للحديث عن سول، يجب أن نعود بالزمن إلى أيام خدمة مونيكا في ساحة الحرب.
وليس الأمر حكاية طويلة.
كانت مونيكا تعمل في مكان بعيد قليلًا عن الخطوط الأمامية، حيث كانوا ينقلون الجرحى كل يوم.
وكان سول أحد هؤلاء، أُحضر قبل شهرين من الهزيمة.
كان نصف بطاقة هويته العسكرية قد انفصل وضاع أثناء نقله، ولم يبقَ سوى الاسم “سول” وجزء من الرقم العسكري. قيل إنه كان بالقرب من مكان انفجار قنبلة وأصيب بشظايا.
ولسوء حظه، أصابت الشظايا عينيه، حتى اضطروا إلى لفهما بالضماد، لكن حتى مع ذلك، كان واضحًا أنه شاب وسيم. ولهذا السبب، تعاطفت الممرضات كثيرًا مع الجندي الذي فقد بصره.
ظل الشاب فاقد الوعي طوال الوقت. ورعاية مريض في غيبوبة كانت عبئًا على الممرضات المشغولات. وفي النهاية، أصبحت مونيكا مسؤولة عن سريره، فقط لأنها كانت معروفة بالنشاط.
لكن ذلك كان كلامًا فارغًا — فقد كانت مونيكا فقط قد اعتادت الأمر.
ومع ذلك، حين أفاق الشاب من غيبوبته بشكل أشبه بالمعجزة، شعرت مونيكا بسعادة غامرة.
حتى إنها لم تُعر أي اهتمام للكآبة أو حدّة الطبع اللتين غالبًا ما تصيبان من فقدوا بصرهم.
قالت له بحماس:
“كنت متأكدة أنك ستستيقظ! كنتُ قد راهنت على ذلك!”
كان ذلك وكأنه حدث بالأمس.
“أأنت سول، أليس كذلك؟”
سألت مونيكا بعينين متسعتين. أما هو فعبس قليلًا، وعيناه الزرقاوان تتلألآن تحت الشمس كأنهما جوهرتان.
يا للعجب. فتحت مونيكا فمها قليلًا، ثم أدركت فجأة أن سول على الأرجح لا يتذكرها.
فبعد أقل من شهر على استفاقته، أعلنت المملكة هزيمتها في الحرب.
وسُحبت جميع الوحدات المتمركزة على الجبهة. أما الجرحى فكان يجب نقلهم لاحقًا، مما جعل الممرضات يعملن بلا نوم تقريبًا. لم يكن هناك وقت للحزن؛ كان عليهن تضميد الجروح وإرسال المصابين.
وحين خطر لمونيكا أن تسأل: “أين سول؟” كان سريره قد أُخلي بالفعل.
وبما أن الوضع كان فوضويًا، افترضت أن أحدًا ما نقله بدلًا عنها، وأسفها الوحيد أنها لم تودّعه.
وكان يؤلمها أن الشاب لم يزل بضماد على عينيه حتى تلك اللحظة. فقد تعلقت به كثيرًا طوال فترة علاجه.
والآن، وهي تراه أمامها، تدفقت كل تلك الذكريات في لحظة، فاستقبلته بفرح:
“إنه أنا، موني! من مستشفى أربيد! ألا تتذكرني؟ أعلم أنك حينها لم ترَ وجهي بسبب إصابتك، لكن…”
ازداد عبوس الشاب، لكن مونيكا، ظنًا منها أنه يحاول التذكر، راحت تمعن النظر في وجهه.
كان وسيمًا للغاية، يرتدي ملابس أنيقة: ربطة عنق من الكتان الفاخر، وسترة سميكة منسوجة بإتقان.
لكن أكثر ما شدّ انتباهها كانت عيناه الساحرتان.
“حينها قالوا إنك قد لا تبصر مجددًا أبدًا! لكنك تعافيت تمامًا!”
“… ذاك…”
خرج صوته مبحوحًا مترددًا، وعندها فقط أدركت مونيكا أنه في موقف حرج.
وفهمت فورًا السبب.
يا إلهي… لقد كانت تمسكه من صدره تقريبًا، ووجهها قريب من وجهه بشكل فاضح. وبما أنه أطول منها بكثير، فقد كان يتراجع للخلف وكأنه يدفعه وجودها.
باختصار، لو رآها أحد في هذه الوضعية، لما فكّر بتوظيفها أبدًا.
