في الثامنة عشرة من عمرها، لم تكن “مونيكا” تعرف الكثير عن الحرب.
فقد قضت عمرها كلّه تقريبًا في ميتم العاصمة، ومن الطبيعي أن يكون الأمر كذلك.
كانت تلك الفترة لا تزال في بدايات الحرب. كان من المألوف أن تُروى قصص عن الشباب الذين يتلقّون أوامر التجنيد ويغادرون، وعن عائلاتهم أو أحبائهم الذين يودّعونهم وهم يبكون. أما عن الإصابات والموت، فلم تكن تلك الأشياء بعدُ ملموسة بالنسبة لمونيكا.
لكنها مع ذلك توقعت شيئًا واحدًا: أنّ العالم في الخارج لن يكون مكانًا سهلاً أبدًا.
فمعظم الأيتام اعتادوا أن يكونوا متشائمين بطبعهم.
وكانت مونيكا تملك عادةً أن تتخيل أسوأ الاحتمالات دومًا. لذلك حين تم إرسالها لأول مرة إلى المستشفى الميداني في الخطوط الخلفية، لم تُفاجأ كثيرًا حين وجدت المكان قذرًا وكريه الرائحة.
“ملابسك! حذاؤك! لا وقت لكِ لتفريغ أغراضك على ذلك السرير، بدّلي ثيابك حالاً!”
ما إن وصلت مونيكا إلى المستشفى، حتى ألقت عليها إحدى الفتيات بمريلة الممرضة وزوج من النعال.
لم تكن تلك الفتاة أعلى رتبةً منها، ولا حتى تكبرها سنًا بشكل ملحوظ، ومع ذلك فقد أمرتها بصوتٍ عالٍ، وبقسوةٍ شديدة.
ومع أن مونيكا المرتبكة كانت ترتجف حتى وهي تحاول إعطاء إبرة لإحدى الدمى التدريبية، إلا أن تلك الفتاة لم تتردد في ضرب ظهر يدها.
فسألتها مونيكا في النهاية، وقد ضاقت ذرعًا:
“لماذا تعاملينني بهذه القسوة؟”
نظرت إليها الفتاة من علٍ بازدراء ثم ضحكت بسخرية:
“قريبًا، ستصبحين مثلي تمامًا.”
ثم دفعت كتفها ومضت في طريقها.
أول مريض لمونيكا كان جنديًا أصيب برصاصة في رئتيه.
كان رجلاً بدأ الشيب يتسلل إلى شعره.
انتهت عملية استخراج الرصاصة بسلام، لكن رغم ذلك كان يتقيأ البلغم الغزير كل ليلة.
قال لها وهو يلهث بصعوبة:
“لابد أن أموت. ما لم أمت، فلن تنتهي هذه المعاناة.”
فردت مونيكا بابتسامة صغيرة، وقد بدأت تتأقلم مع وضعها الجديد لدرجة أنها صارت تلقي النكات أحيانًا على المصابين:
“تقول إنك ستموت، بينما ما زلت تكافح لتتنفس بهذا الجهد؟”
وكان الرجل يضحك ساخرًا وهو يستند إلى الوسادة:
“فتاة هزيلة، مرحة بلا فائدة مثلك، من الأفضل أن تعودي إلى بيتك سريعًا.”
لكنها كانت تهز رأسها بحزم:
“مستحيل. سأصمد لعامين كاملين ثم أدخل الجامعة.”
ضحك الرجل ساخرًا:
“جامعة؟ أي جامعة تلك؟!”
كان معظم المصابين الذين يصلون إلى هذا المستشفى الخلفي غير قادرين على العودة إلى ساحة المعركة بسبب ما أصابهم من إعاقات أو أضرار جسيمة. وبسبب طول فترة العلاج، كان لا مفرّ من أن يشاركوا قصصهم الشخصية مع الممرضات.
وبالتدريج عرف هؤلاء الجنود أن مونيكا يتيمة، وأنها جاءت إلى هنا كممرضة فقط لتتمكن لاحقًا من دخول الجامعة. وكان الرجل ذو الرئة الممزقة، رغم أنينه المستمر، يسخر من أحلامها دائمًا كلما اقتربت منه:
“فتاة مثلك، كل ما يناسبها أن تتزوج رجلاً جيدًا والسلام.”
