سألت مونيكا مستغربة، لكن الرجل لم يُجب، واكتفى بالإشارة بسبابته نحو جانبها.
عندما أدارت رأسها، رأت ممرًا صغيرًا يؤدي للخارج من القاعة. لم يكن المدخل الرئيسي، بل مكانًا يفضي إلى الشرفة ومنها إلى درجٍ ينزل نحو الحديقة السفلية.
كان يقصد بلا شك أن يتحدثا في مكانٍ بعيدٍ عن الأعين.
“ولكن…”
في تلك اللحظة سُمِع صوتُ مفاتيح البيانو تُقرَع: “دونغ”.
استدار الجميع نحو مصدر الصوت، وكذلك فعلت مونيكا.
في وسط القاعة كانت رييلا قد بدأت تعزف على البيانو.
وبجوارها كان مارتينيل يقف بفخر، ويبدو أنه نهض ليساعدها في تقليب صفحات النوتة الموسيقية.
لكن، عيني رييلا لم تكونا تنظران إلى النوتة… بل كانتا مسمّرتين على هذا الاتجاه.
ارتبكت مونيكا، ثم التفتت إلى الرجل الذي كان أمامها: إنريكي.
وهناك صُدمت أكثر، إذ كان نظره لا يتجه إلى رييلا… بل إليها هي.
“اللورد سوليفان، الآن ليس…”
مال الرجل برأسه قليلاً.
مونيكا، وهي في غاية الاضطراب، عادت لتنظر نحو رييلا.
رييلا كانت لا تزال تحدّق بها، وحين التقت نظراتهما مجددًا، صرفت بصرها على الفور.
الضيوف اعتقدوا فقط أن رييلا كانت تنظر باتجاه الجمهور.
لكن مونيكا كانت تدرك الحقيقة: رييلا كانت تراقبها هي وإنريكي.
عادت مونيكا لترمق إنريكي سوليفان بنظرة جانبية.
“إن كان الأمر صعبًا، فلنؤجّله لوقت لاحق.”
كان الرجل لا يزال مبتسمًا، ويشكّل هذه الكلمات بحركة شفتيه فقط.
ترددت مونيكا قليلًا، ثم أمسكت بخفة طرف كمّه المبتل وسحبته.
وبحذرٍ كي لا يلحظ أحد، انسلت خارجًا عبر الممر.
أما إنريكي سوليفان فقد ألقى نظرةً سريعة على من حوله، وانتظر برهة من الزمن كي لا يُساء الظن في اختفائهما، ثم تبعها نحو الممر.
أسفل الدرج كان الممر متصلاً بالرواق.
هناك كانت مونيكا مستندةً إلى الحائط الداخلي، وما إن رأت إنريكي يقترب حتى خفضت رأسها.
“آسفة على تبليل كمّك… لم أنتبه.”
“لا داعي للاعتذار. فأنا من تعمّد الاصطدام بك.”
“ماذا؟”
اتسعت عينا مونيكا بدهشة.
أما هو، فبينما كان يهم بالكلام، سبقتْه هي قائلة:
“ألستَ… لويس؟”
عندها، ابتسم الرجل الذي كان يتظاهر بأنه إنريكي ابتسامة مشرقة.
“إجابة صحيحة.”
“كنتُ أعلم!”
ضربته مونيكا بخفة على صدره.
فضحك لويس ضحكة خفيفة: “هاهاها”.
ارتبكت مونيكا للحظة، لكن لحسن الحظ أن صوت البيانو غطّى على ضحكته، فلم ينتشر صداه.
“كدت أموت من الملل، ورأيتك بالصدفة… فخطرت لي فكرة التظاهر بأنني اللورد سوليفان.”
“وأنا صدّقت فعلًا أنك هو!”
غمز لها لويس بخفة، وهمّ بأن يمسك يدها، لكنّه تنبّه إلى أن قفّازه مبتلّ بالنبيذ، فنزع قفازه الخاص.
ثم أمسك يدها العارية وتشابكت أصابعهما، ورفعها ليطبع قبلة رقيقة على ظهرها.
“إذن، هل تجنّبتِني لأنك حسبتِني سوليفان؟”
“وكيف لي أن أُبدي معرفة بك أمامه!”
يا للمفارقة… قبل لحظات قليلة بدا لها هذا الرجل بعيدًا وصعبًا للغاية، لكن منذ أن تبيّن أنه لويس، شعرت فجأة بالارتياح.
سحبت يدها منه بقوة متعمّدة، وعبست في وجهه قائلة:
“أنت حقًا لئيم.”
“لكن النساء يحببن الرجال اللئيمين، أليس كذلك؟”
“أما أن تقول ذلك وأنت لا تقصد شيئًا… فهذا هو أسوأ ما فيك.”
“هاهاها.”
