“أنتِ ذاهبة إلى منزل الطبيب ميكِل في البلدة، أليس كذلك؟ إذن إذا انعطفتِ عند ذاك الزقاق فستجدين مفترق طرق بخمسة اتجاهات….”
شعرت مونيكا في داخلها أنها قد بالغت في الحذر والارتياب من هانس بلا مبرر.
فقد كان الشاب يسير بجانبها محافظًا على مسافة معتدلة – مقدار ذراعين تقريبًا – ويصف لها الطريق بتفصيلٍ دقيق، حتى ليكاد يجعلها تشعر بالذنب لأنها لم تكن تنوي الذهاب إلى منزل ميكِل حقًا.
“أشكرك كثيرًا.”
“على ماذا! آه… كان يجدر بي أن أُعيرك مصباح غاز ما دامت الليلة حالكة هكذا!”
قالها هانس وهو يحكّ رأسه في أسفٍ ظاهر، لكن الحقيقة أن مصابيح الغاز غالية الثمن، ولا يمكن استخدامها باستهتار.
ابتسمت مونيكا بهدوء ولوّحت بيدها نافية:
“لا بأس، يمكنني أن أمشي وحدي، الأمر ليس بتلك الصعوبة.”
“صحيح… بل ربما يجعلك ذلك أكثر لفتًا للأنظار.”
“ماذا؟”
احمرّت أطراف أذني البستاني الشاب خجلًا، وتلعثم قليلًا:
“أعني… هذا الثوب الجديد… إنه جميل للغاية. هذا فقط! لا أقصد أي معنى آخر!”
نظرت مونيكا إلى نفسها من غير وعي، تتأمل ما ترتديه.
إنه أحد الفساتين التي اشتراها لها لويس، فستان أرجواني اللون، بسيط وهادئ، يصلح تمامًا كزيٍّ عملي للعمل.
لاحظ هانس ارتباكها، فتراجع خطوتين إلى الوراء بوعيٍ واضح، كأنه يريد أن يترك لها مساحة أوسع.
عندها أدركت مونيكا أنه لا يزال يحمل في قلبه شيئًا من الحرج بسبب رفضها الدعوة التي وجهها لها في المرة السابقة، وأحسّت ببعض الذنب حياله.
لكن، ما العمل؟ لقد كانت مونيكا مجرد يتيمة بلا أهل ولا مأوى.
وبنات مثلها – لا بيت لهن ولا عائلة – عليهن أن يضعن الحذر نصب أعينهن دائمًا. فذلك هو قدرهن المحتوم.
لذا، حتى لو حمل هانس شيئًا من الضغينة ضدها، فلن تستطيع أن تفعل له شيئًا.
غير أن الشاب سارع إلى التلويح بيده مؤكدًا أنه لا يحمل لها أي كره.
“لقد اعتدت أن أرى طوال الوقت فتيات مثل ماريا… جريئات ولسنَ رقيقات. لذلك، حين أرى شخصًا مثلكِ، لا أعرف حقًا كيف أُجيد المديح.”
أخذ هانس يسير بجانبها وهو يحدّثها عن المصاعب التي يلاقيها منذ عمله في بيت عائلة مولليت لسنوات طويلة، وعن الخادمات هناك اللواتي لا يتركن ثغرةً للاقتراب أو الصداقة.
ثم لم ينسَ أن يتذمر أيضًا من الآنسة رييلا ، التي تتصرف دومًا وكأنها فوق الجميع، ولا تسمح لأحد بالاقتراب منها.
تملّك مونيكا شعور غريب وهي تسمعه.
إذ تساءلت: ولماذا أصلًا يجب على آنسةٍ من عائلة نبيلة أن تسمح لبستاني أن يقترب منها أو أن يكون له مكان بجانبها؟
لكنها لم تكن تريد أن تُجادل شابًا في ليلة كهذه على الطريق المظلم.
لذا اكتفت بأن تهز رأسها موافقة على كلامه وتجيبه بتعليقات مقتضبة.
وعندما وصلا إلى مفترق الطرق الذي ذكره هانس، توقف فجأة وكأنه يُثبت صحة قوله:
“أتمنى لكِ سلامة الطريق.”
“آه… نعم.”
تنفست مونيكا الصعداء في سرّها. لقد كانت تخشى لو أنه أصرّ على مرافقتها أبعد من ذلك.
ابتسمت بخجل وقالت:
“أشكرك كثيرًا.”
هزّ البستاني كتفيه سريعًا ثم استدار ليعود أدراجه.
