يقولون: “لا يمكنك البصق في وجهٍ باسم”، لكن أندريه في تلك اللحظة كان مستعدًا ليبصق عشر مرّات. ومع ذلك، تابع لويس سيره.
“آه، المعذرة.”
حين اصطدم بها ورفعت رأسها نحوه، اجتاحه فجأة شعور بالرغبة في مداعبتها. ولهذا تظاهر بأنه إنريكي.
احمرّ وجه مونيكا حتى غدا كالتفاحة. ربما حسبت أنّه يتجاهلها.
لكنها لم تهرب. بل حين أمسكت أطراف ردائه بخجلٍ، شعر لويس بمتعة خفية.
كان لقاء الصالة كافيًا لتعرف مونيكا أن إنريكي سوليفان رجلٌ بديع.
لكن حين جلست أمامه ثانية في الرواق الجانبي، رأته أجمل بما لا يُقاس.
ذلك الوجه نفسه، لكن الملامح اختلفت.
إنريكي التقت به غالبًا تحت ضوء الشموع في لياليٍ هادئة، أما لويس فدائمًا تحت وهج النهار، فانعكست عليه صورة أخرى.
الضوء الذهبي كان يتساقط عبر حجارة الرواق الرمادية، يغمر كتفيه العريضتين.
كان يرتدي بزةً زرقاء داكنة وربطة عنق من الدانتيل الفاخر.
قطرات العرق على جبهته، وخصلات شعره الذهبي المبعثرة، كفت لتجعل قلب أيّ فتاةٍ حالمة يخفق بلا هوادة.
“اجلسي، موني.”
فكّ لويس ربطة عنقه العريضة بلا تردّد، وفرشها إلى جواره.
إشارةً لها بالجلوس.
ولم تتردّد مونيكا.
لو كان إنريكي هو من دعاها، لارتبكت واعتذرت، لكن لويس بدا أقلّ احراجا.
وما إن جلست حتى رفعت عينيها إليه بثبات.
ابتسم لويس ابتسامةً هادئة.
“لماذا تحدّقين بي هكذا؟”
“أممم…….”
تردّدت قليلًا، ثم قالت وهي تغوص في زُرقة عينيه:
“غريبٌ… أن يرى المرء هذا الوجه وهو يبتسم بتلك الطريقة.”
لويس فهم تمامًا ما قصدته.
وضحك ضحكة قصيرة وهو يُصغي إلى عزفٍ متصاعد من القاعة.
وحين تذكرت مونيكا وجه رييلا الغاضب من قبل، انفجرت هي الأخرى بضحكةٍ صغيرة.
“أندريه يقول الكلام نفسه كل يوم.”
“آه، تقصدُ السكرتير.”
أومأت مونيكا وهي تتذكره بنظارته الجامدة.
فأكمل لويس:
“يقول إن كنتُ سأستخدم هذا الوجه بهذه الطريقة، فالأجدر أن أذهب إلى القاعة وأغوي كل الفتيات هناك، ثم أختفي.”
“هاه؟”
“طبعًا، من سيتحمل العواقب هو إنريكي.”
“وهل تنوي فعلها فعلًا؟”
سألت مونيكا وهي تبتسم بمكر.
فأجابها لويس بغمزةٍ صامتة.
ثم قال:
“أظن أنّ عليّ أن أعتذر منك، أليس كذلك؟”
وفهمت مونيكا على الفور.
كان يقصد المرة التي التقيا فيها في السوق التجاري، حين شدّها إلى ظلّ المباني ليُجنّبها مواجهة سيداتٍ من الطبقة الراقية.
ابتسمت باستخفاف.
“أفهمك. لو كنتُ مكانك، لفعلت الشيء ذاته. فمهما يكن، إنريكي في طور البحث عن عروسٍ مناسبة، ولم يكن ليُعجب الناس أن يروا لويس يتجول برفقة فتاةٍ مثلي في الأسواق.”
ابتسم لويس بهدوء، وقال:
“فلتظني إذن أننا لم نلتقِ إلا بفعل سلسلةٍ من الصدف الجميلة.”
“أيها العاشق العابث.”
عقدت ذراعيها وزمّت شفتيها معاتبة.
ففتح لويس ذراعيه بحركةٍ مسرحية وقال:
“لكنها تبدو كأنها قَدَر، أليس كذلك؟ أنتِ التقيتِ بي أولًا، ثم بجارسيا، ثم عدتِ لتلتقي بي مجددًا، وأخيرًا بإنريكي. أول مرة رأيتك عند الميناء كان حقًا…….”
“كفى، لويس.”
دفعت جبهته بخفة بأصبعها.
“مهما تُزيّن كلامك فلن أنخدع. لا تُسرف في نثر الكلمات عليّ وأنت لا تحمل لي أيّ مشاعر.”
“وماذا نثرتُ بالضبط؟”
أخذ لويس يتظاهر بتفحّص الأرض.
فأجابته مونيكا بصرامة:
“مثلَك يُقال عنه إنه يترك وراءه ما يتساقط. وما يتساقط، دعني أقولها صراحة، هو القلوب.”