ضحك، دون أن ينكر كلامها.
حقًا… كان رجلًا سيئًا، سيئًا للغاية.
✦ ✦ ✦
كان من البديهي أن تكون الأمسية مملة ورتيبة. ولذلك لم يكن لدى لويس أي رغبة في حضورها.
لكن أندريه أصرّ مرارًا:
“لا بد أن تحضر حفلة الليلة.”
وأضاف:
“فإلى جانب الآنسة موليه، هناك أيضًا فتاتان رشحتهما السيدة سوليفان بنفسها.”
فرصة كهذه لا تعوض، هكذا قال.
لكن لويس أمال رأسه باستغراب:
“بالنسبة إليّ… لا تبدو فرصة جيدة.”
“ممم…”
تردّد أندريه، فما زال يحتار في كيفية التعامل مع شخصيات سيده المتعددة.
ولحسن حظه أن الذي استيقظ اليوم هو لويس.
فلو كان غارسيا، لما كان ليسمع أصلًا كلمة عن الحفل.
أما لويس، فعلى الأقل يملك من الذوق ما يجعله مستعدًا لتقمّص شخصية إنريكي من أجل السيدة سوليفان.
“لا داعي للتردّد، قل ما عندك.”
عندها قال أندريه ما كان يخفيه:
“كما أمرت، بقي شهران فقط على موعد الدفعة الأولى من تعويضات الحرب المستحقة على عائلة سوليفان. وإحدى هاتين الفتاتين مستثمرة رئيسية في بنك ريد هيل.”
“وهل يمكنني ببساطة أن أتجاهل الأمر ولا أحضر؟”
“سيكون ذلك شديد الإحراج.”
“حسنًا، لا يجوز إذن.”
فنهض لويس دون تذمر، وارتسمت الراحة على وجه أندريه، ثم تولى بنفسه إلباسه.
وفي منزلٍ خالٍ من أي خادمة، أظهر أندريه مهارة مدهشة.
وبفضل ذلك، استطاع لويس أن يظهر في الحفل بملامح نبيلٍ راقٍ، متقمّصًا شخصية إنريكي، تمامًا في الوقت المحدد.
قال لويس مازحًا:
“لكن بالمقابل، عليك أن تطلق سراحي بعد العشاء.”
فردّ أندريه ببرود:
“أنا لم أسجنك أصلًا.”
“ههه، إذن يمكنني أن أنسى كل ما قلته عن تعويضات الحرب؟”
“أخطأتُ بحقك.”
أسرع أندريه بالاعتذار، إذ لم يكن يريد أن يثير غضب هذه الشخصية الثانية، حتى لا يرفض سيده حضور الحفل.
بينما كان لويس يستمع إلى اعتذار أندريه، فتح دفتر الملاحظات الذي اعتاد إنريكي أن يترك فيه دوماً بعض المذكرات.
إنريكي يملك ثلاث شخصيات – أو بالأحرى أربع، غير أنّ واحدة منها نادراً ما تظهر، لذا لا داعي لذكرها. المهم أنّ الثلاثة كانوا يدوّنون في دفتر إنريكي كل ما ينبغي أن يعرفه الآخرون.
كان من الممكن أن يوكِل الأمر إلى أندريه، غير أنّ أندريه كان يجد صعوبة في التعامل مع غارسيا بالذات. ذلك الفتى المشاكس والمثير للمشاكل أينما حلّ، لم يكن مريحاً أبداً لأندريه.
رفع لويس حاجبيه وقال:
ـ”مونيكا أوفن؟”
هزّ أندريه رأسه إيجاباً. فتنهّد لويس.
ـ”بعد أن بذلنا جهدنا لحمايتها…”
كان في دفتر إنريكي ملاحظة مقتضبة عن مونيكا: شابة خدمت كممرضة أثناء الحرب.
أما سعي إنريكي للحصول على “الدواء الأخضر” فقد كان أمراً يعلمه كل من لويس وغارسيا جيداً، مع أنّ لويس عارض ذلك دوماً.
وحين قرأ أنّها قررت مساعدة إنريكي، نقر لويس لسانه مستاءً.
” مثير للاهتمام.” تمتم لويس.
ـ “في هذه المرحلة، لم يعد الأمر مجرد صدفة بل صار قدرًا.”
ثم بدأ يعدّ على أصابعه أمام أندريه:
ـ”التقت بي في الميناء، ثم تورّطت مع غارسيا، ثم التقت بي أنا بسبب ذلك، والآن تقرر أن تعقد صفقة مع إنريكي.”
في نظر أندريه، لم يكن التعاون مع مونيكا واعداً جدًا.
صحيح أنّها بدت ذكية، بل وتعرف قدر نفسها جيداً، لكن… قبل أن يقرر ما سيجيب به، كان قد فات الأوان.
