“لكن قبل قليل كنتِ تنادينها باسم رييلا مباشرة، والآن صرتِ تقولين آنسة؟”
ارتجفت مونيكا عند سؤال غارسيا. قبل قليل، حين كانت تجادله بحدة، أفلت منها اسم رييلا من غير قصد.
“لقد كانت مجرد زلة لسان.”
ابتسم غارسيا بسخرية وقال:
“يا لك من فتاة غير حذرة. مثل هذه الأخطاء قد تجعلك مطرودة.”
ردّت مونيكا ببرود متعمد:
“فلتطردني أو لا، لا يهم.”
كان كلامًا ألقته بنزق، إذ ما إن تقف أمام هذا الرجل حتى تصبح لغتها قاسية دون أن تدري.
أمر غريب فعلًا. فهي أمام إنريكي سوليفان تبذل قصارى جهدها لتكون مهذبة، ومع أنهما في الحقيقة الشخص ذاته، إلا أنها أمام غارسيا تجد نفسها تتفوه بكلمات فظة تصل إلى حد التهديد بـ”تحطيم رأسه”.
لكن العجيب في الأمر أنها لم تكن تشعر بالانزعاج حيال ذلك. بل على نحو ما، كان في الأمر شيء مريح رغم الضيق. غريب حقًا… ربما يجب أن أصفه بالراحة الممتزجة بالضجر.
نظر إليها غارسيا بعينين تقولان “ما العمل معك؟”، ثم مدّ يده فجأة ليقرص خدها.
“آه!”
صرخت مونيكا، فابتسم بمكر وهو يقول:
“إذا طُردتِ، فأين ستنامين وأنت لا تملكين شيئًا؟ في الشارع؟”
“ليس من شأنك! أتركني! الآنسة تراك!”
“هاه…”
كانت مونيكا تحاول عبثًا أن تُبعد يده عن خدها الممتد حين لمحت رييلا قادمة باتجاههما وهي تمسك بيد مارتينيل، تحدّق بها بنظرة نارية.
ما إن رأى غارسيا ذلك حتى سحب يده بسرعة، لكن رييلا كانت أسرع في الكلام:
“المعذرة على الإزعاج أثناء نزهتنا. مارتينيل أخ عزيز عليّ جدًا.”
ردّ غارسيا بجفاف:
“ذلك بادٍ عليه .”
أضافت رييلا بابتسامة متكلفة يكسوها الغيظ:
“لكن يبدو أن العلاقة بينكما وثيقة للغاية.”
لقد ورّطت نفسي…
تراجعت مونيكا خطوة بحذر، بينما كان مارتينيل –الذي لم يفهم شيئًا– ينظر إليهم واحدًا تلو الآخر، ثم تشبّث بمئزر مونيكا قائلاً بفخر طفولي:
“معلمتي! انظري! لقد جمعتُ الكثير من الأصداف.”
ضحكت مونيكا بصوت عالٍ متعمد:
“يا إلهي! ما أجملها! أصداف رائعة يا سيدي الصغير!”
أضاء وجه مارتينيل بالبهجة، بينما بقيت عينا رييلا متجمدتين بالبرود.
فقد كانت في مزاج سيئ أصلًا، وازداد سوءًا مؤخرًا بسبب كثرة لقاءاتها بمونيكا، والسبب في ذلك لم يكن سوى إنريكي.
حتى أندريه، الواقف بعيدًا، بدا عاجزًا عن التعليق.
لكن بحق السماء، لم يكن لي يد في الأمر هذه المرة! هو من جاء نحوي، ذلك الأرعن!
غير أن رييلا التفتت بعد لحظة، لتمنح غارسيا ابتسامة ناعمة لا تشبه شيئًا مما أظهرت لمونيكا.
“هل نعود الآن يا سيدي؟ لقد مشينا طويلًا. كاحلي يؤلمني… الرمال متعبة للقدمين. هل يمكن أن تساعدني قليلًا؟”
قال غارسيا مترددًا:
“ح- حسنًا، كما تشائين.”
رفع ذراعه بفتور، وما أن وضعت رييلا يدها عليه حتى حدث ما لم يكن في الحسبان: مرر غارسيا يده من خلف فستانها، ورفعها بين ذراعيه بكل بساطة.
“آآه!”
صرخت رييلا مذعورة، فلفّت ذراعيها حول عنقه بلا وعي.
تسمرت مونيكا في مكانها، بينما فغر أندريه فاه مرتين أوسع منها، وارتجف مارتينيل من الدهشة.
“لورد سوليفان!”
نادته رييلا بوجه محمر حتى الأذنين.
ومضى غارسيا بضع خطوات وهو يحملها، ثم أدرك متأخرًا غرابة الموقف.
“آه… هل أخطأت؟”
أسرع أندريه مهرولًا يكاد يطير، محاولًا إنقاذ الموقف وهو يلهث:
“سيدي! نحن لسنا في ساحة حرب! نعتذر كثيرًا يا آنسة، رجاءً سامحينا. إن عادة سيدنا هذه من عادات الحرب، إذ كان يعتاد حمل الجرحى هكذا!”
قال غارسيا بخجل وهو يضعها مجددًا:
“آه… هذا ليس مناسبًا. أعتذر يا آنسة موليه، إنها عادة قديمة…”
تمتمت رييلا باضطراب:
“ل- لا بأس… أنا بخير تمامًا، لكن… هل ستتركني الآن يا سيدي؟ أرجوك…”
“آه نعم، المعذرة.”
أنزلها بارتباك وقد صار وجهها كحبّة الطماطم.
