لم يكن عدد طائرات القتال التابعة للدولة الخصم كثيرًا.
لكن لم يكن أحد ليتوقع أن أقل من عشر طائرات يمكن أن تُلحق مثل هذا الضرر الحاسم. الطائرات قصفت أماكن لا يمكن التنبؤ بها، والجنود سقطوا قتلى دون أي حيلة للدفاع عن أنفسهم.
“الأمر عاجل!”
احتضن الصبي المذعور بين ذراعيه. خوذة القتال التي كانت على رأس الصبي المجند، الذي لم يكن قد نما تمامًا بعد، لم تكن تناسب رأسه، فكانت تتمايل وتصدر صوت ارتطام في حضنه.
صدر من صدر الصبي صوت أنين مرتجف وهو يرتجف خوفًا.
“آه…… أمّي، أمي……”
عند ذلك الصوت المرتفع، نظر إليه دون أن يدري.
وتلاقت عيناه مع عيني الصبي.
“لا تقلق. سأجعلك ترى أمك. ستعود إلى أمك.”
عند سماع ذلك، كتم الصبي بكاءه وغرس رأسه في صدره. وما إن رفع الصبي بين ذراعيه، حتى وقع انفجار قريب. دوّى صوت قوووم! حتى اهتز رأسه وامتلأت أذناه بالصمم.
كانت الانفجارات دائمًا كذلك. من الرأس حتى أخمص القدمين، وكأن أحدًا حشره في جرس ضخم وظل يضرب عليه بعنف. سرعان ما اجتاحته موجة اهتزاز عنيفة جعلت جسده يتدحرج كأنه ورقة.
ومع ذلك، ضمّ الصبي إلى صدره بإحكام أكبر، رافضًا أن يفلت منه.
“ستتعفن! يجب أن تُبتر!”
“لا! ما زال حيًّا! الجرح عميق فقط!”
كم مرة شعر بشيء يصطدم برأسه بقوة ويقذفه بعيدًا؟ لقد فقد المخبأ وظيفته منذ زمن.
قووووم! انفجر القصف مرة أخرى هذه المرة أمامه مباشرة، وبالتزامن تقريبًا شعر بحرارة حارقة تلسع أسفل عينيه.
صرخ وهو يغطي وجهه دون وعي. أراد أن يفتح عينيه لكنه لم يستطع. شعر بسائل ساخن يتدفق ويلطخ كفيه.
ثم فجأة أدرك أن حضنه أصبح فارغًا.
“لودفيغ!!”
حاول جاهدًا فتح عينيه ليمسح المكان بعينيه، لكنه عجز، وسقط متدحرجًا داخل المخبأ.
تدفقت حفنة من التراب إلى فمه فصرّ بأسنانه على حبات الرمل الخشنة.
“لودفيغ! لودفيغ!” صرخ مرارًا، لكن لم يرد عليه أحد.
هستيريًا أخذ ينبش الأرض بيديه، حتى تعثر فجأة بشيء عالق تحت يده. فتح عينه اليسرى، الوحيدة التي لم تصب بعد.
أمامه كان جسد صغير مسجّى. خوذة القتال الثقيلة التي لا تناسبه كانت قد انزلقت لتغطي نصف وجهه.
بيد مرتجفة حاول أن يزيحها، لكن الخوف كبّله فتردد مرارًا.
ثم، مع دوي انفجار آخر، اسودّت رؤيته تمامًا.
“لا تقلق. لا تقلق، ستستطيع أن تفتح عينيك.”
ضحك بسخرية عند سماع صوت الممرضة الحنون.
أنا أيضًا قلت ذلك. لا تقلق، ستعود إلى أمك. لكن الصبي لم يعد إليها أبدًا.
أراد أن يرد هكذا، لكن حلقه جاف فلم يخرج منه سوى بضع كلمات مبتورة، ثم سكت. حاول أن يبعد اليد الخشنة التي كانت تمسح جبينه، لكنها لم تتراجع بل ربتت بخفة على كتفه.