كانت مونيكا تشعر نحوه بمزيج من البغض والمودة.
كانت تكرهه حين يسخر من أحلامها الجامعية، وكأن فتاة يتيمة مثلها لا يحق لها أن تحلم. لكنها في الوقت ذاته، كانت ترغب في ألا يتوقف عن كلامه أبداً.
لقد علمت أنه يملك ابنة في الخامسة عشرة.
كان يقول:
“أخاف أن تكبر ابنتي وتصبح مثلك يا فتاة.”
ومع ذلك، كان يخبئ لها أحيانًا قطعة من الخبز الأسود الذي يقدم مع الطعام ويدسّه في مريلتها، قائلا:
“أخشى أن تكبر ابنتي مثلك، جائعة هكذا طوال الوقت!”
وعندما مات ذلك الرجل، وهو يلهث، بكت مونيكا كثيرًا. بل أكثر مما توقعت. وكأن دموعها ستذيب عينيها وتذرفهما سائلًا.
الوضع الحربي كان يزداد سوءًا يومًا بعد يوم.
ولم يمض عامٌ حتى تم نقلت مونيكا إلى مستشفى “أرڤيد”، القريب من الخطوط الأمامية.
وكانت تلك تجربة مختلفة تمامًا.
أكثر من عشرة جنود كانوا يموتون يوميًا أثناء نقلهم إلى هناك. ومونيكا وحدها كانت مضطرة للعناية بثلاثين مريضًا في آنٍ واحد.
وكانت كل الممرضات في “أرڤيد” يرتدين سراويل عسكرية واسعة. لم يطل الأمر حتى أدركت مونيكا أن تلك السراويل تعود في الأصل لجنود ماتوا. فتراجعت إلى الخلف مرعوبة.
لكن بعد شهرٍ واحد، كانت هي نفسها ترتدي بنطالاً عسكريًا مع رقع جلدية على الركبتين، وأحذيتها مبللة من الدم والطين، تعدو ذهابًا وإيابًا بلا توقف.
ظنّت مونيكا، وهي في الثامنة عشرة، أنها أكثر الناس تشاؤمًا في العالم.
لكنها في التاسعة عشرة اكتشفت أن مستشفى “أرڤيد” مليء بأناسٍ أكثر سوداويةً وتشاؤمًا منها بأضعاف.
قال أحد الجنود مبتسمًا بمرارة:
“على الأقل هنا أفضل من الخطوط الأمامية.”
فتساءلت مونيكا بدهشة:
“أتقول إن هذا المكان ليس الأسوأ؟”
فضحك:
“طبعًا لا.”
ثم أضاف:
“أتدرين أين بُترت ساقي؟ على قطعة قماش مشمّعة فوق التراب!”
ورغم ذلك، كان يحاول أن يتعلم المشي بعكازٍ واحد، يتصبب عرقًا.
لكن بعد أن نجح يومًا في المشي خمس عشرة خطوة بمفرده، صعد إلى سريره وعلّق نفسه في السقف وانتحر.
ولم يكن هناك وقت لتبكي. فقد نزعت جثته، بدلت الشراشف، وسرعان ما جاء جندي آخر بعينين معصوبتين ومصابة إصابةً بالغة.
يداه المرتجفتان لم تعودا ترتعشان وهو يغيّر الضمادات ويحقن المخدر.
الجندي الجديد لم يُعرف اسمه.
رقم هويته العسكري كان تالفًا. لم يتبقَ منه سوى ثلاثة أحرف فقط: “솔” (سول).
وقفت مونيكا إلى جواره، لا لأنها أُمرت أن تسأل عن وحدته حين يستفيق، بل لأنها لم تستطع تركه.
كانت تعرف: إذا كان رجل فقد ساقه لم يرغب بالعيش، فكيف سيستطيع رجلٌ فقد بصره أن يتشبث بالحياة؟
᯽᯽᯽᯽᯽᯽᯽᯽
الجندي الذي لم يُعرف له اسم، ذاك الذي نُزع منه كل شيء وبقي من هويته فقط ثلاثة أحرف “솔” (سول)، لم يفتح عينيه أبدًا.