غير أن الأوان قد فات؛ فقد شاهد كثير من الفضوليين على الشاطئ المشهد بأعينهم.
مونيكا أطبقت فمها بعد أن كاد يسقط من الدهشة، وتمتمت في سرها:
يا لهم من مهرجين.
أما مارتينيل فاقترب هامسًا لمونيكا بحماس: “أراهن أن سيدي سوليفان سيطلب يد أختي للزواج!”
ابتسمت مونيكا بتكلف وقالت:
“لا أظن ذلك.”
“مستحيل! يا معلمتي، الرجل لا يمد يده لامرأة لا يكنّ لها مشاعر.”
قالها الصغير بثقة ورفع صدره بفخر. ضحكت مونيكا بخفة، وتركت كلماته تمر دون تعليق.
وفيما كانت رييلا تسير ببطء وهي متشبثة بذراع غارسيا، كان الغضب يغلي في أعماق مونيكا. فقد بدا الأمر وكأنها شاهدت بأم عينيها اللحظة التي توشك فيها رييلا موليه على الفوز بزوج مثالي.
لكن أي مثالية؟ إنه مجرد مزيج من قلة الذوق والفظاظة والصفاقة! أي وسامة وأي كمال؟ هراء محض.
تمتمت ساخطَة مع نفسها. ولم يعودوا إلى جناح عائلة موليه إلا بعد وقت أطول بكثير مما استغرقته النزهة نفسها.
*** عاد غارسيا برفقة أندريه قائلًا أن عليه الاستعداد للمسابقة.
أما ماتينيل فقد أسرع إلى السيدة موليه وهو يثرثر عن كل ما جرى، فوضعت السيدة يدها على خدها وهتفت:
“يا إلهي! حقًا إذًا، يبدو أن اللورد سوليفان يُكِن مشاعر لرييلا! ومع ذلك، يا عزيزتي رييلا، عليكِ أن تحذري على سمعتك، أفهمتِ؟”
كانت مزيجًا من الفرح والقلق في صوتها.
“وفوق ذلك، أتدرون ما قاله لي اللورد سوليفان؟ قال أنني صديقه! “
كان الأمر فيما يبدو مجرد بضع كلمات عابرة قالها غارسيا للصبي في طريق عودته، غير أنها ملأت قلب ماتينيل فخرًا بشكل لا يوصف.
ابتسمت السيدة موليه في رضا، وهزت رأسها قائلة:
“أجل، أجل يا صغيري.”
وقد بدا واضحًا أنها على استعداد لأن تصدّق وتبارك كل ما يخرج من فم أصغر أبنائها المدلَّل.
غير أنّ رييلا كانت على النقيض تمامًا من أمها وأخيها. إذ أومأت بوجه متشابك التعابير، ثم سرعان ما أرسلت نظرة خاطفة نحو مونيكا.
في تلك النظرة بريق نصر واضح… غير أن ثمة ارتباكًا وقلقًا مبطنًا كان يلوح معها.
حدّقت مونيكا بعينين نصف مغمضتين، متسائلة في سرّها: “لماذا تفعل هذا مجددًا؟”
في تلك اللحظة تحديدًا، تقدّمت مجموعة من سيدات المجتمع الراقي نحو الخيمة.
انحنت مونيكا سريعًا، وتراجعت بأدب إلى الخلف. كادت أن تتنفس الصعداء من فرط الارتياح، غير أن ذلك لم يدم طويلًا.
“سيدة موليه! ما هذا الذي سمعناه؟ قيل إن الآنسة رييلا تعرّضت لإصابة قبل قليل.”
“تخيلي! قيل لنا إن اللورد سوليفان رفعها بين ذراعيه وسط الرمال!”
ومع أن مونيكا لم تكن سوى متفرجة، وجدت نفسها وقد اجتاحها إحساس غريب وهي تسمع كلماتهن المتطايرة.
لقد انتشرت الأخبار كالنار في الهشيم، وهؤلاء النسوة هرعن مسرعات ليشهدن ويثرثرن.
كانت السيدة موليه في غاية الابتهاج وهي تفسح لهن المجال وتبالغ في الحديث عن اللورد سوليفان.
“الخطوبة وشيكة إذن، مباركٌ لكم!”
“وهل هناك أسمى من نعمة الزواج؟”
مونيكا أدركت حينها بوضوح أن ما كان لها صاعقةً مباغتة، يبدو لرييلا نعمة سماوية.
وقد كانت تدرك أصلًا أن تلك هي الفجوة الفاصلة بينهما، لكنها لم تكن لترحب بهذا التذكير المرير.
***
بدأت بطولة السادة واستمرّت طوال فترة ما بعد الظهر.
أما بطولة الفتيان فلم تكن إلا أشبه بالزينة والديكور.
سباقات تعلوها الألوان والمرح؛ كالدوران حول عوامة يرفرف فوقها العلم، أو تبديل القوارب ليتذوقوا وهم التجديف.
أما غارسيا، فقد اختار طريقته الخاصة في الظهور:
“ما هذا؟! أطفال صغار يتراكضون جماعات! يا للشفقة.”
كان شعره الأشقر يقطر ماءً مالحًا، لم يجف بعد من سباقه.
وفي سباق الدوران حول العوامة نال المركز الثاني، فأشعل حماسة الحاضرين.
لكن ما أن بدأ سباق القوارب حتى سبح قليلًا، ثم خرج فجأة من الماء رافعًا يده نحو الحكم:
التعليقات لهذا الفصل " 47"