لم يعلم أحد ما آل إليه أمرُ الأوغاد الذين اقتحموا قرية سُودام.
فقد طرح يوون-هوي جثثَهم في أعماق الجبل حيث تكثر الوحوش الضارية، ثم جاء المطرُ بعد حين فمحا حتى آخرَ أثرٍ من الدماء.
“فووو…”
غسل يوون-هوي وجهه عند مجرى الماء.
‘لعلها عادةٌ بعد القتل؟’
فمع أنّ الدم لم يلوث يديه ولا وجهه، إلا أنه رغب أن يغتسل على كل حال.
تأمل صورته المنعكسة في صفحة الماء الصافية.
كانت تلك أولَ جريمة قتلٍ يرتكبها منذ أن عاد بالزمن إلى الوراء.
أما الندم؟ فلا شيء من ذلك.
لم يندم قيدَ أنملة، لأنّ أولئك القتلى استحقّوا الموت حقًا.
فهؤلاء البشر لا يتغيرون أبدًا.
من ذاق لذةَ القوة واعتاد اضطهادَ الضعفاء وسلبهم لا يعود كما كان، لأنّ تلك اللذة حلوةٌ وسهلةٌ إلى حدٍ فاجر.
وحين يهددهم الخطر، قد يتظاهرون بالندم أو يُبدون التوبة لحينٍ قصير، لكنهم لا يُصبحون صالحين قطّ، وهذا ما كان يوون-هوي يعلمُه علمَ اليقين.
وربما وُجد في الدنيا استثناءٌ واحد.
لكن بعد أن عاش حياتين طويلتين، لم يرَ يوون-هوي في حياته مثالًا كهذا ولا سمع به.
ولذلك لم يؤمن بتلك الإمكانية الضئيلة، لأنه يعلم أنّ تصديقها خطأٌ واحد قد يُورِث أوجاعًا لآخرين لا يُحصَون.
فلماذا إذن كان يفعل ما يفعل الآن؟
لقد خشيَ فقط أن يعود إلى أسرته بعد أن أراقَ الدم دون أن يرفّ له جفن.
بل خاف أن يكون في جسده أثرٌ من رائحة الدماء بعد كل ما جرى.
وكان هذا نوعًا من القلق لم يعرفه من قبل، ليس في حياته السابقة بعد أن فقد أسرته.
فحينذاك، لم يكن له ما يخاف فقدانه أصلًا.
لكن مهما يكن، لا بدّ أن يعود أخيرًا.
هزّ صفحة الماء بيده فاختفت صورته، ثم نهض قائلًا في نفسه:
‘حان وقت العودة إلى العائلة.’
—
“أبيي!”
هرعت إليه ابنته يَولا، صغيرةُ العينين المضيئتين، وارتمت في أحضانه كأنها شعاع من حب.
“كيف حال صغيرتي يَولا في غيابي؟”
“بخير!”
“اشتقتِ إلى أبيك، أليس كذلك؟”
“نعم! نعم!”
بمجرد أن رأى ابنته تلاشت كل تلك الأفكار المعقدة التي أثقلت رأسه من قبل.
‘نعم، لا شيء يعنيني سواهم… عائلتي.’
“عدتَ بخير إذن؟”
التفت فإذا بـبينغ سوين زوجته تنظر إليه بعينين تشعّان حنقًا مكتومًا.
“هاهاها، أَه، عزيزتي…”
كانت قد وعدته بخمسةَ عشرَ يومًا، وقد مضى عليها أيامٌ فوق الموعد.
وفوق ذلك، لم يشرح لها أصلًا لأي شأنٍ غادرَ البيت، فما كان ذنبهُ هيّنًا ليتغافله بهذه البساطة.
همهمَ قليلًا يفكر بمخرجٍ للكلام.
لكن ما نفع الأعذار بعد كل هذا؟
قال وهو ينحني نادمًا:
“حقًا آسف… لا أجد ما أقول دفاعًا عن نفسي.”
“أأنتَ مقرٌّ بخطئك؟”
“نعم.”