“تشتاق لرؤية أمك؟”
ليس هذا ما في الأمر. أأنا طفل تافه يشتاق أمه؟! والأسوأ من ذلك، أن أمه هي من صنعت له هذه اللحظة المخزية المذلة.
“الألم شديد؟ يا للأسف. لا أستطيع أن أعطيك المزيد من المسكنات…….”
تبًا، اختفي من أمامي.
“هل تريد أن أغني لك؟ الأطفال في الميتم الذي كنت فيه كانوا يحبون التهويدة التي أغنيها لهم…….”
“……تسك.”
اليد التي كانت تمسح كتفه بدأت تهزه بخفة.
يا للسخرية. هل هكذا يُنوّم شخص لينام؟ هل كانت تُهدهد أولئك الأيتام بهذه الطريقة أيضًا؟ كان يريد أن يسخر منها. لكن الغريب أنّه……
“يا سيدي الشاب!”
فتح إنريكي عينيه.
كان أندريه، وقد ارتسمت على وجهه علامات الذعر، ينظر إليه.
“هل كنت نائمًا هنا طوال الليل؟”
“طوال الليل؟”
ردد إنريكي كلمات أندريه كالببغاء وهو يتلفت حوله.
لقد كان في غرفة الاستقبال. سجادة قديمة تغطي الأرض، وأرائك وقطع أثاث عتيقة ناعمة الملمس. الغرفة التي يعرفها جيدًا.
لكنها بدت غريبة للغاية. لم يكن السبب فقط أن ضوء الشمس كان يتدفق بغزارة من النافذة الزجاجية المعتمة أمامه. بقي إنريكي يحدّق في الضوء بذهول، ثم تمتم بسؤال وهو مذهول تمامًا.
“هل نمتُ هنا؟”
“يبدو ذلك، يا سيدي…”
أندريه حكى له أنه بعد أن أوصل الآنسة مونيكا إلى منزلها في الليلة الماضية، عاد إلى غرفة الاستقبال، وهناك وجد إنريكي وقد أسدل قبعتها (البونّيه) على وجهه، مستندًا إلى الأريكة وغارقًا في النوم.
“ظننتُ أنك كنتَ فقط تأخذ قسطًا من الراحة من شدة التعب.”
فمعاناة إنريكي من الأرق، وجولانه طوال الليل داخل البيت مثل شبح، لم تكن أمرًا نادرًا.
وكان من المعتاد أيضًا أن يجده أندريه مستندًا إلى الأريكة، ولهذا لم يجرؤ على إيقاظه، خصوصًا وقد بدا أن مزاج سيده لم يكن جيدًا تلك الليلة.
لكن أن يكون قد نام فعلاً هناك… لم يتوقع ذلك.
أما إنريكي نفسه، فظل يهز رأسه بملامح متحيّرة، ثم نهض ببطء من فوق الأريكة. وبحركته تلك انزلقت القبعة التي كانت مستندة على صدره، وسقطت إلى الأرض. مدّ يده لا شعوريًا ليلتقطها، لكن أندريه كان أسرع.
ذلك السكرتير الكفء التقطها بمهارة ووضعها جانبًا.
“لابد أنها تخص الآنسة مونيكا! في المرة القادمة التي تأتي فيها، سأعيدها إليها.”
“في المرة القادمة؟”
“نعم؟ آه… صحيح، نعم.”
وهو يتأمل الأمر، لم يجد سببًا وجيهًا يجعل إنريكي نفسه يلتقي مونيكا في كل مرة. فالموضوع كله يقتصر على تسلّم الدواء منها ليس أكثر. لذا فالأمر الطبيعي أن يقوم السكرتير بذلك بدلاً عنه.
لكن مع ذلك، لم يَرُق الأمر لإنريكي، ولم يبدُ له مقبولاً أن يقتصر التواصل بينها وبين أندريه. جلس برهة يسند ذقنه إلى كف يده، متفكرًا، ثم قال:
“لا… إن جاءت، فلتُعطني إياها أنا.”