فقد سبقه لويس بابتسامة واسعة:
“ألا ترى أنّ الأمر قد ينتهي بزواج غير متوقع من فتاة كهذه؟”
أجاب أندريه ببرود:
“لهذا بالذات يتوجب عليك حضور الحفل هذا المساء.”
ضحك لويس بخفة:
“ولم لا؟ لا أرى في الزواج بمونيكا ما يعيب، فهي لطيفة بالفعل.”
عندها رمقه أندريه بنظرة صارمة:
“لستَ بالذي يحق له قول ذلك، وأنت الذي تقضي لياليك متنقلاً بين النساء.”
ضحك لويس وأراح ذقنه على كفه بابتسامة آسرة.
في داخله، ضرب أندريه صدره غيظاً. فبعكس إنريكي – الوريث الثاني لعائلة سوليفان – الذي لم يكن يهتم أبداً باستغلال وسامته المذهلة، كان لويس يستخدم هذا الوجه الساحر باحترافٍ تام.
ولأي غرض؟ لميول غريبة للغاية.
“لكن مع موني… ربما أستقر.”
“موني؟”
“حبيبتي موني، أليست رائعة؟”
‘أين تتجسد روعتها بالضبط؟’
كتم أندريه غيظه وهو يحدق فيه شزراً.
ابتسامة لويس اتسعت أكثر.
كان يسخر من أندريه، ويستمتع بتذكيره بأن طموحه الشخصي هو السبب الوحيد لالتصاقه بإنريكي.
وبالفعل، كما توقع، كان الحفل مملاً منذ البداية وحتى النهاية.
السيدات أنهين أحاديث الشاي الخفيف وبدأن يتجولن بين الرجال لحثّهم على التبرع لصندوق المساعدات.
قيل أنّه لأجل الفقراء، لكن لويس كان مستعداً أن يراهن بكل ما يملك على أنّ أيّاً من تلك السيدات لن تخطو قدماً إلى أماكن البؤس تلك.
أما الفتيات فكنّ يضحكن بأصوات عالية بثياب مزخرفة، ويلقين بين الحين والآخر نظرات جانبية إلى الشبان.
بعض الشبان المرحين طلبوا من الفتيات الرقص، لكن بما أنّ الحفل كان بعد الظهيرة، فقد اكتفى الجميع بالقليل من الشراب والدردشة العابرة.
إحدى الفتيات التي كانت ابنة مستثمر مصرفي لمعت عيناها عندما سمعت اسم عائلة سوليفان، لكنها لم تُبد أي اهتمام بإنريكي نفسه.
وكان ذلك تصرفاً حكيماً، إذ إنّها تعلم أنّ أي فتاة تقبل خاتم خطبته ستُرغم على دفع تعويضات الحرب الباهظة المترتبة على عائلته.
ابتسم لويس بخبث وقال هامساً لأندريه:
“لكن تلك الفتاة هناك… تبدو أكثر جرأة، أليس كذلك؟”
وأشار إلى شابة كانت تقف تحت أشعة الشمس تعدّل أوتار البيانو: رييلا موليه.
كان على رأسها ربطة شعر لؤلؤية كبيرة تليق ببشرتها البيضاء.
“تُرى كم ثمن تلك الربطة؟”
أجابه أندريه باستياء:
“ولِمَ تهتم بذلك؟”
“ألم تنظر إليها عن قرب؟”
اعترف لويس بأنّه عندما تحدثت إليه رييلا قبل قليل، لم يرَ سوى تلك الربطة، وكل ما شغله وقتها هو التفكير في حجم وجودة اللآلئ.
“صدقني، كل لؤلؤة أكبر من قطعة نقدية من فئة خمسة سينغ تقريباً.”
“……لويس سيدي، عندي رجاء واحد.”
” تفضل.”
“رجاءً… وفر ابتسامتك الساحرة تلك عن هذه الآنسة على الأقل.”
ابتسم لويس ابتسامة فاتنة وقال:
“لا أظن أنني سأفعل.”
عندها استخدم أندريه إحدى المهارات التي تعلّمها مؤخراً من مخالطة شخصيات إنريكي: أن تبتسم له فيما ترسل له عيناك الشتائم.
رد لويس بابتسامة أكثر إشراقاً.
بالفعل، انسحبت رييلا من المشهد بوجه عابس.
فقد أدركت أنّ الرجل الذي أمامها – سواء كان إنريكي أو شخصاً آخر يتقمصه – لم يكن مستعداً للإصغاء إليها.
ولو رأت السيدة سوليفان ذلك المشهد، لذهلت بلا شك. فهي لا تتذكر من ابنها الثاني سوى شاب مهذب يعامل الجميع بجدية واستقامة.
᯽᯽᯽᯽᯽᯽᯽᯽
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 37"