‘ما هذا الذي أراه…’
ارتجف جسد المحارب الأكبر، بل الوحيد الباقي على قيد الحياة، ارتجافاً شديداً.
لقد ظنّ أنّ ذلك المثقف التافه قد استبدّ به الغضب حتى فقد رشده وأقبل عليه بتهوّر.
كان المخطط أن ينال ذلك المعلم الضرب المبرح على يد إخوته، فيفيق من غيّه، ويستجدي الرحمة.
ثم بعد ذلك يُقتل شرّ قتلة، ويُجرّ جثته إلى مدخل قرية سودام ليُعلّق على بابه، ليكون عبرة لكل من تسوّل له نفسه الاقتراب منهم ثانية.
وكان هو وإخوته ينعمون بعد ذلك، على غير خوف، بالسهر واللهو وشرب الخمر في بيوت اللهو طوال الليل، بينما يبقى أهل القرية يرتجفون هلعاً تحت وطأة المشهد.
غير أنّ الأمر انقلب رأساً على عقب.
‘ما ذاك الذي أراه؟!’
تلك النظرة في عيني ذلك المعلم.
لمحها المحارب فجمُد جسده في مكانه.
هو أيضاً عاش دهوراً في طريق السوء، وأراق من الدماء ما لا يُحصى.
وشهد حروباً ومعارك كثيرة وخرج منها حيّاً.
فلم يكن يخشى نظرات القتلة أو تهديداتهم.
لكن هذا… كان مختلفاً.
لم تكن تلك عينَ قاتلٍ مألوف.
بل عينُ رجل جزّ رقاباً لا تُعد ولا تُحصى.
‘كيف لشخصٍ في قرية نائية، مثقف بسيط، أن يحمل هذه العينين؟’
كان الأمر عصياً على التصديق.
بل لم يكن ذلك وحده هو المستحيل.
فها هما جثتا أخويه ملقَيتان على الأرض، مذبوحتين شرّ ذبح.
ابتلع المحارب ريقه بجهد، فقد أيقن أنّ دوره آتٍ لا محالة.
وفي خضم ذلك الجو المشحون، خرج صوته متحشرجاً:
“أنا….”
نظر إلى يوون هوي نظرة ذليلٍ خائف وقال:
“ماذا عساي أصنع كي تُبقيني حيّاً؟”
كان همّه الوحيد النجاة.
—
أما عمدة قرية سودام، فقد بدا مذهول الوجه.
“ما الذي… يحدث؟”
لم يصدق المشهد أمامه.
قبل لحظات كان يتجول في القرية، يطفئ غيظه من الأحداث الأخيرة، فإذا به يصادف ما لم يتمنّ قط أن يراه.
أولئك الغرباء عادوا! ما الذي أعادهم؟ وبأيّ مطلب؟ الخوف هو كل ما شعر به.
غير أنّ المفاجأة كانت أكبر.
“خذوه كما هو.”
فجأة، استقرّت على راحة كفه صرّة ثقيلة من النقود.
وصاحبها واحدٌ من أولئك المحاربين الذين قبل نصف يوم فقط كانوا ينهبون القرية ويُرهِبون أهلها، وهو الآن ينحني أمامه!
كان المشهد أقرب إلى حلمٍ سخيف.
“أعيد اعتذاري. أنا… حقاً آسف.”
انحنى ثانيةً.
لم يعرف العمدة كيف يتصرّف.
أليس هذا الرجل نفسه الذي كاد قبل ساعات يقتل كلّ من يعترض طريقه؟
“المال الذي أخذناه نعيده كاملاً، بل زدنا عليه نفقةً لعلاج صديقكم الذي أصبناه. أعلم أنّه لا يكفي، لكن رجاءً… تقبّلوه.”
“ما… ما الذي يحدث؟”
بدت هيئة المحارب وكأنّه شخص آخر تماماً.
ومع ذلك، لم يثق العمدة به كلياً.
“أتراك تختبرنا؟”
هزّ المحارب رأسه بعنف.
“لا. لا. صدقني، هذا خالص اعتذاري. إن لم تصدق، فمرني فأسجد بين يديك الآن.”
“لا، لا تفعل! كفى.”
بل ازداد العمدة قلقاً مع كل كلمة اعتذار.
“ها قد رددنا المال واعتذرنا، ولن تَرَنا بعد اليوم. بل نغادر هذه الأنحاء نهائياً. وداعاً.”