لكن مونيكا كانت تعرف أنه يسمعها. كانت تتحدث إليه، تخبره بأشياء صغيرة عن الطقس، عن شكل القمر تلك الليلة، عن طائر مرّ أمام النافذة.
لم تكن تعلم لماذا تفعل ذلك.
ربما لأن صوتها نفسه كان يمنحها شعورًا بأنها لا تزال بشرًا وسط هذا الجحيم.
كانت ترى أن الإبقاء على “سول” حيًا هو شكل من أشكال المقاومة.
مقاومة ضد الحرب، ضد الفناء، ضد ذلك الواقع القاسي الذي جعل شابًا يفقد حتى اسمه.
غير أن الأدوية الخضراء (المورفين الخام) لم تكن كافية. كانت تُنقذ حياة بعض الجنود، لكنها كانت تقتل آخرين ببطء. الذين تعوّدوا عليها لم يعودوا قادرين على النوم إلا تحت تأثيرها، وعندما لا تُعطى لهم كانوا يدخلون في نوبات هلع أو جنون.
تذكرت مونيكا حينها أساليب قديمة تعلمتها من الراهبات في ميتم العاصمة:
التحدث بهدوء قرب المريض.
إعطاؤه ماءً فاترًا ممزوجًا بأعشاب بسيطة.
مسح جبينه بقطعة قماش نظيفة.
بدت تلك الوسائل بدائية وساذجة، لكنها كانت تساعد أحيانًا أكثر من الحقن المخدّرة.
وبعد عامين من الخدمة المتواصلة، تحولت مونيكا من فتاة صغيرة خائفة، ترتجف حتى وهي تمسك الإبرة، إلى امرأة قادرة على اتخاذ قرارات سريعة في أوقات حرجة.
يدها لم تعد ترتعش. صوتها صار ثابتًا. ونظرتها صارت صلبة كالفولاذ.
᯽᯽᯽᯽᯽᯽᯽᯽
ثم، فجأة، تجد نفسها في قصر فخم، وسط سرير نظيف ونافذة يطل منها صوت العصافير.
تتثاءب وتتمتم نصف نائمة:
“شخص يملك أربع شخصيات مختلفة… ليس بالأمر الجلل.”
᯽᯽᯽᯽᯽᯽᯽᯽
كانت مونيكا دائمًا تفكر:
ربما كان بإمكانها أن تفعل شيئًا آخر من أجل ذلك الجندي الذي قُطعت ساقه فوق غطاء القماش المشمع، والذي أُحرقت ساقه المبتورة لوقف النزيف، ليُحرَق معه أيضًا آخر بصيص من أمله في الحياة.
في ذلك اليوم، قالت لإنريكي سوليفان بأنها ستُحاول بأي شكل أن تُصنّع له “الدواء الأخضر”.
لكن الحقيقة… مونيكا لم تكن ترغب حقًا في فعل ذلك.
ليس لأنها لم تكن تعرف وصفة التحضير فحسب، بل لأنها كانت تفكر: “أريد أن أفعل ما أستطيع فعله فعلاً، ما هو في حدود قدرتي.”
أن تُسلِّم دواءً بلا مسؤولية لشخص قد يجعلها طبيبة في المستقبل، ثم تقول: “ها قد انتهى دوري”، لم يكن شيئًا يتوافق مع طبيعتها ولا مع شخصيتها.
وفوق ذلك، كان هناك أمر لطالما أرادت أن تسأل عنه، لكنها لم تجرؤ يومًا على طرحه.
لهذا السبب قالت لإنريكي إنها لا تتذكر الوصفة الدقيقة، وتحتاج فقط إلى بعض الوقت.
فأومأ إنريكي برأسه متفهمًا، بل وأخبرها أن تأتي من الآن فصاعدًا إلى منزل عائلة سوليفن في المدينة (التاون هاوس).
لكن مونيكا ندمت بشدة لأنها وافقت بتهوّر على ذلك في تلك اللحظة.
السبب؟ لأنها لم تكن سوى خادمة في هذا القصر.
وقتها الشخصي شبه معدوم أصلًا.
(اللعنة… لقد تخلّيت حتى عن العشاء).
من أجل أن تجد وقتًا للذهاب إلى منزل ميكيل، اضطرت إلى التضحية بوقت العشاء.