لكن حتى وهو يبتعد، ظل يلتفت أكثر من مرة ليتأكد من أن الفتاة تسير بأمان.
فأُحرجت مونيكا لذلك، واضطرت أن تتوقف قليلًا وترفع يدها ملوّحة له طويلًا حتى يطمئن.
“هاه…”
خرج زفير طويل من صدرها.
وما إن غاب هانس تمامًا في عمق الزقاق حتى أسرعت مونيكا بخطواتها.
سارت في اتجاه الشارع المؤدي إلى منازل “التاون هاوس” الراقية.
لكن، بما أن منزل ميكِل ومنزل عائلة سوليفن لم يكونا في جهة واحدة، قررت أن تسلك طريقًا آخر غير الذي دلّها عليه هانس.
حرصت طوال سيرها أن تختار الطرق المضيئة، حتى لا تضيع كما حدث معها في المرة السابقة.
ولحسن الحظ، كانت المنطقة التي يقع فيها منزل عائلة سوليفن مأهولة بأناسٍ ميسوري الحال – وإن لم تكن من طبقة القصور الفخمة – ولهذا كانت بعض البيوت تُضيء مداخلها بالمصابيح.
وأخيرًا، وصلت مونيكا إلى وجهتها.
البيت بدا رائعًا.
ورغم أن الظلام يحجب الكثير من التفاصيل، فإنها استطاعت أن ترى بوضوح أن حجمه كبير وثقيل البنيان. بل ربما كان أكبر من بيت ميكِل بأربع مرات.
أخذت نفسًا عميقًا، ثم رفعت يدها وطرقت بمطرقة الباب الضخمة التي كانت على شكل رأس أسد برونزي.
دوّى الصوت “دونغ، دونغ” مجلجلًا، فارتجفت هي نفسها من شدته دون أن تقصد.
“من بالباب؟”
“آه….”
فتح الباب شاب لم تتعرف عليه.
كان شعره بنيًا، وملامحه متعبة ومنهكة، يحمل شمعدانًا صغيرًا بيده، وراح يتفحصها بعينيه المتعبتين.
فبادرت مونيكا بالسؤال عفويًا:
“لقد جئت أبحث عن السير سوليفان، أليس هنا؟”
“آ.”
عند تلك الكلمات، رفع الشاب حاجبيه.
“المعذرة، ولكن من تكونين…؟”
“أنا اسمي مونيكا.”
“آها?”
أصدر الشاب صوتًا لا يُعرف إن كان تعجبًا أم مجرد رد فعل، ثم انحنى بخفة برأسه.
سرعان ما عرفت مونيكا أنه هو أندريه ريجيس، أي السكرتير الجديد لإنريكي. كان أندريه يبتسم ابتسامة مشرقة، ومع ذلك رافقها بأدب إلى صالون الضيوف في منزل البلدة.
قال لها:
“نظرًا لظروف معينة، لا يوجد خدم هنا في منزل البلدة. لذلك قد يكون الأمر مزعجًا لك من عدة نواحٍ، ولكن…”
“لا حاجة لشرح ذلك، أندريه.”
لم يتمكّن أندريه حتى من إنهاء كلامه حتى قطعه صوت مألوف. توقفت مونيكا وهي تهمّ بالجلوس، ثم وقفت من جديد.
كان إنريكي سوليفان واقفًا عند باب الغرفة.
“ما الأمر؟ كنت أظن أنّ الأمر سيستغرق عدة أيام.”
كان الرجل يبدو متعبًا هو الآخر، إذ أن حاجبيه الكثيفين الذهبيين كانا معقودين نحو الوسط بشكل واضح.
أما قميصه، فقد كان نصف مفتوح ومجعّد، كأنّه كان مستلقيًا وهو يرتديه ثم نهض لتوّه.
أخرجت مونيكا من حقيبتها الصغيرة قارورة تحتوي مسحوقًا دوائيًا وقالت:
“نعم، سيستغرق الأمر عدة أيام. لكن، أحضرت هذا احتياطًا.”
“ما هذا؟”
“إنه مُنوِّم.”
ابتسم الرجل بسخرية خفيفة. اتسعت عينا مونيكا ثم تقلص جبينها بقلق. كان الدواء المنوّم بالنسبة لها وسيلة لشراء الوقت، لكنه أيضًا كان نوعًا من اللطف من طرفها.
كانت قد انشغلت بكلامه عن أنّه لا يستطيع النوم عدة أيام متواصلة إلا إذا تناول “الدواء الأخضر”.
