مسح هانس العرق المتجمع تحت أنفه من شدة الحر وهو يلهث، ثم اتسعت عيناه وابتسم ابتسامة متكلفة.
“أوه، يا للعجب. لقد جئت للتو لقطف بعض الأعشاب لاستخدامها في عشاء السيدة.”
“آه، هكذا إذن.”
ألقت مونيكا نظرة سريعة على يدي هانس. كانتا فارغتين، وكأنه شعر بتلك النظرة فأضاف بتبرير مرتبك:
“لكن يبدو أن الأعشاب لم تنمُ بما يكفي بعد. لذا كنت في طريقي للعودة.”
بدا عليه الارتباك، كأنه لا يعرف ماذا يقول أمام مونيكا.
وفجأة، تذكرت مونيكا كلام ماريا. ربما كان من الأفضل لو لم تبادر بالكلام معه… لكن هناك سؤال آخر كان عليها طرحه.
“بالمناسبة، سيد هانس. هل يوجد في حديقة الخضروات نعناع؟”
“نعناع؟”
خلف غرفة الغسيل، حيث لم تلتفت أعين السادة عادة، كانت هناك حديقة صغيرة. لم يكن واضحًا إن كانت عائلة موليه تعرف بوجودها، لكن تلك الحديقة كانت واسعة إلى حدٍّ ما، ونمت فيها شتى أنواع النباتات.
استخدمتها الخادمات جيدًا؛ فكن يزرعن الطماطم والبطاطس التي تثمر في الصيف، وحتى بعض الأعشاب الطبية.
“على الأرجح لا.”
أجاب بلهجة جافة بعض الشيء، جعلت مونيكا تشعر بالحرج.
ربما ضايقته لأنها شغلته بالحديث وهو يعمل في يوم حار… غير أن هانس مسح وجهه فجأة وأظهر ابتسامته المعتادة، كأنه صار شخصًا آخر.
“لدي صديق يعمل في قصر مجاور، قد يكون لديهم هناك. هل ترغبين أن أسأل من أجلك؟ هل تحتاجين إلى نعناع طازج؟”
“لا داعي لذلك… حقًا.”
كان غريبًا، لكنها لم ترد أن تدين له بمثل هذه الخدمة.
فهي تستطيع شراء النعناع من السوق بسهولة.
وقف هانس بتردد وكأنه يريد قول شيء آخر، لكن فجأة عاد صوت الموسيقى يعزف من جديد.
رفعت مونيكا بصرها بلا وعي نحو قاعة الطابق الثاني ذات النوافذ الواسعة المفتوحة على مصراعيها.
كانت تلمح بين الحين والآخر أجسادًا تتحرك خلف الدرابزين.
ولمَ كانت تبحث بين الحضور، بلا سبب، عن خصلات شعر ذهبي لامع؟
“آنسة مونيكا، هل ترغبين بالذهاب إلى حفلة مثل تلك؟”
باغتها سؤال هانس، فاستدارت نحوه مذعورة. كان قد نزع قبعته يهوّي بها على وجهه، بينما عيناه مثبتتان عليها.
“حتى أولئك الخادمات المتكبرات، ما إن يُقام حفل في القصر حتى لا يتحدثن إلا عنه. يبدو أن النساء جميعًا يعشقن مثل هذه الأمور.”
“مثل ماذا؟”
“ألا تفهمين قصدي؟ أقصد السادة الذين يتباهون بلا معنى بملابسهم الفاخرة، والسيدات الراقيات اللواتي يغطين أفواههن بالمراوح ويضحكن بلا توقف.”
بصراحة، كانت مونيكا هي الأخرى أحيانًا تشعر بالنفور من أولئك المتعالين.
هؤلاء الذين لا علاقة لهم في حياتهم لا بالملابس البالية ولا بالأسرّة القذرة، بأناقتهم الباذخة المفرطة.
كانت تذكر كيف أن بعض النبلاء كانوا يزورون دار الأيتام بحجة الدعم، ثم يرحلون بعد أن يتصرفوا بغطرسة لساعات. بعد ذلك، كانت تمضي أيامًا مع الأطفال في السخرية منهم.