ضحك لويس وقال:
“لكن، أليس من شيم السيدات أن يلتقطن ما يسقط ويعدنه إلى أصحابه؟”
فردّت بابتسامة ماكرة:
“الأشياء التي تُسقط عن عمد تحمل دائمًا نوايا خفية، لويس.”
ثم أضافت بسرعة:
“ثم إنقول مثل تلك الأشياء على نحو متهور يجلب المصائب، هذه هي قاعدة العالم.”
فأجابها لويس بخفة، ممزوجًا بابتسامة:
“لكن، ماذا لو كنتُ قد وقعتُ فعلًا في حبكِ بجنون؟!”
راود مونيكا خاطر ساخر، بأنها لو استطاعت أن تهوي على جبهة هذا المستهتر العابث بقبضة يدها لتترك له أثرًا، لكان أمرًا مُرضيًا للغاية.
لكن سرعان ما استبدّ بها قلقٌ مختلف: ماذا لو استيقظ في صباح اليوم التالي إنريكي سوليفان، بعد أن يستعيد جسده ووعيه، ليتساءل بدهشة عن تلك العلامة الحمراء الصغيرة التي ظهرت فجأة على جبهته؟
وماذا لو أن هذا “الوجه الآخر” من شخصيته، الذي يشارك إنريكي كل ما يعيشه، قام بنقل الخبر كاملًا إليه: أن مونيكا قد ضربته على جبينه بعنف؟
لم تكن مونيكا من ذوات النفوس المغامرة، ولهذا لم تفعل شيئًا، بل تراجعت قليلًا إلى الوراء وهي ترسم على وجهها تعبيرًا باردًا ساخطًا.
“عادةً حين يقول لي الرجال كلمات كهذه، فإنها لا تكون مقدمة لأحاديث سارة.”
ابتسم لويس ابتسامة عريضة، ثم قال بمبالغة مسرحية:
“يا إلهي، يا موني موني، أهذا اعتراف بالحب أُعلن لكِ؟!”
وبهذا الوجه الجميل وهو يتحدث عن الحب، ألا يُعتبر ذلك بحد ذاته مؤثرًا؟!
أخذ يضع كفه تحت ذقنه ويغمز بعينيه أمامها وكأنه يتعمد إغاظتها.
رغم أن من المدهش أن يلهو شخص ذو ملامح وسيمة بذلك الشكل الطفولي، فقد كان هذا المشهد كافيًا ليُفهم مونيكا حجم معاناة أندريه ريجيس مع لويس.
قال لويس وهو يميل بجسده نحوها، عاقدًا ساقيه العريضتين:
“دعيني أسمع إذًا، إلى أي مدى كانت تلك الأحاديث غير سارّة؟”
لكن مونيكا لم تتردد، بل مدت كفها بكل بساطة ودفعته في وجهه الوسيم بعيدًا عنها، ثم ردت ببرود:
“أسوأ ما قيل لي في حياتي كان… عرض زواج.”
انفجر الشاب الأشقر ذو العينين الزرقاوين ضاحكًا ضحكًا صاخبًا.
“يا للعجب! أيّ حياة قاحلة هذه التي عشتِها يا موني موني!”
أن تقول فتاة في ريعان شبابها إنّ أسوأ ما سمعت هو عرض زواج؟ هذا لا يُصدق!
ضحك حتى كاد يسقط أرضًا وهو يفك ساقيه المتشابكتين ويضرب الأرض بقدمه من شدّة الضحك.
“في مثل سنّك، من الطبيعي أن تحلم الفتيات بطلب زواج رومانسي، لا أن يعتبرنه كارثة! لم أسمع بشيء كهذا في حياتي.”
ثم أشار بيده إلى الأعلى، نحو السقف، يقصد الطابق الثاني دون أن يسميه.
“حتى الفتيات هناك، جئنَ إلى هذا المكان على أمل أن يتلقين عرض زواج.”
ردّت مونيكا بوجه جاد وقد بدا الغضب على ملامحها:
“ذلك لأنهن من بيوت نبيلة. لكن ما المضحك في الأمر أصلًا؟”
ضحك لويس أزعجها حقًا، فتراجعت وجلست بعيدًا عنه قليلًا بعلامات امتعاض واضحة.
عندها فقط توقف عن الضحك، وأمسك يدها ليقرّبها منه، ثم انحنى عليها ليقبّلها بخفة.
“آه، يا موني موني. سامحيني. فقط كنتُ أرى أن فتاة رقيقة مثلك لا يليق بها أن تبدو متصحّرة القلب تجاه الحب.”
قالت مونيكا بصرامة:
“ذلك رأيك وحدك.”
فأجابها بجدية هذه المرة:
“أنا حقًا آسف يا مونيكا. أخبريني قصتك. سأستمع بصدق.”
وما لبث أن جثا على ركبتيه أمامها.
قالت بارتباك وهي تحاول ثنيه:
“لا، لا داعي لأن تجثو هكذا…”
لكن بدا أنه مصرّ على البقاء هكذا حتى تتكلم، الأمر الذي جعل وجه مونيكا يزداد احمرارًا خشية أن يراهم أحد في هذه الوضعية الغريبة.
