لكي تُنسيه أمر شارلوت كوديلير، بذلت مونيكا جهدًا كبيرًا.
وقد نجح الأمر بالفعل. إذ أن الرجل الذي بدا شاحبًا بهالات تحت عينيه لم يستطع أن يواصل عناده بسبب الإرهاق.
“ما الذي جاء بك إلى الشاطئ؟”
“لأتقدّم بخطبة.”
“لي أنا؟”
سارعت مونيكا بعد أن رأت تعبير وجه الرجل:
“كنت أمزح.”
“هذا ليس مضحكًا.”
‘ألا يمكنه أن يضحك قليلًا!’
بدلًا من الرد، أشار الرجل بذقنه نحو الجهة الأخرى.
عند نهاية الشاطئ، كانت هناك خيمة فاخرة يجلس فيها بعض الأشخاص يستمتعون بوقت شاي.
بفضل بضع كلمات مقتضبة من إنريكي، علمت مونيكا أن ذلك اجتماع خاص بمسابقة السباحة.
ويبدو أن مسابقة السباحة في لاسبيتسيا كانت تحظى بشعبية أكبر بين الرجال مما توقعت.
“الجميع جادون جدًا فيما يفعلون.”
“ربما يكون هذا أفضل لهم من صيد الثعالب.”
“لماذا؟”
“لأن إطلاق النار في الحرب يجيده العامة أكثر منهم. لذلك صار من المرهق أن يستعرضوا رجولتهم التافهة بالبنادق.”
كانت نبرة صوته ساخرة، لكن مونيكا أومأت برأسها.
كلامه لم يكن فيه خطأ.
فالضباط عادةً ما يبقون في الخلف للقيادة بدلًا من أن يتقدموا إلى الجبهة.
حتى في مستشفى أرڤيد كان معظم من يُنقلون هم الجنود العاديون من الصفوف الأمامية.
“لكن…” قالت مونيكا وهي تنظر حولها بتردد،
“أنت لا تتقدّم لخطبة الآنسة موليه وحدها، صحيح؟”
قهقه الرجل ساخرًا:
“لو قالها غيرك لكنت تحدّيته في مبارزة.”
“ماذا؟”
“صحيح أن المجتمع الأرستقراطي معتاد على أن يقارن بين أكثر من شخص ليرى من هو المناسب للزواج، لكن في حالتي صار الأمر موضوعًا للثرثرة، وذلك لا يبعث على السرور.”
وكان يعني أن عائلة سوليفان أصبحت موضع سخرية.
“يقولون إنهم لا يكتفون ببيع الابن، بل يعرضونه في أجمل صورة ويطوفون به كما يفعل الباعة المتجولون. حتى أن إحدى الصحف شبّهت قلعة إريدريا بمتجر بقالة، وكانت الصورة الكاريكاتورية مقنعة للغاية.”
ارتبكت مونيكا واعتذرت:
“آ… آسفة جدًا، لم أكن أعلم.”
“الآن أصبحتِ تعلمين.”
لوّح الرجل بيده بخفة ثم أخرج سجارة ووضعها بين شفتيه.
لكنه، بعدما ألقى نظرة نحو مونيكا التي كانت قد خفضت رأسها بخجل، أعادها إلى علبتها.
ساد صمت قصير بينهما.
لكن الصمت كُسر برياح البحر التي هبّت فجأة.
فقد طار بعض الرمل في عيني مونيكا، فصرخت: “آه!” وأغمضت عينيها.
دخل الرمل في عينيها، فأخذت تفركهما بقوة. عندها نقر الرجل بلسانه وقال:
وفي اللحظة التالية، اقترب إنريكي منها ونفخ بسرعة في عينيها.
“آخ!”
صرخت مونيكا دون قصد وتراجعت إلى الوراء حتى جلست أرضًا.
“……لو رآنا أحد لظن أنني أطلقتُ عليكِ سهمًا مسمومًا.”
“لا يتعلق الأمر بذلك!”
“ليس كذلك؟”
لم تستطع أن تقول:
‘فقط لأن وجهك اقترب فجأة هكذا أخفتني…’
فاكتفت بعضّ شفتها.
حتى لو باحت له بذلك، فذلك الرجل ذو الملامح الباردة لن يفعل شيئا سوى السخرية منها.
“فقط… لقد فعلت ذلك فجأة.”
“كان عليّ إذن أن أتصرف وكأني أرافق أميرة ثمينة.”
لماذا يا ترى…؟
تملّكها شعور قوي بالديجا فو.
*الإحساس بأنها رأت هذا من قبل *
وبلا وعي، حدّقت مونيكا في إنريكي
.
وعيناه الزرقاوان المليئتان بالإرهاق والصرامة كانتا تحدقان بها أيضًا، قبل أن يرفع حاجبيه باستغراب.