حتى منذ لحظات، كانت قد لامت لويس في سرها على سذاجته حين تحدث عن خطبته باعتبارها أمرًا رومانسيًّا، غير مدركٍ لوضعها الحقيقي.
لكن الغريب أنّ كلمات هانس هذه المرة أثارت بداخلها رفضًا عميقًا.
لماذا؟
سرعان ما أدركت السبب. فهانس لم يكن يسخر من النبلاء فحسب، بل كان يسخر منها أيضًا.
وكأن ما يقصده:
“أنتِ لن تصبحي يومًا واحدةً منهم، فلماذا تحدقين بهم إذن؟”
غير أنها لم تستطع الرد عليه مباشرة. ربما كان ذلك مجرد إحساس نابع من عقدة نقصٍ كامنة في داخلها كيتيمة.
كما أنها لم ترغب في الدفاع عن النبلاء، لكنها خافت أيضًا أن تبدو في عينيه امرأةً سطحية مهووسة بالترف.
كلمة تعلمتها في دار الأيتام:
احذري الغرور.
عضّت مونيكا شفتيها وهزّت رأسها نفيًا فقط.
ابتسم هانس ابتسامة ساخرة.
“في الحقيقة، من دون الخادمات، لما تمكنت تلك السيدات من ارتداء ملابسهن الفاخرة أصلاً.”
كان هذا تعليقًا شائعًا بين الخدم، ومع ذلك بدا كلامه ثقيلاً على مسامعها.
ثم بدأ يروي بفخر عن جده:
“عائلتي تعمل في البستنة منذ أيام جدي. النبلاء يزينون كلماتهم بمديح الأزهار، لكنهم لا يعرفون مقدار الجهد والعرق المبذول لتزهر وردة واحدة.”
تمنت مونيكا أن تعود إلى غرفتها، لكنها لم تستطع مقاطعته وظلت واقفة في مكانها تستمع بصمت.
“إنهم أوغاد، يخدعون الفتيات بكلمات معسولة ثم يتركونهن! أولئك الذين لا يعرفون قداسة العمل. لا ينبغي لامرأة حكيمة أن تنخدع بمثلهم… مع أن بعضهن لا يلتفتن إليهم أصلاً.”
كان وجهه يفيض الآن بمشاعر مختلفة؛ شيء من الغضب، شيء من الاشمئزاز.
وفوق ذلك، لمحت مونيكا في أعماقه اهتمامًا بها، بل وتوقعًا معينًا.
شعرت بنفور جارح.
لكنها لم تعرف كيف تتصرف في مثل هذا الموقف.
ففي دار الأيتام تعلمت كيف تقبل معروف الآخرين بأدب، لكن لم يعلمها أحد كيف ترفضه بلطف.
ثم إنها، في أعماقها، أدركت أن هذا ليس مما يُتعلّم في دار الأيتام.
بل هو مما تعلّمه عادةً الأمهات لبناتهن. أما هي، فلم تُعلَّم ذلك يومًا.
“آنسة مونيكا؟”
انتُزعت من أفكارها فجأة، لتجد هانس أمامها، وقد مدّ يده نحوها.
تراجعت مونيكا خطوة إلى الوراء دون وعي منها وهي تطلق صرخة خافتة: “آه!”.
حدّق هانس فيها بوجه مذهول، ثم اتخذ نظرة مغبونة.
فسارعت مونيكا بالاعتذار:
“آسفة، كنتُ غارقة في التفكير للحظة فقط…”
“لا، العيب مني… لقد كنتُ…”
قبض هانس على قبعته بعصبية وهو يتظاهر بالحرج، لكن مونيكا التقطت بعينيها كيف ابيضّت أطراف أصابعه من شدة قبضته.
حاولت أن ترسم ابتسامة وهي تقول:
“لقد قلتَ ذلك حرصًا عليّ، صحيح؟ أشكرك على النصيحة. سأضعها في قلبي.”
“آه، بالطبع، نعم.”
لم تعد مونيكا ترغب في الوقوف تحت الشمس أكثر من ذلك معه، فأنهت الحديث سريعًا.