وانصرف على عجل.
“يا عمدة!”
التفت فإذا بالقرية كلها تهرع نحوه بفزع، ظنّوا أنّ المحاربين عادوا للإجرام.
“عجيب…”
لم يزل العمدة مبهوتاً يحدّق في ظهر المحارب الذاهب بعيداً.
ما الذي جرى؟ وأين ذهب رفيقاه؟ وما باله يرتجف ويتصبّب عرقاً كهذا؟
آخر ما علق بذهنه أنّ وجه الرجل كان أشبه بوجه من رأى شبحاً.
—
“قد فعلت ما أمرتني به.”
قال المحارب، عائداً من القرية، بوجهٍ يقطر خوفاً.
وكان يوون هوِي جالساً ينظر إلى الأفق بلا التفات.
“أيمكنني الانصراف الآن؟”
“وأين تذهب؟”
“أبعد مكان أبلغه، أعيش في هدوء.”
“هدوء؟ وأنت؟”
“أجل، أقسم.”
ابتسم يوون هوي ابتسامة ساخرة.
“أتظنّ المرء يتغير؟”
“ماذا تعني؟”
“هل تستطيع أن تعيش بلا نهبٍ وابتزاز؟ وأنت هاربٌ من سادة عضام قد خذلتهم؟”
“كيف… كيف عرفت؟”
لقد كان يعلم.
ففي حياته الماضية، هؤلاء دخلوا القرية نفسها، وبقوا شهوراً ينهبونها حتى وقعوا في قبضة أحد كبار المحاربين من تحالف المراتب، وأُودعوا السجن.
سمع آنذاك عن جرائمهم، عن كونهم فلولاً منهزمة من حروب العصابات السوداء.
قتلوا الشيوخ والأطفال بلا رحمة، واغتصبوا النساء وقتلوهن بوحشية.
لهذا لم يتردد يوون هوي لحظة.
أمثالهم لا يستحقون الحياة.
حتى لو لم يتدخل، كانوا سيُساقون إلى السجن بعد أشهر، لكن لمَ الانتظار؟
لقد هدّدوا أمن قريته وأهلها، وتجرؤوا حتى على التطلع إلى زوجته.
وذنوبهم الماضية تجعل السجن وحده رحمة لا يستحقونها.
هؤلاء،
‘لا بدّ أن يذوقوا أشدّ العذاب.’
التفت يوون هوي إلى المحارب.
ارتعد قلب الرجل.
“أفهم الآن… أنت لن…”
أدرك الحقيقة: لم يكن لهذا الرجل أن يرحمه قط.
“آه… تبّاً!”
استدار يعدو لينجو بحياته.
لكن،
“لا تعبث.”
ترنّح فجأة وسقط.
شعر بفراغٍ مروّع في جسده.
نظر إلى الأسفل، فإذا بإحدى ساقيه مقطوعة.
اندفعت الدماء.
“آآااه!”
اقترب يوون-هوي بخطوات ثابتة.
“لا… لا تقترب!”
استلّ سيفه وراح يلوّح به.
لكن،
بُتر ذراعه ومعه السيف.
اندفعت الدماء سيلاً، وراح يحاول وقف النزيف عبثاً.
صرخ، ثم أغمي عليه من شدّة الألم.
غير أنّ يوون هوي لم يتوقف.
جرّه من شعر رأسه، يجرّه على الأرض.
تمتم المحارب المذبوح:
“أين… تأخذني؟”
لم يجب. تابع جرّه حتى بلغ مكاناً مظلماً.
ثم،
هوى به في حفرة سحيقة.
قال:
“كان هذا جُبّاً لِصائدي الأرض قديماً. اليوم… لا أحد فيه.”
ثم صدحت أصوات:
“سسسس… شششش…”
ارتعد المحارب.
التفت، فإذا بعيون صفر تتلألأ حوله في الظلمة.
“أ… أفاعٍ؟”
رفع رأسه إلى يوون هوي:
“قلتَ إنّك تريد الحياة. فلتنجُ هنا، وسأعترف بك… وإن كان محالاً.”
“يا شيطان! يا وحش!”
لكن يوون هوي غاب عن بصره.
تقدمت الأفاعي.
“لا… لاااا!”
تصاعد صراخه في أرجاء الجب.
ثم خيّم الصمت.
كانت تلك واحدة من أبشع النهايات التي يمكن لإنسان أن يلقاها.
التعليقات لهذا الفصل " 6"