فقد كانت طيلة اليوم مشغولة تمامًا برعاية مارتينيل.
ومن الطبيعي أن زيارتها لإعطائه دواء النوم لا يمكن أن تتم إلا في وقت متأخر من الليل.
ولحسن الحظ، أن مارتينيل كان يذهب للاستعداد للنوم أبكر من الكبار.
وضعت مونيكا يدها على بطنها الخاوية التي كانت تُصدر أصواتًا من شدة الجوع، وغطّت رأسها بغطاء بونيهها.
كان عليها أن تذهب سريعًا إلى المدينة قبل أن يشتد ظلام الليل تمامًا.
منزل عائلة سوليفان في المدينة لم يكن يقع في حي الأثرياء، بل في وسط مدينة لاسبيتسيا.
لكن عندما خرجت من القصر، ظهر شخص فجأة أمامها.
ارتجفت مونيكا من المفاجأة، ثم وضعت يدها على صدرها لتهدأ.
لقد كان هانس، بابتسامته الطيبة المعتادة.
“الى أين تذهبين؟”
بينما كانت مونيكا تهمّ بالخروج من القصر، ظهر شخص فجأة أمامها. ارتعبت للحظة، ثم سرعان ما تنفست الصعداء. كان ذلك هانس، مبتسمًا بابتسامته الطيبة المعتادة.
هانس وضع يديه خلف ظهره، وانحنى قليلًا بانحناءة مهذبة تشبه ما يفعله نبلاء البلاط، كأنه تعلمها في مكان ما. بدا وكأنه يتعمد التصرف بلباقة، بعدما لاحظ أن مونيكا ما زالت حذرة منه.
قالت مونيكا وهي تحاول التماسك:
“آه… عليّ أن أذهب بسرعة إلى وسط المدينة لبعض الشؤون.”
“في هذه الساعة المتأخرة؟”
“ذلك هو…”
حرّكت مونيكا عينيها مترددة، ثم رفعت بيدها الصغيرة زجاجة الدواء التي كانت تمسكها.
“أشعر أن الدواء الذي حصلت عليه من الطبيب لم يكن صحيحًا.”
“آه، ولكن… الليل متأخر جدًا. هل أوصلكِ أنا؟”
كان ذلك عرضًا غير مقبول.
صفقتها مع إنريكي سوليفان يجب ألّا يعرفها أحد. أليس كذلك؟
ثم إنّ مسألة أن الابنة الكبرى لهذه العائلة العريقة تُناقَش خطبتها مع ابن عائلة سوليفن كانت قد أصبحت سرًّا مكشوفًا حتى بين الخدم.
انكمشت أكتاف مونيكا قليلًا، وقالت بصوت خافت:
“أستطيع أن أذهب وحدي.”
هل بدت حذرة أكثر من اللازم؟
لكن هانس، على عكس المتوقع، تراجع بسهولة وقال بهدوء:
“أفهَم. إذن… دعيني على الأقل أُريكِ الطريق حتى مفترق الطرق القريب. المكان هناك مظلم وغالبًا ما يضلّ الناس طريقهم.”
ثم رمش هانس عدة مرات بعينيه العسليتين ذات اللون الأخضر المعكّر. لم يكن في نظره أي شرّ.
ترددت مونيكا قليلًا، ثم أومأت برأسها موافقة.
᯽᯽᯽᯽᯽᯽᯽᯽
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
كيم مين ها البالغة من العمر 20 عامًا ، طالبة جامعية عادية. من السخف أن تستيقظ في عالم مختلف تمامًا بعد حادث مفاجئ … ‘لماذا جاءني رجل وسيم للغاية بوجه غاضب ، وأعطاني أوراق الطلاق؟’ “ما الذي تتحدث عنه أيها الرجل الوسيم؟ لم ألتقِ بك من قبل ، ناهيك عن الزواج بك ، لماذا تعطيني...مواصلة القراءة →
كيم مين ها البالغة من العمر 20 عامًا ، طالبة جامعية عادية. من السخف أن تستيقظ في عالم مختلف تمامًا بعد حادث مفاجئ … ‘لماذا...
التعليقات لهذا الفصل " 31"