدت في غاية الجمال.
حاملةً بين ذراعيها باقة ضخمة من الزهور الحمراء، تقدّمت إلى جناح عائلة موليه، وما أن رأت مونيكا حتى هتفت بفرح:
“آنسة مونيكا! أين كنتِ؟”
“آه، فقط خرجت قليلًا… متى وصلتِ، آنسة فالنتينو؟”
رغم أن قدومها المفاجئ أربك مونيكا، إلا أن حيوية إيزابيلا المفرطة أزاحت بعضًا من ثقل أفكارها المعقدة. وذلك على الأقل كان مدعاة للارتياح.
“لقد وصلتُ منذ لحظة فقط. كنت مشغولة بصنع أجمل باقة على الإطلاق!”
أما مارتينيل، الذي استيقظ لتوّه من قيلولته بسبب وصول إيزابيلا، فلم يبدُ مسرورًا البتة.
لكن إيزابيلا لم تكترث لانزعاجه، وأصرت بإلحاح أن يرافقها بنفسه حتى القارب. الأمر الذي دفع السيدة موليه أن تنظر بدهشة نحو الكونتيسة فالنتينو وتسألها:
“هل حقًا سترفع الآنسة بيلا الزهور إلى القارب من الآن؟”
أجابت الكونتيسة متنهدة:
“آه، لا تسأليني. لقد أرهقتني هذه الفتاة تمامًا. قلتُ لها إنه لا بأس إن فعلت ذلك بعد حفل بلوغها سن الرشد، لكنها أصرت بعناد لا يطاق.”
هزّت رأسها بيأس، غير أن ابتسامة رقيقة ارتسمت على محياها في الوقت نفسه.
“لا أريد!”
رفض مارتينيل طلب إيزابيلا مباشرة. فالقارب محاط بالفتيات النبيلات، وكان ىستحي من الاقتراب من المكان بصفته شابًا.
ابتسمت إيزابيلا بازدراء وقالت ساخرًة:
“ومن منهن أصلاً تراكَ رجلًا؟”
“ما هذا الهراء!”
تمتم مارتينيل غاضبًا بصوت منخفض لم تسمعه السيدتان، لكن مونيكا التقطته بوضوح.
اضطرت مونيكا أن تبتسم بتكلف: “هاها…”
وفجأة أدركت أن ثمة من يبتسم بتوتر إلى جانبها أيضًا. وعندما التقت نظراتهما، رأت امرأة ذات شعر نحاسي مشدود بعناية، ترتدي نظارات تزيد ملامحها وقارًا.
“تشرفت بلقائك، آنسة مونيكا.”
“آه… و أنا أيضا. هل لي أن أعرف…؟”
ابتسمت العينان السوداوان خلف العدسات بودّ، وأجابت:
“أنا روزماري. يمكنكِ مناداتي روز.”
“أجل، سمعتُ عنك.”
ولم يمض وقت طويل حتى تيقّنت مونيكا بنفسها أن روزماري بالفعل معلمة كفؤة.
حتى في تلك اللحظة العابرة، أبعدت يد إيزابيلا التي حاولت الإمساك بمؤخرة عنق مارتينيل، ثم تبسمت بصرامة وهي تفرض هيبتها عليها، قبل أن تهدئه بلطف.
تأففت إيزابيلا وعانقت باقتها بشدة، مزمجرة:
“لكنني سأتزوج مارتينيل. عليّ أن أُري الجنية عريسي المستقبلي.”
“ومن قال إنني عريسك؟”
قال مارتينيل بامتعاض وهو ينظر بضجر إلى السيدة موليه.
غير أن السيدة لم تُبدِ أي اهتمام، واكتفت بابتسامة مقتضبة، ثم عادت لتغرق في حديث جانبي مع الكونتيسة فالنتينو. بل بدا الأمر وكأنها تتظاهر بالانشغال.
أما الكونتيسة نفسها، فقد بدت منشغلة فقط بتصرفات إيزابيلا الجامحة، متجاهلة تمامًا مسألة الزواج تلك. مما أوحى بوجود اتفاق غير معلن بين السيدتين.
قالت إيزابيلا بعناد:
“فلتذهب معنا معلماتنا إذًا!”
ابتسمت روزماري بتأنٍ وأضافت:
“فكرة جيدة يا سيدي، هل تود أن نذهب معًا؟”
وبالطبع لم تكن روزماري سهلة المراس. فوجود السيدتين، وكون مونيكا التقطت خيوط الموقف، دلّ على أنها تلقت تعليمات مشابهة من الكونتيسة مسبقًا.
تنهد مارتينيل وقال باستياء، قبل أن يلتفت نحو مونيكا:
“لتأتِ معلمتي أيضًا!”
‘وكأنك بحاجة إلى دعوتي… كنت سأرافقكم على أية حال.’
فكرت مونيكا بابتسامة مرهقة، وهمّت بأن تمسك بيده.
لكن فجأة، دخلت بيكي إلى الجناح. أدت تحية مهذبة للسيدتين، ثم اقتربت من مونيكا وهمست لها:
“الآنسة رييلا تطلبك.”
وما لبثت أن مسحتها بنظرة سريعة من رأسها حتى أخمص قدميها، قبل أن تعلّق ببرود:
“حسنًا… مظهرك مقبول نوعًا ما.”
‘ماذا؟ الآن بالذات؟’ شعرت مونيكا بالذهول.
***
الفصول لغاية الفصل 56 بقناتي على التلغرام الرابط بتعليقات الرواية ••••◇•••••••☆•♤•☆•••••••◇••••
التعليقات لهذا الفصل " 48"