“نعم نعم! أبي مخطئ!”
تابعت يَولا حديثه ببراءةٍ جعلت كليهما يبتسمان رغم الموقف.
لكن ملامح بينغ سوين ما زالت تخفي بقايا امتعاض، فقالت وهي تميل برأسها:
“هل جسدك بخير؟”
“من؟ أنا؟”
“وهل ثمّة أحد غيرك أقصده؟”
“غيرك أقصده!”
ضحك الثلاثة، وقد بدا أن يَولا استهوتها لعبةُ ترديد الكلام.
طبع يوون-هوي قبلة على خدها وهو يضحك:
“هاها، أنا بخير تمامًا، قوي كعادتي.”
تأملته زوجته للحظة، ثم اقتربت منه تنظر بتمعّن.
فانتبه وقال متوجسًا:
“ما بالكِ تنظرين هكذا؟”
“وجهك… أليس أنقى من قبل؟ كأن بشرتك صارت صافية، وطولك زاد قليلًا… وكتفاك مستقيمان أكثر من ذي قبل…”
“كخَخَم. ما هذا الكلام؟ ألستُ في سنٍّ تجاوزتُ فيها النموَّ؟”
“لا، بل تغيّرت فعلًا! أليس كذلك يا يولا؟ تعالي، المسِي بشرة أبيكِ، أليست ناعمة مشدودة؟”
“بشرة أبي ناعمة! ناعمة!”
أعجبتها الكلمة، فأخذت تُرددها وهي تتقافز فرِحة.
“هاهاها…”
أما يوون-هوي فقد علا داخلهُ الارتباك.
إذ بعد أن امتصَّ جوهرَ “سيد الحرب” وغابَ في غيبوبةٍ لأكثر من نصف شهر، تغيّر جسده كله تغيّرًا عجيبًا.
لقد تبدّل عظمًا ولحمًا حقًا — كما يُقال في الأساطير.
زاد طوله، ونضرت بشرته، وصار جسده في أنسب حالٍ لتعلّم الفنون القتالية.
وقد أدركت زوجته هذه التبدلات بنظرةٍ واحدة، فما أدهى حسَّ النساء!
تصلبت نظراتها قليلًا وقالت:
“أين كنتَ طيلة هذه المدة؟”
“أه، ذاك… في الحقيقة…”
فتّش في ذهنه عن جوابٍ فلم يجد سوى كلمةٍ بائسة واحدة: الينابيع الحارة!
ولعلها كانت اللحظة الأشد حرجًا منذ عودته بالزمن…
لكن في تلك اللحظة بالذات—
“قَرقررررر!”
زمجر بطنه عاليًا.
“أمي! أبي جائع!”
“لم تتناول الطعام بعد؟”
“هاهاها، أجل، هكذا جرى الأمر.”
“يا ويلي عليك، ادخل سريعًا. لقد أعددتُ لك شوربةَ اللحم التي تحبّها منذ أيامٍ وأنا بانتظارك. وسأضيف إليها قليلًا من المعكرونة.”
“آه، لذيذ! لا أطيق انتظارها.”
يا للحظ!
أنقذه جوعه من المأزق!
دخل البيت وهو يحمل يولا بين ذراعيه، وراحت بَينغ سُوين تدندن في المطبخ بسرورٍ لأنّ زوجها عاد سالمًا.
غير أنّ نظراتِ يوون-هوي خلفها كانت تزداد كآبةً وغموضًا.
‘ما الذي… حدث؟’
شيءٌ ما لم يكن في حسبانه وقع أثناء غيابه.
انخفض بصره إلى يديها، فارتجف قلبه.
تحت أظفارها بدا لونٌ قاتمٌ خافت… أسود.
‘سمٌّ…!’
لم يعلم منذ متى، لكن المؤكد أنّ زوجته الآن مسمومة.
وذلك أمر لم يحدث قطّ في حياته السابقة.
تصلّبت عيناه ببرودٍ مميت.