وما إن همّت بالانصراف حتى ناداها هانس مجددًا:
“آنسة مونيكا… نحن… علاقتنا بخير، صحيح؟”
“نعم؟”
“أقصد… ألم تكن كلماتي قبل قليل قد أساءت إليك أو سببت لك ضيقًا؟”
تلاطمت آلاف الكلمات في صدرها، لكنها لم تخرج. أطلقت فقط ابتسامة متكلفة وقالت:
“بالطبع، كل شيء بخير.”
تنفس هانس الصعداء وانحنى باحترام.
أما مونيكا، فابتلعت بصعوبة ما اعتمل في صدرها.
العاصفة التي بدأت في داخلها لم تولد أصلًا، بل تلاشت قبل أن تبصر النور.
رفضت رييلا تناول العشاء. فقد فقدت شهيتها بعد أن قضت فترة ما بعد الظهيرة في الحفل، تذوقت خلاله بعض الحلويات هنا وهناك.
والطقس الحار ساهم في ذلك أيضًا. صحيح أن القاعة كانت باردة بفعل الرياح التي تمر بها، لكن من غير المعقول أن تعزف البيانو أمام هذا الجمع الغفير دون أن تشعر بالتعب والحر.
دخلت بيكي تخبرها بأن البستاني هانس يطلب لقاءها.
كانت نظراتها مليئة بالريبة، كأنها تقول:
ما شأن بستاني تافه يتردد على جناح الآنسة؟ رييلا لم تستطع سوى أن تبتسم بسخرية.
“آنسة؟”
“لا بأس… أدخليه.”
دخل هانس مترددًا وهو يخلع قبعته. انتشر في الغرفة على الفور عبق غريب صادر من قميصه المشبع بالعرق.
وضعت بيكي يدها على أنفها متعمدة، ثم انسحبت بسرعة من الغرفة.
أما هانس، فكان محمرّ الوجه حتى رقبته وهو ينحني.
“المعذرة، لقد عملت طوال اليوم…”
“لا بأس، ما فعلته كان في خدمة عائلتنا.”
ابتسمت رييلا برفق.
عندها بدأ هانس يسرد على الفور ما رآه بأم عينه:
عن مونيكا أوفن، التي تجرأت على سرقة اهتمام خطيبها المحتمل، بل ورقصت معه سرًا في زاوية من الحديقة، وكأنها في حفلة تخصها.
اضطرت رييلا أن تكبح عشرات المرات غضبها كي لا ينفجر.
“وهل هناك شيء آخر؟”
“آه… لا. بعد ذلك تفرقا. السيد الشاب عاد وحده إلى القاعة، والآنسة مونيكا إلى غرفتها.”
“إذن لا جديد؟”
راح هانس يراقب ملامحها بعين حذرة، يخشى أن يخطئ في إثارة مزاجها.
لكنه لم يستطع أن يخفي بريق الاحتقار والتفوق الذي يطل من عينيه نحوها.
ذلك وحده كان كفيلًا بإغاظتها أكثر.
“آنسة مونيكا لا تبدو مهتمة كثيرًا…”
“وكيف عرفتَ أنت هذا؟”
لم تستطع رييلا كبح لسانها هذه المرة.
فأجاب هو مرتبكًا وكأنه يبرر:
“لقد… لقّنتها درسًا، آنسة!”
“درسًا؟!”
أيّ هراء هذا؟
اعترف هانس بأنه ألقى على مونيكا خطبة طويلة عن الفتيات التافهات اللواتي ينسجن أحلام الزواج من النبلاء.
وقال إنه وعظها حتى بدت كأنها فهمت كلامه ووافقت عليه بجدية.
ومع نهاية حديثه، صار يتباهى وكأنه حقق إنجازًا.
قطبت رييلا جبينها.
“لقد تعمدتَ أن تظهر ذلك بوضوح شديد.”
“عفواً؟”
“لماذا لا تقولها مباشرة؟ أنك كنتَ تراقبها.”
“مستحيل! متى فعلتُ ذلك!”
وثب هانس محاولًا الدفاع عن نفسه. كانت رييلا تغلي من الغضب.
كادت أن تسبّه علنًا، لكنها تماسكت.
ثم لوّحت له بيدها أن يخرج.
لكنه بقي متردداً في مكانه، ففهمت فورًا ما يريده.
“خذ هذا.”
أخرجت بعض القطع النقدية من محفظتها وأعطته.