رفع أندريه حاجبيه باستغراب، لكنه لم يُعلّق. فقد كان موظفًا مثاليًا، لا يضيف كلمةً زائدة على كلام سيده ما لم يكن هناك ما يستدعيها. ومع ذلك، استغل الفرصة ليسأل عن أمر كان فضوله قد أثاره:
“على كل حال… هل نمتَ طول الليل دون أن تستيقظ، يا سيدي؟”
إنريكي رمش مرتين أو ثلاثًا قبل أن يجيب:
“لا… لقد استيقظت في الوسط.”
“أفهم… لكن على الأقل نلتَ قسطًا من النوم، وهذا يُطمئنني.”
لكن الحقيقة كانت غير ذلك… لقد كذب. فقد شعر أن من غير المناسب أن يخبر أندريه بأنه نام نومًا عميقًا طوال الليل، دون أن يستيقظ ولو مرة واحدة، وهو أمر لم يحدث معه منذ زمن بعيد. سرعان ما غادر أندريه ليُحضّر له وجبة الطعام.
جلس إنريكي على حافة الأريكة، يحدّق بصمت إلى الطاولة أمامه. لا تزال هناك السيجار التي دخّنها بالأمس، مطفأة في مكانها. وحتى آثار الفتاة ذات الشعر الأسود التي جلست مقابله، ممسكة بالشيك وتتحرك بتوتر، بقيت عالقة في المكان.
لم يمضِ على ذلك سوى يوم واحد فقط. شخصيته لم تتغيّر. رفع يده الكبيرة ليمسك بذقنه متأملًا.
هل كان في السيجار شيء مخلوط؟ أو ربما أضيف شيء إلى الشراب؟ لو كان الأمر كذلك لكان أندريه قد ذكره.
“…….”
لقد نام بعمق لم يعهده منذ زمن طويل، حتى شعر بصفاء غريب في رأسه. كأنه رأى حلمًا كذلك.
“لكن… لم يكن حلمًا سارًّا على ما يبدو.”
الغريب أنه كان يشعر أن بإمكانه تذكّره، لكن كلما حاول، انمحى من ذاكرته كأنه محاط بضباب كثيف.
أما مونيكا، فبعد أن أنهت إفطارها باكرًا في الصباح، بقيت في غرفة الطعام تساعد الخدم على ترتيب المائدة وتنظيفها.
فالخدم كانوا قد تناولوا وجبتهم الأولى عند شروق الشمس، وبمجرد أن يسطع النهار كانوا يبدأون أعمالهم المعتادة. وبما أن مارتينيل لم يكن يستيقظ إلا متأخرًا في الصباح، فقد كان وقت الصباح بالنسبة لمونيكا خفيفًا نوعًا ما.
ومع ذلك، لم تكن ترغب أن تبدو كمن يكتفي بتناول الطعام الذي يقدمه الخدم ويغادر بلا مبالاة. لذا، ومنذ أيام، أخذت تساعد ماريّا في جمع الأطباق وغسلها، وتشارك الخادمات في أعمالهن الصغيرة. فهي تدرك أنه إذا أرادت البقاء في القصر لفترة طويلة، فمن المهم أن تحافظ على علاقة طيبة مع الخدم أيضًا.
ويبدو أن الخادمات أيضًا لم يكرهن وجودها بينهن، بل رحّبن بها وسعدن بمشاركتها.
“بالمناسبة… هل أنتِ على خلاف مع الآنسة رييلا؟”
كان هذا السؤال من إحدى الخادمات حين كن جميعًا جالسات ويمسحن الأطباق المبللة بالقماش.
في لحظة، ارتبكت مونيكا، وظنّت أن سرّ علاقتها برييلا قد انكشف.
لكنها سرعان ما أدركت أن الأمر لم يكن كذلك. وإنما السبب أن رييلا في الآونة الأخيرة باتت تسأل عنها بكثرة وبنبرة عصبية، فتطلب من الخادمات مرارًا أن يُخبروها أين تكون.
لكن حين يعرضن عليها أن يُحضرن مونيكا إليها، كانت تهز يدها رافضة وتقول: “لا، لا حاجة.”
طبيعي أن ذلك بدا غريبًا في نظر الخادمات.
“هل يمكن أن أكون على خلاف معها؟ لستُ أنا ابنة نبيلة، في النهاية.”