لكن عند سماع كلامها، سخر إنريكي:
“أتظنين أنني لم أجرب المنوّمات من قبل؟”
“ولكن…”
“أندريه.”
كان السكرتير واقفًا على بُعد خطوة تقريبًا، فرفع كتفيه قليلًا ثم خرج وعاد بعد قليل.
كان يحمل صندوقًا بيده، وعندما فتحه، ظهرت فيه زجاجات صغيرة متنوعة تحتوي مساحيق أدوية مختلفة.
فقدت مونيكا كلماتها، بينما أشار إنريكي بذقنه نحو الصندوق.
“إذا كان لديك أرق شخصي، يمكنك أخذ بضع زجاجات منها.”
“كل هذه لا تنفعك؟”
“أتظنين أنني جمعتها للهو؟”
جلس إنريكي مقابلها، وأخرج سيجارًا ووضعه بين شفتيه. لم يكن من نفس نوع السيجار الذي كان غارسيا يدخنه.
أسرع أندريه وأشعل السيجار له ثم تراجع بخطوات إلى الوراء.
أخذ الرجل نفسًا عميقًا من السيجار ثم أخرج الدخان ببطء. بدت المنطقة تحت عينيه شاحبة تحت ضوء الصالون الخافت.
ارتجف السيجار بين أصابع الرجل الطويلة والعريضة. وما إن أمعنت مونيكا النظر، حتى أدركت أنّ أصابعه كانت ترتجف ارتجافًا خفيفًا. تساقط رماد السيجار بخفوت.
ثم، وكأنّ الأمر لا يعنيه، مدّ الرجل يده الأخرى. كان يطلب منها أن تعطيه القارورة.
ترددت مونيكا قليلًا، ثم مدّت القارورة نحوه. خطفها بأصابعه بخفة، وفي اللحظة العابرة تلك تلامست أصابعهما. ورغم أنّها لحظة قصيرة جدًا، إلا أنّ مونيكا شعرت أن أصابعه باردة بشكل مرعب.
قال وهو يتفحص الملصق:
“هذا الدواء… لقد جرّبته من قبل.”
ثم أعاد القارورة إليها بابتسامة ساخرة. أخذتها مونيكا مرة أخرى وحفظتها. لقد فوجئت بشدة؛ إذ إن الزجاجة التي كانت دافئة في يدها قبل قليل صارت باردة وكأنها جمدت حين انتقلت إلى يده.
قال لها ببرود:
“لا تفعلي أمورًا لا فائدة منها.”
قالت مونيكا متلعثمة:
“أنا… فقط… من أجل سعادتك يا سير.”
قضم إنريكي طرف سجارته بخفة، ثم أطلق ضحكة قصيرة. بذلك انكشفت من جديد الندبة الموجودة بجانب عينه اليمنى.
قال ساخرًا:
“الآنسة مونيكا أوفن. مهما حاولتِ أن تهتمي بي، هل ستفعلين أكثر ممن يهتم لأجلي مقابل المال؟”
ومن كان يقصد بكلامه هذا، صار واضحًا على الفور. لأن نظره كان موجّهًا نحو أندريه.
أندريه، وعلى الرغم من أنه كان مديحًا غريبًا مباغتًا، انحنى قليلًا بابتسامة، ثم أخذ الصندوق وغادر مرة أخرى.
زفر إنريكي تنهيدة ثقيلة وقال…
“إن كنتِ تريدين أن تفعلِي شيئًا من أجلي، فاذهبي وصنعي الدواء الأخضر.”
“…قلتُ لكَ إن الأمر يحتاج لبعض الوقت…”
أجابت مونيكا بصوت خافت صغر أكثر فأكثر. ثم فجأة، شعرت بالاختناق من تصرف إنريكي سوليفان المتغطرس أمامها وكأنه أمر طبيعي.
(لكن، لماذا عليّ أن أشعر بهذا القدر من الانكماش؟)
صحيح أن بينهما فارقًا في المنزلة: هو من النبلاء وهي مجرد عامية. لو كان هذا قبل بضعة عقود، لما تجرأت حتى على الجلوس أمامه.
لكن… ذاك كان قبل عقود!
تابع إنريكي قائلاً:
“إذن، لا تأتي إلى هنا في ساعة متأخرة من الليل بلا فائدة. استغلي ذلك الوقت في محاولة تذكر طريقة صناعة الدواء الأخضر.”
كان يتحدث وكأن من الطبيعي جدًا، بل من البديهي، أن تعمل مونيكا فقط من أجله وحده، وكأنها خادمة وُجدت لخدمته. كان تعاليه وجرأته لدرجة أن مونيكا أوشكت أن تنحني فورًا وتجيب: “نعم، حاضر!”