“أوه! آسفة.”
أسرعت مونيكا بإفلات سترته، واحمرّ وجهها. لكنها واصلت الكلام دون توقف من شدة الارتباك:
“إنها أول مرة أراك بعينيك مفتوحتين! بعد الهزيمة، حاولت أن أعتني بك لكنك اختفيت… كيف قضيت كل هذا الوقت؟ وكيف أتيت إلى لاسبيتسيا؟”
لكن الشاب رفع يده بسرعة ليوقف تدفق كلماتها.
“عذرًا، آنسة.”
حلّ ابتسامة رقيقة مكان الحرج على وجهه، وقال:
“لا أفهم ما تقولينه. لستُ ذلك الشخص.”
“آه!”
ازداد احمرار وجه مونيكا. كانت متأكدة أنه سول، لكن الشاب كان يبتسم لها بملامح شخص يراها لأول مرة.
بدأ عقلها يدور في حيرة… صحيح أنه يشبهه كثيرًا، لكن شعر سول لم يكن ذهبيًا هكذا. مع ذلك، كم من الرجال غيّرت الحرب لون شعرهم إلى الرمادي من الاتساخ؟
ثم إن سول حينها كان أشعث اللحية، غير مرتب…
“آسفة…”
تراجعت خطوة للخلف وهي في حيرة. هل هو؟ أم لا؟ لكن الشاب بادرها بعذر لطيف:
“لا بأس. في هذا العالم كثيرون يتشابهون في الملامح.”
كان وقوفه مستقيمًا ووقاره يشي بأنه من بيت نبيل، خصوصًا حين وضع يده اليمنى خلف خصره في حضرة سيدة — وهي عادة من عادات الجنوب في المملكة.
عندها فقط اقتنعت مونيكا أن هذا ليس سول.
“اسمي لويس. يبدو أنني أشبه أحد معارفك كثيرًا.”
“آه… نعم…”
كان صوته منخفضًا عميقًا، حتى إنه يشبه صوت سول.
ورأى لويس الارتباك في عينيها، فابتسم أكثر:
“أوه، وجهك يشي بالأسف، وكأن الخطأ خطئي.”
“لا! لم أقصد إحراجك.”
هزت مونيكا يديها بسرعة وتراجعت أكثر، شاعرة أنها قد أساءت الأدب في أول لقاء.
ثم، بينما كانت تدير اتجاهها فجأة، اصطدمت بشيء…
“تنحّي جانبًا!”
“احذري!! .”
شدَّ الشابُّ مونيكا بخفةٍ إلى جانبه، حين همّت بالتراجع.
وبلا وعي، وجدت نفسها بين ذراعي ذلك الشاب الذي قدّم نفسه باسم لويس.
حتى وهي في دهشتها، التفتت وراءها، فرأت بحّارة مثقلين بالبضائع يمرّون على عجل. وكان أحدهم، حين التقت عيناه بعينيها، قد رمقها بنظرة حادّة كالسهم.
“هل أنتِ بخير؟”
لم تنتبه مونيكا لسؤاله إلا حين همس به، فانتفضت مبتعدة عنه على الفور.
“أعتذر… كنتُ على غير وعي بما أفعل.”
“لا، لا… بل أنقذتَني.”
لو أن البحّارة اصطدموا بها، لكانت سُحقت تحت ثقل تلك الحمولة. وربما أصابها مكروه.
ورغم أن رد فعلها العاجل انتهى بأن ضمّها إلى صدره، إلا أن ذلك كان سببًا للشكر لا للحياء.
تراجعت بخطوات حذرة هذه المرّة، ومدّ لويس يده لها، فصعدا معًا إلى الطريق الملاصق لقناة الميناء.
“خارج هذا الحاجز، هو طريق يعجّ بالعربات والناس على الدوام.”
“آه، فهمت… لم أكن أعلم.”
“ليس مكانًا مناسبًا لسيّدة. أأضعتِ الطريق؟”
أومأت مونيكا برأسها.
“نعم… كنت في طريقي إلى محطة القطار، ثم—”
“كما توقّعت.”
ابتسم لويس ابتسامة مشرقة هزّت قلبها.
“هذه المنطقة متداخلة مع ساحة أوجينت، ومن السهل أن يتيه الزائر لأول مرة. وبما أننا التقينا صدفة، فإن سمحتِ لي، سأرافقك إلى هناك.”