أجابتهن مونيكا بوجه متجهم، فضحكت الخادمات بخفة.
“صحيح، فالمعلّمة الخاصة لا يمكنها أن تكون على خلاف مع سيدتها.”
فكيف يمكن لشخصٍ في موقع الخدم أن يتجرأ حتى على التفكير بأنه في خصام مع ابنة سيده النبيلة؟
على أي حال، كان من الواضح أنّ رييلا هذه الأيام أصبحت متحفزة ومتوتّرة تجاه مونيكا.
إحدى الخادمات تمتمت بأنها تشعر وكأنها تتعمد مضايقتها بشكل غير مباشر.
“أنا لست خادمتها الخاصة حتى تخدمني، لكن أن تبحث عني الآنسة بهذا الشكل المستمر يصبح الأمر مرهقًا. وكأن لا يوجد لديها أي غرض مهم أصلًا.”
فردّت أخرى:
“أوه، لا تذكّريني. في القصر الذي كنت أعمل فيه سابقًا، تم طردي بلا حتى خطاب توصية فقط لأنني أغضبت الآنسة هناك…”
وانطلقت الأحاديث. وكل من سمع القصة تنهد بحزن، متعاطفًا معها.
فقالت إحداهن:
“لكن على الأقل مونيكا وضعها أفضل قليلًا. لو لم يعجبها الأمر، يمكنها أن تترك العمل وتشتغل كممرضة تحت إشراف طبيب.”
ردّت مونيكا وهي تلمّع الصحون بابتسامة مرحة:
“لكن الطبيب لا يدفع راتبًا كبيرًا كهذا.”
“صحيح. أصحاب قصرنا هذا كرماء بعض الشيء.”
“سمعت من السيدة أورانج أن راتبك ليس بالقليل يا مونيكا.”
فتنهّدَت إحداهن:
“آه! لو أنني عملتُ كممرضة أيضًا!”
لكن ماريا لم تتمالك نفسها وقرصتها على جبينها ضاحكة:
“توقفي عن الهراء. سترين أشخاصًا يموتون أمامك كل يوم، سيغمى عليك بدلًا من العمل! ثم هذا الكلام قلة احترام. هل يعجبك أن يقول أحدهم: آه، يا ليتني أكتفي بغسل الصحون وآخذ أجرًا؟”
فضحكت الخادمات بصوت مرتفع، حتى مونيكا ابتسمت بخفة.
“أما أنا، فقد اكتشفت مؤخرًا أنني شخص يؤمن بالمادية والمال قبل كل شيء.”
بمعانٍ متعددة. حتى البارحة فقط! وهي تسير في الطريق المظلم عائدة للمنزل، وبين يديها شيك بقيمة خمسة آلاف سينغ، كاد قلبها ينفجر من شدّة الفرح!
لقد عادت بخطوات خفيفة وكأنها ترقص.
حتى أنّ أندريه، الذي أوصلها في الطريق، لم يستطع إلا أن يسألها بدهشة:
“ألستِ خائفة؟”
لكن الحاضرات في المطبخ فهمن كلام مونيكا بمعنى آخر تمامًا: أنها تتحمّل كل شيء فقط بسبب الراتب الكبير.
ضحكت ماريا وقالت:
“وأنا كذلك. هل هناك أحد هنا يكره المال؟”
ضحكت باقي الخادمات وحرّكن رؤوسهن نفيًا.
وفجأة، تذكرت ماريا شيئًا وسألت:
“بالمناسبة يا مونيكا، هل أصبح لديكِ حبيب مؤخرًا؟”
“ماذا؟!”
“هانس يقول إنه رآكِ الليلة الماضية.”
وهنا، تبددت فجأة كل مشاعر البهجة التي كانت تملأ قلب مونيكا.
᯽᯽᯽᯽᯽᯽᯽᯽
و بكذا تكون انتهت دفعتنا لهذي المرة، اذا تبون فصول زيادة لا تترددوا و ادخلوا لقناة التلغرام ) الرابط في التعليقات( و اطلبوا اول ما افتح الطلبات
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 34"