وبالطبع، شعرت بالغيظ الشديد في داخلها.
(يعني أنا جئتُ لأجله، ومع ذلك يتعامل معي بهذا الشكل؟!)
صحيح أن المنوّم لم يكن أمرًا قد طلبه هو شخصيًا. وحتى هي نفسها، قبل لحظات، لم تشعر بالراحة حين قال لها هانس إنه سيُرشدها الطريق لمصلحتها.
لكن… هل قال لها هانس مثلًا: “هيه، انقلعي، ما أحتاج مرافقتك”؟!
بالطبع لا. لأنها، على عكس إنريكي، إنسانة مؤدبة تعرف كيف تتصرف.
وفوق ذلك، أليس من المفترض أن التحلي باللياقة والاحترام المتبادل فضيلة، سواء أعجبك الطرف الآخر أم لم يعجبك؟
(والمصيبة أنه هو نفسه طلب مساعدتي! حسنًا، إذا كنتَ تريد المساعدة، فعلى الأقل تحلَّ باللباقة معي! أيها المتعجرف مزدوج الشخصية!)
نهضت مونيكا فجأة بكل عزم. ارتفعت واقفة، وعيناها الخضراوان المتوهجتان اصطدمتا بنظرات إنريكي المريبة، الذي كان يبحث في جيبه والسيجار بين شفتيه.
لكن الرجل، الذي اعتاد منذ ولادته أن يُصغى إليه دون نقاش، أخرج بهدوء دفتر شيكات من جيبه، ووقّع عليه، ثم مزّق ورقة وقدّمها إليها.
اتسعت عينا مونيكا بدهشة كادت تخرج من محجريها.
“ما هذا؟!”
“تذكرتُ فجأة أنني نسيت. خذي.”
كانت الورقة شيكًا صادِرًا عن بنك غرايبون المعتمد في عشرة ممالك مختلفة. وكان المبلغ الذي دوّنه إنريكي عليه خمسة آلاف سينغ، مبلغًا ضخمًا. فسألت مونيكا بصوت مرتجف:
“لماذا… تعطيني هذا؟”
نفث إنريكي دخان سيجاره في الاتجاه المعاكس لها، ثم قال:
“هل يوجد قانون يقول أن نجعل الناس يعملون دون أجر؟! لا أعتبره ثمن المنوّم، بل يمكنكِ استخدامه لشراء المكونات إذا تذكرتِ طريقة الصنع.”
“… …”
“ها قد أنهيت كلامي. إذن، ما الذي أردتِ قوله؟”
شدّت مونيكا عينيها مرة أخرى، مستعدة لتنفجر غضبًا. لقد كانت تنوي الصراخ حقًا!
لكن ما خرج من فمها كان:
“… سأعمل بجد!”
*الفلوس تغير ما بالنفوس ✨*
رمقها إنريكي بعين نصف مغمضة، يملؤها الشك. أما مونيكا فقد قبضت بسرعة على الشيك الذي يحمل خمسة آلاف سينغ.
وماذا بيدها أن تفعل؟! هي مجرد يتيمة بلا مأوى. والفتاة التي لا بيت لها ولا عائلة، إن ظهر أمامها مال، فواجبها أن تلتقطه بسرعة وتتمسك به، هكذا هي الحياة.
على أي حال… لم يكن من الممكن أن تصرخ في وجهه بحجة أنه غير مؤدب، بينما هو قد ألقى في حضنها مبلغًا بهذه الضخامة!
(الاحترام؟ ارمِه للكلاب!)
قالت مونيكا في داخلها، بينما رسمت ابتسامة محرجة تحاول أن تُخفي بها ارتباكها.
᯽᯽᯽᯽᯽᯽᯽᯽
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
كيم مين ها البالغة من العمر 20 عامًا ، طالبة جامعية عادية. من السخف أن تستيقظ في عالم مختلف تمامًا بعد حادث مفاجئ … ‘لماذا جاءني رجل وسيم للغاية بوجه غاضب ، وأعطاني أوراق الطلاق؟’ “ما الذي تتحدث عنه أيها الرجل الوسيم؟ لم ألتقِ بك من قبل ، ناهيك عن الزواج بك ، لماذا تعطيني...مواصلة القراءة →
كيم مين ها البالغة من العمر 20 عامًا ، طالبة جامعية عادية. من السخف أن تستيقظ في عالم مختلف تمامًا بعد حادث مفاجئ … ‘لماذا...
التعليقات لهذا الفصل " 32"