بدت الخيبة على وجهه واضحة، فالمال لم يكن بالمقدار الذي يرضيه.
“لقد ظللتُ تحت الشمس طوال اليوم أراقب…”
تملكتها الرغبة في الضحك سخرية.
لكنها كتمتها وأعطته مزيدًا من النقود.
أخيرًا اكتفى وخرج.
وما إن أغلق الباب حتى دخلت بيكي، فأمرت رييلا بفتح جميع النوافذ على الفور.
راحت بيكي تدمدم:
“لماذا تستدعين هانس كثيرًا مؤخرًا يا آنسة؟ اتركي الأمر لي، فأنا قادرة على القيام بمثل هذه المهام!”
لم تكن سوى غيرة وامتعاض من منظر هانس وهو يخرج كل مرة وفي جيبه نقود تتناثر.
“الأمر معقد قليلًا… ثم إنك تكرهينه أصلًا.”
“بالطبع! يثير الاشمئزاز! وكأنه يتعمد أن يترك رائحة عرقه تفوح ليثبت أنه يعمل، بينما الخدم الآخرون لا يفعلون ذلك. ثم إن لسانه لا يخلو من احتقار مستمر!”
“حقًا؟”
“نعم! وكأنه شيخ عجوز وهو لم يعش سوى بضع سنين أكثر منا. لا يكفّ عن التوبيخ والتفاخر بأنه يعمل هنا منذ عشر سنوات وكأنها مكرمة!”
واصلت بيكي ثرثرتها في ذمّه.
أما رييلا، فكانت تروّح نفسها بمروحة صغيرة محاولة أن تهدأ. لكن في ذهنها عاد مشهد الحفل بعد الظهيرة:
ذلك الرجل الوسيم وهو يرفع كأسه، والفتاة التي تشبثت بكمّه.
مونيكا.
ثم مشهد الاثنين وهما يختفيان معًا عن القاعة.
وعندما عاد ذلك الشاب وحده بعد زمن طويل، كانت عيناه تتلألآن بالمرح والانفعال.
بعكس نظراته الباردة المملة حين كان ينظر إليها هي.
“يا لوقاحتها… لا تعرف حتى قدر نفسها.”
تصاعد الغضب في صدرها من جديد.
“لابد أنها تتعمد إهانتي.”
إنريكي سوليفان لم يخبرها قط بما دار بينه وبين مونيكا.
كل ما تركه لها بديلاً هو بضع رقصات، ثم سمح للباقين أن يظنوا بأنهما على وفاق، دون أن يكلف نفسه نفي الشائعات.
لو كانت فتاة أخرى، لما اهتمت رييلا.
حتى لو خانها زوجها المستقبلي قبل الزواج وبعده، فقد كانت مستعدة لتجاهل ذلك.
كم من الرجال لهم عشيقات غير زوجاتهم؟
المهم أن تتخلص من عبء عائلة مولّيه.
لكن أن تكون تلك الفتاة هي مونيكا أوفن، فذلك مختلف تمامًا.
الفتاة اليتيمة الحقيرة، لا بد أنها أغرته عمدًا حتى أسرت قلبه.
᯽᯽᯽᯽᯽᯽᯽᯽
هلا بنات كيف الحال؟ أتمنى ترجمتي لهذي الفصول تكون حلوة و مفهومة و تناسب ذوقكم، و على فكرة الفصول واصلة للـ 53 بقناة التلغرام تبعي، الرابط في تعليقات الرواية ♫︎
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
كيم مين ها البالغة من العمر 20 عامًا ، طالبة جامعية عادية. من السخف أن تستيقظ في عالم مختلف تمامًا بعد حادث مفاجئ … ‘لماذا جاءني رجل وسيم للغاية بوجه غاضب ، وأعطاني أوراق الطلاق؟’ “ما الذي تتحدث عنه أيها الرجل الوسيم؟ لم ألتقِ بك من قبل ، ناهيك عن الزواج بك ، لماذا تعطيني...مواصلة القراءة →
كيم مين ها البالغة من العمر 20 عامًا ، طالبة جامعية عادية. من السخف أن تستيقظ في عالم مختلف تمامًا بعد حادث مفاجئ … ‘لماذا...
التعليقات لهذا الفصل " 40"