فالتفتت حولها بقلق، ثم أخيرًا بدأت تتحدث بصوت خافت:
“ليست قصة عظيمة. كنتُ ممرضة… وأحد المرضى الذين كنتُ أعتني بهم تقدّم لخطبتي.”
كان من عائلة غنية.
لو قبلت به، لما اضطرت إلى القلق بشأن عملها أو مستقبلها أبدًا.
لكنها لم تشعر في ذلك العرض بذرة رومانسية، بل كان كغارة مباغتة تريد أسرها إلى الأبد.
قالت بمرارة:
“كان أشبه… بالهجوم.”
“هجوم؟”
“أن يظهر فجأة، ليأخذ فتاة يتيمة مثلي، ويُخفيها داخل بيت قديم كئيب، ثم يحتفظ بها إلى الأبد… هكذا بدا عرضه.”
لويس كان يستمع بتركيز، لكن في داخلها، مونيكا فهمت أنه قد لا يستوعب تمامًا.
فالجميع هنا، كل هؤلاء النبلاء الذين يمرحون فوق الطابق، كلهم جاؤوا إلى هذه الحفلات بحثًا عن زيجات ناجحة.
حتى الصغيرة إيزابيلا، ذات العشرة أعوام، لا تكفّ عن الثرثرة حول ما إن كانت ستتزوج من مارتينيل أم لا، مثل الكبار تمامًا.
إذن، كيف سيبدُو لهم كلامها؟ طبيعي أن يبدو غريبًا.
لكن الحقيقة مختلفة.
ذلك الشاب المريض الذي تقدم لها، كان مقدّرًا له أن يعيش حياته كلها مع إعاقة دائمة. لو قبلت به بدافع غناه، لكان عليها أن تقضي عمرها كله سجينة بجواره، تخدمه دون توقف.
لو أنه على الأقل صرّح بالأمر كـ “صفقة واضحة”، مثل النبلاء بالأعلى، وقال: “سأضمن لكِ حياة كريمة، مقابل أن ترعيني ما حييتِ”… لما اعتبرته مونيكا غارة أو هجومًا.
لكن لا. كل شيء في الموقف كان جائرًا.
هو ظنّ أن فتاة يتيمة فقيرة لا بد أن تخرّ شاكرة لقبولها من قِبله، وأنها لن تجرؤ على الرفض.
الناس كذلك لم يفهموا كيف رفضت “هبة عظيمة” كهذه.
ولذلك… هربت. تركت العاصمة، وجاءت إلى لاسبيتسيا.
ظلّ لويس مطرقًا، يضغط شفتيه مع كل كلمة تقولها. ثم نظر إليها بنظرة اعتذار، وقد خفّ بريق حاجبيه.
“لقد أساؤوا إليكِ فعلًا.”
قالت مونيكا بسخرية مرة:
“أ تظن ذلك حقا؟ قبل قليل فقط كنتَ تضحك عليّ، أليس كذلك؟”
تنهد لويس بعمق، ثم اعترف:
“أنا أيضًا أمرّ بشيء مشابه. قبل قليل فقط، جثوا عند قدمي يتوسلون… أن أساعد على إتمام زواج إنريكي سوليفان بأي ثمن، بل وحتى إن لم يمكن، فلأكن أنا العريس مكانه!”
قالت مونيكا ببرود:
“أجل، من طرف ريلا موليه، صحيح؟”
تنهد الرجل الوسيم أمامها، وأدركت أنه، مثلها، يُرغَم على الزواج.
لكنها، في أعماقها، لم تكن مقتنعة.
هل قصته فعلًا تشبه قصتها؟
هي ترى بعينيها كيف أن تلك الفتاة التي تخدمها ـ ريلا ـ لو تقدّم لها رجل كلويس بخطبة، فإنها ستغدو أسعد الناس، وستتلقّى التهاني من الجميع وهي غارقة في النشوة.
“غارقة… في النشوة؟”
لكن، ما إن تذكّرت ملامح ريلا في تلك الليلة، وهي تتوسل إنريكي بالزواج في لحظة يأس، حتى ارتجف قلب مونيكا فجأة.
᯽᯽᯽᯽᯽᯽᯽᯽
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
كيم مين ها البالغة من العمر 20 عامًا ، طالبة جامعية عادية. من السخف أن تستيقظ في عالم مختلف تمامًا بعد حادث مفاجئ … ‘لماذا جاءني رجل وسيم للغاية بوجه غاضب ، وأعطاني أوراق الطلاق؟’ “ما الذي تتحدث عنه أيها الرجل الوسيم؟ لم ألتقِ بك من قبل ، ناهيك عن الزواج بك ، لماذا تعطيني...مواصلة القراءة →
كيم مين ها البالغة من العمر 20 عامًا ، طالبة جامعية عادية. من السخف أن تستيقظ في عالم مختلف تمامًا بعد حادث مفاجئ … ‘لماذا...
التعليقات لهذا الفصل " 38"