“أوجينت…؟”
“آه، هذا اسم الساحة أمام محطة القطار.”
“أوه، صحيح! كنت أبحث عنها.”
قادها لويس ببراعة، متجنّبين الأشرعة المبتلّة الملقاة على قارعة الطريق، وحفر الحبال، والممرات التي يتفجّر منها ماء مالح عكر بلا توقف. حتى خرجا إلى الرصيف حيث تهبّ الرياح الحارة.
“اسمي لويس فيرفايل.”
“وأنا… مونيكا.”
رفع حاجبيه قليلًا. فكّرت: إن سأل عن اسم العائلة فسأقول لا أملك. شدّت قبضتها على طرف فستانها، لكنّه لم يسأل، بل مدّ يده نحوها.
“انتبهِي.”
“آه.”
كانت هناك شبكة صيد مرمية على الأرض، لا تدري إن كانت مهملة أم في طور التجفيف.
أمسكت بيده وقفزت فوقها بخفة. فقال بابتسامة: “أحسنتِ.”
لم يمضِ وقت طويل حتى عرفت مونيكا عن لويس اسمه، وسنّه، وحتى موطنه الأصلي. قال إنه يسكن في مدينة قريبة إلى الشمال، وجاء إلى لاسبيتسيا يبحث عن شخص يعرفه.
“وهل وجدته؟”
“لا، وربما كنتُ مخطئًا في ظني أصلًا.”
“أفهم.”
كان لويس يجيد الحديث البهيج بطريقته الخاصة، حتى إنها وجدت نفسها تخبره بأنها جاءت للعمل كمعلمة خاصة، ووصلت صباح اليوم فقط. كان الحرّ لاذعًا، لكن المزاج ظلّ رائقًا.
“معلمة خاصة… كنتُ أتوقع ذلك.”
“أحقًا؟ أأبدو هكذا؟”
حتى نسيم البحر الذي يعبث بخصلات شعرها بدا مرحَّبًا به.
مدّ يده برشاقة ليعيد ترتيب شعرها، وقال:
“لا، بل لأنكِ صاحبة العينين الأكثر بريقًا ممّن رأيت.”
“يقولون كثيرًا إنني أبدو ذكية.”
“هاها، هذا أيضًا صحيح… لكن—”
غمز بعينه الزرقاء: “أظنك فضولية للغاية.”
احمرّت وجنتاها. يبدو أنه لاحظ كيف كانت تدير رأسها بين أرجاء الميناء وهي تمشي بجانبه.
“فقط… أنا لم أزر مدينة ساحلية من قبل.”
“هذا طبيعي.”
ضغط على يدها قليلًا وأفلتها، مشيرًا إلى مجرى ماء صغير عند قدميها. قفزت فوقه، ثم فجأة وجدت نفسها في ساحة المحطة.
“لقد وصلنا!”
“نعم… للأسف.”
وأشار نحو اليمين: “هناك باتجاه فندقك.” ثم أشار للجهة الأخرى: “وذاك الطريق يؤدي إلى حيّ القصور.”
شكرتْه بخجل: “شكرًا، لويس.”
“الشكر لي.”
ابتسم وهو يطوي زرقة عينيه، وكان حقًا وسيمًا للغاية. خطر ببالها فجأة أن تسأله: هل سنلتقي مجددًا؟ لكنّه سبقها.
“سنلتقي قريبًا.”
“هاه؟”
“أليس هذا ما أردتِ سؤاله؟”
تلعثمت في صمت، وهو لا ينتظر جوابها، بل انحنى ليطبع قبلة خفيفة على ظاهر كفّها. حركة في غاية التهذيب على الطريقة الجنوبية.
“صحيح أنني لستُ الرجل الذي كنتِ تعرفينه، لكن حين نلتقي مجددًا، سأكون ذلك الرجل. وهذا يسعدني.”
“يا إلهي…”
لم تستطع أن تمنع نفسها من قول ما كانت تفكر فيه منذ البداية:
“أنت حقًا… لعوب.”
ابتسم لويس بغمزة ضاحكة، ولم ينفِ. بل لوّح بذراعه في حركة خفيفة متهوّرة، كما لو كان النسيم سيحمله بعيدًا.
بادلتْه التحية، وهي تفكر: مهما كان هذا الرجل، من أي أسرة أو خلفية، فلا بد أن أبتعد عنه تمامًا.
᯽᯽᯽᯽᯽᯽᯽᯽
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 3"