—
حلّ الليل، ودوّى نداءُ بومةٍ بعيدة.
“همم… أريد حلوى! حلوى واحدة بعد!”
تمتمت يولا وهي نائمة في حضن أمّها، فابتسم يوون-هوي بحنانٍ و مرارة وهو يراقب وجه زوجته الغافية.
لكن أنفاسها كانت خشنةً بعض الشيء.
ارتسمت الحيرة على ملامحه، إلا أنّه كان يعلم أنّ عليه أن يفعل شيئًا أولًا.
مدّ يده بهدوء نحو جسدها.
وووووم…
تألّق ضوءٌ خافت من جسدها، ثم انفصلت عنه خرزةٌ خضراءُ بحجم الإصبع.
كانت مشهدًا خارقًا لا يكاد يُصدق.
فطرقُ تنقية السموم المعروفة لا تتعدّى التعرق أو التقيؤ أو الإخراج الطبيعي، أما أن تُستخلص هكذا دون أن تُصاب الأعضاء بأذى… فذلك أقرب إلى المعجزة.
لم يكن في الدنيا من يُجيد مثل هذا سوى سيّد السموم الأعظم من أسرة دانغ في سيتشوان، وربما لا أحد سواه.
وإنما استطاع يَو وونهوي هذا لأنّه تمرّس بفنّ تشيونمو شينغونغ، أي “فنّ سيد الحرب”، الذي يطهر الشرَّ ويمحو كلّ دنس.
إنه بحقّ فنٌّ سامٍ يفوق الوصف.
“هاه… هذا هو إذًا.”
تمتم وهو يتأمل تلك الخرزةَ السامّة التي تلمع بوميضٍ كدرٍ على كفّه، ثم وضعها بحذرٍ في قارورةٍ صغيرة.
وسرعان ما عادت أنفاسُ زوجته إلى هدوئها.
لحسن الحظ، لم يكن السمُّ قاتلًا فوريًا، بل من النوع الذي يُنهك الجسد ببطءٍ ويذويه كزهرةٍ تذبل على مهل، وهو ما يجعلُه أبشع أنواع السموم.
‘سمّ…!’
عبسَ وقد انهمرت الأفكار في رأسه.
من ذا الذي حقدَ عليها إلى هذا الحدّ؟
لكنّ أكثر ما حيّره هو أن زوجته في حياته السابقة لم تُصب بمثل هذا قطّ.
تُرى… لحظة…
رفع القارورةَ أمام الضوء.
‘أيمكن…؟’
هل كانت زوجته في حياته السابقة قد ماتت مسمومة، لا مريضة كما ظنّ؟
وهو، البائس، لم يدرك ذلك قطّ؟
كلُّ الدلائل تشير إلى أن الأمر كذلك.
ضحك بمرارةٍ وانفجر غيظًا.
كم بدا غريبًا الآن!
فزوجته كانت ابنةَ أسرةٍ مرموقةٍ من عظماء المقاتلين في عالم الفنون القتالية، وقد شبّت على العقاقير المنقية وتدرّبت على الفنون منذ صباها، فأنّى لمثلها أن تموت بمرضٍ واهٍ؟
ومع ذلك، في حياته السابقة، سقطت فجأة واشتدّ مرضُها حتى أعيا الأطباء، ثم رحلت…
حينها لعن يوون-هوي السقم التي سلبه زوجته على حين غرة.
لكن الحقيقة الآن باتت جلية:
‘لم تكن المرض من أخذها، بل قاتلٌ خفيّ.’
وفي النهاية، فقد زوجتَه وابنتَه بيد الغدر نفسها، وعجز عن حماية أحد.
أطرق رأسه بغضبٍ ممزوجٍ بالعار.
يا له من ضعفٍ مقزّز!
وفوق ذلك، خصمه هذه المرّة ليس هيّنًا.
فلو لم يكن من كبار المقاتلين لما خفي السمُّ حتى عن زوجته التي بلغت مرتبة عالية من المهارة.
التعليقات لهذا الفصل " 7"