عند سماع ذلك، رمقتْه مونيكا بنظرة حادة بعدما كانت صامتة.
فابتسم غارسيا ابتسامة جانبية متكاسلة، ثم تمطّى وقال ساخرًا:
“تُطيلين النظر في وجهي هكذا؟”
في الواقع، ما أن وقع بصر مونيكا على هذا الوغد حتى عرفته، لكنها كانت قد عقدت العزم في نفسها أن تعاملَه بلباقة.
ذلك اليوم في الزقاق، جرّها من شعرها وأوقعها أرضًا حتى تدحرجت، حتى أنها فكّرت مرارًا في أن تشوّه ذلك الوجه المتعجرف بأظافرها. ومع ذلك… أليس هو الآن زبونها؟
بل إنها لم تنتظر من إنريكي سوليفن أي أجر، ومع هذا بادر ودفع لها خمسة آلاف سينغ.
لذلك، قررت مونيكا أن تعامل غارسيا بمقدار ما يساوي خمسة آلاف “سينغ” من الأدب…
قررت.
ولكن—
“تظنّ أني كنت متلهفة لرؤية وجهك أنت؟ أيها الحقير!”
حدّق أندريه بعينيه وكأنه لا يصدق ما يسمعه. فلعلها المرة الأولى التي يخرج فيها كلام بذيء كهذا من فم مونيكا.
عقدت مونيكا ذراعيها، وألقت بنظرة سريعة نحو رييلا، التي كانت آنذاك منشغلة إلى جانب ماتينيل تحفر الرمال بلا مبالاة.
ولمّا تأكدت أنها لا تنظر إليهم، تنفست الصعداء بعض الشيء.
“لماذا لا تذهب لتقف بجانب رييلا؟ ما الذي جاء بك إلى هنا؟”
“أوه؟ ممنوع آتي؟ هل حجزتِ الشاطئ كله لنفسك؟”
لكن أندريه هو الآخر أومأ موافقًا، وكأنه يؤيد كلام مونيكا.
“ليس في ذلك حُسن مظهر. الأفضل أن تبقى قرب الآنسة موليه، ثم بعد ذلك تتحجّج بالمسابقة وتغادر.”
“تبًا! كيف أقضي الوقت معها وأنا لا أفهم حرفًا من كلامها؟”
حدّقت فيه مونيكا بدهشة متجددة. لقد بدا مختلفًا تمامًا عن لويس.
كيف يمكن لشخص واحد أن يتبدّل بهذا الشكل الجذري؟
إن تبدّل الشخصية أعمق وأشدّ تركيبًا مما كنت أتخيل.
أما إنريكي سوليفان، فقد كان رجلاً متسلّطًا، ذا هيبةٍ باهتة في آن.
ابن أسرة عريقة، تَعوّد من المهد أن يُطاع، حتى أن أصابعه ذاتها توحي بالسيطرة. يداه متكاسلتان مترهلتان، لكن ظهره وكتفيه مستقيمان في اعتداد نبيل، بفضل تربية صارمة منذ الصغر.
حركاته المنتظمة كانت تذكّر دومًا بأنه عسكري. وفوق ذلك، كان جمال وجهه المفرط يدفع من يراه ليتخيل:
“كيف عاد من تلك الحرب الطويلة بلا ندبة واحدة؟ لا بد أنه جندي بارع…”
رغم أن أبناء البيوت العريقة كانوا، في الغالب، يُرسَلون إلى الخطوط الخلفية!
أما لويس، فكان نسخة مبالغًا فيها من إنريكي، وكأن العسل يقطر من فمه.
إيماءاته الرشيقة، ابتسامته المشرقة، خطواته المفعمة بالقوة، كلها أوحت بأنه من أبناء الجنوب.
شاب مدلل نشأ في بيت مترف، يفعل ما يحلو له، وكأن كلمة مسؤولية لم تطأ قاموس حياته قط.
ثم يأتي غارسيا… الذي حطّم كل ذلك.
حتى لويس احتفظ في هيئته بشيء من الأدب والرقي، وإن كان يختلف عن إنريكي. لكنه مع ذلك ما زال يبدو كابن بيت كريم.
أما هذا الرجل الواقف أمام مونيكا الآن، فلا يراه أحد إلا وقال إنه بلطجيّ، صعلوك.
*ههههههههههههههه، كيف اصارحكم اني احب غارسيا ثم لويس و ما احب إنريكي ؟ ههههههههههههههه *
يقف متكئًا على ساقٍ واحدة بغير اتزان، جذعه لا يستقيم مع قدميه، ورقبته مائلة باستهتار.
لو كان في ميتم مونيكا طفل بمثل هذه الهيئة، لكانت المديرة تصرخ عليه يوميًا:
“افتح عينيك جيدًا، قف مستقيمًا أيها الصعلوك!”
وذلك الوجه نفسه، الذي كان في هيئة إنريكي باعثًا للأوهام، صار الآن في هيئة غارسيا ذا مسحة صعلوكية.
كأنك تشعر أن هذا الرجل، بوسامته وحدها، أضاع حياته عبثًا.
وإن دققت أكثر في طباعه الماجنة، لا يبعد عن ذهنك سؤال: “أترى أنه محتال نساء؟”
“هيه، يا ذات ذيل الحصان.”
قطع غارسيا أفكار مونيكا حين ناداها. فرمقته بعينيها الحادتين.
“لستُ ذات ذيل حصان.”
“صحيح… اليوم لستِ كذلك. ولا حتى ذات طحلب الرأس.”