كاد يقول شيئًا، لكن سرعان ما غطّى تعابيره بطابع ماكر.
“ما الأمر يا آنستي الجميلة؟ هل كنتُ فظًا جدًا؟”
قطّبت مونيكا حاجبيها وأشاحت بذقنها للخلف بانزعاج.
لم تهتم إن تجعّد فكها، فقد أرادت أن يقرأ من تعابير وجهها استياءها الداخلي.
لكن إنريكي ضحك بخفة وزاد في مشاكسته.
“وكيف لي أن أنال مسامحتك يا سيدتي؟”
يا لها من نبرة متصنّعة! دفعها هذا الشك المفاجئ إلى أن تسأل فجأة:
“مجرد سؤال… أنت لست لويس، أليس كذلك؟”
بمجرد أن نطقت بذلك، ظهر في عينيه الزرقاوين أثر خفيف من الغضب.
“يبدو أن عليّ أن أتوقف. كلامك هذا أزعجني أكثر مما توقعت.”
“……لأنك تتكلم بطريقة لا يقوم بها إلا لويس!”
وأصبح الجو بينهما محرجًا أكثر من اللازم. نظر إنريكي إلى البحر بطرف عينيه ثم نهض واقفًا.
قال:
“عليّ أن أذهب. لقد تركت مقعدي فارغاً لفترة طويلة.”
“آه، نعم.”
نهضت مونيكا بدافع غريزي هي الأخرى.
أما إنريكي فقد رتّب ملابسه بهدوء ورحل عن المظلّة دون أي تردّد، حتى أن مغادرته السريعة تركت في قلبها شيئاً من الخيبة.
ظلت مونيكا تحدّق في ظهره الذي يبتعد شيئاً فشيئاً، ثم حولت نظرها إلى البحر.
كان مارتينيل لا يزال يلهو بمرح، لكن بدا عليه بعض الإرهاق. وبما أن بيل أخذ يلتفت نحوهم، فقد كان من الواضح أنّه سيخرج قريباً ليجفف جسده.
في اللحظة التالية، اندفعت مونيكا تجري على الرمال بدافع لم تستطع مقاومته.
كانت تركض بسرعة جعلت قبعتها القشية، المربوطة بإحكام، تتأرجح بعنف.
“يا سيدي!”
التفت “ذلك الشخص” إلى الوراء.
ولسبب غريب، انطبع المشهد في عينيها كلوحة لا تُنسى:
السماء الزرقاء البراقة تتناثر فيها غيوم خفيفة، والرمال الذهبية تتلألأ وتعلوها مظلات ملوّنة، الأطفال بوجناتهم المتوردة يركضون ويضحكون، هتافات عالية، زبد أبيض يتكسر فوق الرمال مع الأمواج الزرقاء، والشمس المعلّقة في الأفق، والنسيم المالح القادم من البحر.
وفي وسط ذلك كله… رجل شاحب يقف هناك.
بين الظلال والنور الفاصلين بحدة، برزت الندبة أسفل عينه اليمنى.
وخصلات شعرها الأسود –التي حسبت أنها رتّبتها بعناية– انطلقت تضرب خدها مع الريح.
في العادة، كانت ستزيحها بيدها بانزعاج، لكن مونيكا لم تفعل، بل تابعت جريها، تركل الرمال الحارقة التي تتسرب إلى داخل حذائها البالي. وأخيراً توقفت أمامه.
قال ببرود، يكاد يكون جافّاً:
“ماذا هناك؟”
أعادها سؤاله الصارم إلى رشدها فجأة.
من دون قصد، انحنت مونيكا تخفي وجهها المشتعل خلف حافة قبعتها.
كأنها كانت تريد أن تقول:
ألا تعرفني؟ لم تتصرف معي بهذا البرود؟
أنا أعرفك… أو هكذا أشعر.
لكن الكلمات علقت في حلقها ولم تخرج.
تظاهرت بأنها تلتقط أنفاسها، محاولة أن ترتب فوضى رأسها، قبل أن تنطق بكلام مرتبك:
“هل… هل تعلم؟ عندما كنت في الميتم…”
ارتعشت عينا الرجل قليلاً. لا بد أنّ السبب هو وهج الشمس.
ومع ذلك، تابعت مونيكا كلامها بوضوح مبالغ فيه:
“كان المدير يشرب شيئاً أحياناً، يقول إنه يساعد على النوم إذا خلطه بالخمر… فيه نكهة نعناع. وكنت أنا أعدّه
أحياناً للمرضى في مستشفى آرفيد، لأولئك الذين لم يمكنهم استخدام الدواء…”
قال ببرود:
“لن يفيد شيئاً.”
أجابت بإصرار، محاولة أن تتمالك نفسها:
“إلى أن يصل رد الرسالة… جرب ذلك على الأقل.”
ساد صمت قصير، ثم رد إنريكي:
“لن يفيد، هذا مؤكد. لكن… إن كان غرضك فقط تمضية الوقت ريثما تأتي الوصفة، فسأعتبره جميلاً منك وأتقبله.”
خاب أملها، ربما لأنها كانت تنتظر جواباً آخر. تهاوت قواها للحظة، لكن الرجل واصل بصرامة قاسية:
“لقد استيقظت اليوم فقط… وأظن أنني لن أستطيع النوم ثلاثة أيام متواصلة. الأمر أشدّ إلحاحاً مما تظنين.”
“ن-نعم…”
“سآخذ ذلك منك عندما نلتقي المرة القادمة.”
أرادت أن تقول: أستطيع أن أعطيه لسكرتيرك الآن!، لكن قبل أن تتفوّه بالكلمة، كان إنريكي قد استدار وابتعد من جديد.
خرجت من فمها كلمات مبتورة:
“آه، أنا… ذلك…”
ثم لم تجد ما تضيفه، فعادت بخطوات ثقيلة.
“مونيكا! أين كنتِ؟”
لم تدرك أنها قد ابتعدت كثيراً وهي تركض.
كان مارتينيل، الذي خرج تواً من الماء ليجفف جسده مع بيل، يرحب بها ببهجة.
ابتسمت مونيكا بتكلّف:
“ظننت أنني رأيت شخصاً أعرفه.”
“هنا؟ لكنك من العاصمة، مونيكا.”
“صحيح… لكن يبدو أنه لم يكن هو.”
“رائع! لا بد أنه يشبهه كثيراً.”
كان مارتينيل يندهش ببراءة، بينما مونيكا، وقد خبت طاقتها، اكتفت بإخراج منشفة أخرى من السلة لمساعدة بيل على التجفيف.
بعد برهة طويلة، خرج صوتها خافتاً:
“…نعم.”
كانت الشمس لا تزال حارقة، وبيل يتذمر من الحرّ، وهو عجوز لم يعد يحتمل القيظ.
وعندما اقترح العودة إلى المنزل، وافق مارتينيل بسرعة وصعدوا العربة.
“لم يتبق سوى أيام قليلة على مسابقة السباحة، لكن من أجل بيل، سأكتفي بهذا القدر من التدريب.”
قالت مونيكا: “شكراً، سيدي.”
ابتسم الفتى قائلاً
:
“لكن عليك أن تشربي معي شايًا مثلجًا بالثلج حين نعود إلى القصر!”
“طبعاً، بالتأكيد.”
في الأوقات العادية، كانت مونيكا ستقبل بامتنان كرم هذا الفتى طيب القلب. لكن هذه المرة، كانت مرهقة أكثر من أن تبدي أي مشاعر.
أسندت رأسها إلى نافذة العربة، تتابع كلمات الاثنين كأنها أصوات بعيدة.
السائق يتثاءب وهو يلوّح بالسوط فوق الخيول. العجلات تدور فوق الطريق: دقّ، دقّ، دقّ.
وفجأة، غاص فكرها في الماضي… إلى الجندي الذي اختفى في ساحة المعركة ولم تره بعدها أبداً.
جندي لم يبق منه سوى شظايا من قلادة عسكرية، حتى اسمه لم يعد مقروءاً بالكامل.
كان متشائماً مثلها، ومع ذلك… في بعض اللحظات، بدا رومانسياً على نحو غريب.
كان قاسياً معظم الوقت، لكنه كان يعتذر منها أحياناً بصدق. كانت تسميه “سول”.
سول… ذلك الاسم المحفور على القلادة المكسورة.
قالت له يوماً:
“ستتعافى. ستنسى أشخاصاً مثلي، وتحيط بك فتيات جميلات، مرحات، تستمتع معهن تحت أشعة الشمس. وعندما يحدث ذلك… عليك أن تعتذر لي. مفهوم؟”
فأجاب ساخطاً:
“ما زلتِ تذكرين موضوع الاعتذار؟”
“انتظر وسترى… ستندم على ذلك بالتأكيد!”
ضحك ساخرًا:
“لو كنت أعلم أنك ستكونين بهذا الإصرار المزعج، لعاملتك كأميرة مدللة من البداية!”
فتيات جميلات، مرحات، يستمتع معهن تحت أشعة الشمس…
من نافذة العربة، لمحت الشاطئ يبتعد.
ومرّت أمام عينيها المظلات الملوّنة التي رآها من قبل. وفي ومضة عابرة، رأت بوضوح:
رجل أشقر يلمع تحت الشمس، تحيط به فتيات فاتنات، والبحر الأزرق يضرب الشاطئ من خلفهم.
كان مشهداً مسالماً حدّ القسوة… ورومانسياً بشكل لا يُحتمل.
᯽᯽᯽᯽᯽᯽᯽᯽
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 43"