ابتسم غارسيا ابتسامة عريضة غير متوقعة، ثم أخرج سيجارًا من جيبه بعادة مألوفة، عضّ طرفه ونظر إليها متفحصًا من رأسها حتى قدميها.
“سمعت أن لويس ذاك المغفل اشترى لك بثياب باهظة. صفقة مربحة، بدل تلك الشرائط التافهة.”
لويس؟ لا شك أنه يقصده هو بلفظة المغفل. ردّت مونيكا ببرود:
“أي صفقة مربحة؟ لقد جرحتُ ركبتي حتى أهلكتها من. أهذا يسمى ربحًا؟”
“ركبة رخيصة مقابل ثوب لن تناليه أبدًا مهما كدحتِ طوال في حياتك؟ نعم، هذا ربح صافي.”
يا لهذا الوغد!
من فورها رفعت مونيكا قدمها وركلته في ساقه ركلة قوية.
كانت حذاؤها مدعّمًا بالمعدن في مقدمته ليدوم طويلًا، فكان الألم مضاعفًا. ولم يكن غريبًا أن يصرخ غارسيا بصوت مكتوم:
“آخ!”
ومن تلك اللحظة، تظاهر أندريه أنه لا يرى شيئًا.
*ههههههههههههههه، هذا الفصل قتلني*
“أيتها المجنونة! هل فقدتِ عقلك؟!”
زمجرت مونيكا: “لو لم يكن هنا جمع من الناس لشجّتُ رأسك الآن، وانتزعت منك ثمن تلك الملابس عنوة. أفهمت؟”
تجمدت ملامح غارسيا، وكأنه لا يصدق ما يسمعه.
“أي لسان هذا لامرأة! هل تعاملين لويس المغفل، أو إنريكي المتغطرس، بالطريقة ذاتها؟”
لويس هو “المغفل”، وإنريكي هو “المتكبر”، لا شك في ذلك. فكرت مونيكا، ثم قالت ساخرة:
“أحترمهما غاية الاحترام! أحملهما على كتفي حملاً إن شئت!”
“ولماذا أنا وحدي تنقلبين عليّ هكذا، أيتها الجنية الشرسة؟!”
“لأنك أنت من يبدأ بالوقاحة! ما معنى ‘ركبة رخيصة’؟ ما إن تلتقيني حتى تثير المشاكل!”
“مهلاً! لم أقصدها إهانةً بل…”
ضرب غارسيا صدره بيده وكأنه يختنق من الغضب.
صرخت مونيكا مشيرة إليه بإصبعها:
“ألم يكن ذلك استفزازًا صريحًا؟ ومن تكون لتخاطبني بهذا الأسلوب؟ أتعجز عن نطق اسمي؟!”
تأفف غارسيا وقال بانزعاج:
“لا أعرفه!”
“…ماذا قلت؟”
“قلت لا أعرف! يا هذه… يا ذات ذيل الحصان ! في ذلك اليوم أنت من ركضت مبتعدة في الساحة. كيف لي أن أعرف اسمك إذن؟ بماذا تريدينني أن أناديك؟”
هل كان الأمر كذلك؟ أطبقت مونيكا شفتيها، وأدارت عينيها تتذكر… ربما كان محقًا.
انفجر غارسيا مجددًا وكأنه مظلوم وقال:
“أنت لم تخبريني باسمك حتى. أأنا ساحر؟ عرّاف؟ كيف لي أن أعرف اسمًا لم تخبرني به لأُناديك؟”
فأجابته:
“……ألم يخبرك السير لويس أو السير سوليفان؟”
عند هذه الكلمات، تردد غارسيا قليلًا.
آه، لقد أخبراه بالفعل. عندها ضيّقت مونيكا عينيها.
“سمعت، فلماذا تتظاهر بالجهل؟”
“……لم أسمع!”
*غارسيا مفعل وضع ظلام ما اسمع ههههه *
“سمعتَ جيدًا!”
“تبًّا لك! ما سمعتُ ذلك الاسم التافه!”
وهنا فقدت مونيكا أعصابها حقًا وانفجرت:
“ذلك، على الأقل، اسمُ أميرة، أتفهم؟!”
لكن ملامح غارسيا ازدادت غرابة.
“وأيُّ أميرة في الدنيا تحمل اسمًا سخيفًا كهذا؟”
اسم تافه؟!
مونيكا أصابها الغيظ أكثر، إذ لم تكن تحب أصلًا لقب “أوفن” الذي تحمله، وها هو الآن يستهزئ باسمها أيضًا.
وضعت يدها على صدرها وصرخت من غير وعي:
“لماذا! ما العيب في اسم مونيكا؟!”
عندها ارتبك غارسيا قليلًا.
رمشت مونيكا بعينيها، وسرعان ما، بعد لحظة من التفاهم غير المباشر، أدركت أن لويس قد كتب في مذكّراته اسمها على هيئة “حبيبتي موني موني”.
رفعت يدها إلى جبينها المتألم وقالت:
“ذلك الموني موني المزعج… أيعقل أن يكون ذلك هو اسمي الحقيقي؟”
ابتسم غارسيا ساخرًا وقال:
“ها هي العزيزة صاحبة اللسان السليط تكشف أنها مدلّلة فعلًا. جرّبي أن تدخلي أي نُزل على قارعة الطريق، ستجدين أمثال هؤلاء الفتيات الرخيصات يلتصقن بالزبائن بأسماء كهذه.”
قهقهت مونيكا بمرارة. مدلّلة؟ هي؟ رفعت بصرها إليه بدهشة، فإذا به يقطب وجهه وهو ينظر إليها من الأعلى.
التعليقات لهذا الفصل " 46"