أمعن فيليكس النظر في وجه ماريان، يتأكد أنها لم تصب بأذى. لكن حفيفًا مفاجئًا من جوارهما قطع أفكاره. التفت غريزيًا نحو مصدر الصوت، فرأى فارسًا يهرع نحو القصر. تجمّد لحظة، ثم استقام على الفور وساعد ماريان على الوقوف.
قالت ماريان بصوت منخفض، لكن القلق تخلله.
“ما الأمر، فيليكس؟”
مرّر يده بين خصلات شعره، يحاول استعادة رباطة جأشه و ترتيب أفكاره.
“هناك فارس رآنا… سيظن أنني–”
تسارعت أنفاسها قليلًا. كل شيء اتضح في ذهنها دفعة واحدة. سيدريك أراد تدمير سمعة فيليكس. قاطعته ماريان بسرعه.
“لا وقت لهذا، فيليكس.”
كانت تهندم ملابسها و شعرها بالفعل بينما فعل فيليكس المثل، كانت افكار ماريان تدور كدوامة، يجب عليهما إيجاد حل و بسرعة. إلى أن سمعا صوت الموسيقى القادم من الحفله. تلاقت نظراتهما، احمرّت وجنتهما.
سعل فيليكس بخفة قبل أن يتمتم.
“ماريان… أممم… أتريدين الرقص؟”
نظرت إليه لوهلة، ثم أومأت برأسها ومدّت يدها بتردد. حين لامست أصابعها أصابعه، التفّت يده حول يدها تلقائيًا. تجمّد الهواء بينهما لحظة، وتوقّف قلبها عن الخفقان للحظة خاطفة قبل أن تبتسم بخجل.
“أجل، فيليكس…”
ابتسم بضعف هو الآخر، ثم بدآ بالرقص.
بعد خروج الناس من القاعة
عبس ليوناردو للحظة قبل أن يلتفت إلى من تبعوه. قال بنبرة هادئة.
“أتأسف حقًا عن الفوضى التي سببها الفارس. سأتأكد من عقابه بنفسي. يمكن للجميع الآن العودة إلى الحفل.”
تهامس النبلاء قليلاً ثم بدأوا بالتفرق، أصواتهم تتلاشى شيئًا فشيئًا. حين ابتعد الجميع، توقف فيليكس وماريان عن الرقص. كان الصمت الذي تلاهم أثقل من أي موسيقى. بدا آرثر غاضبًا بحق، قبضته مشدودة و هو يبذل قصارى جهده ألا يصرخ.
“ما الذي حصل بحق الجحيم؟!”
فركت إيلاني جبهتها، تحاول استيعاب ما جرى.
“من حسن حظكما أن يوجين لم يسمع هذا… لم يكن ليتحمل سماع أن أخته ماتت…”
“…..”
ساد صمتٌ قصير، حتى قال فيليكس بصوت خافت.
“حسنًا… في الواقع… لقد هاجمت ماريان فعلًا…”
“ماذا؟!!”
صرخ الثلاثة بصوت واحد، هرعوا نحو ماريان ليتأكدوا أنها بخير. رفعت يدها بسرعة تهدئهم، بابتسامة واهية.
“أنا بخير حقًا… لا أدري ما الذي حصل، لكن فيليكس ابتعد عني قبل أن يفعل شيئًا…”
نظر فيليكس بعيدًا. لم يحتمل نظراتهم. كان يشعر بالعار يلتهم صدره. وحش. ترددت الكلمة في رأسه كخنجر، مرارًا و تكرارًا.
اختنق الهواء في صدره. فك ربطة عنقه، محاولًا التنفس.
‘أنا… أنا مسخ.’
رفع بصره نحوها، وعيناه تغرقان بالندم. لكنها ابتسمت برقة وسألته.
“أأنت بخير، فيليكس؟”
تجمد في مكانه للحظة، مستجمعًا شتات نفسه ثم همس.
“أنا… بخير… آسف حقًا لما فعلته…”
قالت ماريان.
“لا بأس، أخبرتك أنني بخير…”
تدخلت إيلاني سريعًا.
“لا يمكننا أن نخبر يوجين…”
أدار آرثر عينيه بعصبية.
“بالطبع لا يمكننا أخباره!”
لكن ليوناردو قال بهدوء، رغم القلق الذي خيّم على صوته.
“لا. يجب أن نخبره. لكن ماريان هي من يجب أن تفعل. ربما لن يغضب كثيرًا إن سمعها منها.”
أومأت ماريان برأسها مبتسمة بخفوت.
“سأخبره لاحقًا الليلة… فيليكس، ربما عليك أن تعود لغرفتك.”
قالت إيلاني موافقة.
“أجل، إنها محقة. سأصطحبك بنفسي.”
تنفس فيليكس بعمق، كمن يسلم نفسه للواقع.
“أجل… ربما يجب أن أذهب… ماريان، أنا… آسف مجددًا…”
ابتسمت ماريان ابتسامة صغيرة دافئة.
“لا بأس، ارتح جيدًا، فيليكس.”
رحل فيليكس مع إيلاني، وخلفهما ترك فراغًا ثقيلًا. تبادل آرثر وليوناردو النظرات؛ كان في عيون كل منهما تساؤل صامت. شيء غريب في سلوك إيلاني، لكن لا أحد نطق به.
أما ماريان، فبقيت ساكنة في مكانها. لم ترَ سوى تلك النظرة في عيني فيليكس… نظرة من يطارده شبح.
في تلك الليلة، خرج ليوناردو وحده إلى الساحة الخلفية، يبحث عن الفارس الذي أنبأهم. وجد الرجل أخيرًا… أو ما تبقّى منه.
كان الجسد ممزقًا على نحو لا يُوصف، وكأن وحشًا لعب به ثم ألقاه جانبًا. إحدى عينيه ما زالت مفتوحة، تحدّق برعب أبدي، والأخرى منزوعة، القيت القدمان مبتورتين بعيدًا عن الجسد بينما تناثرت احشاؤه في كل مكان. كانت رقبته ملتوية بزاوية غير ممكنة لجسدٍ بشري.
“ما هذا بحق السماء…” همس، يحدّق حوله، كأن الهواء نفسه قد يجيبه. لم يكن هناك أحد. لا أصوات، لا حركة. فقط هو… وبقايا جثةٍ باردة تعبق برائحة الدم.
زفر بغضب وهو يتمتم.
“سحقًا…”
ــــــــــــــــــــــ
في غرفة سيدريك.
كان القمر يسكب ضوءه على أرضية الغرفة حين خلع قميصه ببطء.
“عمل جيد…”
قال بابتسامةٍ وهو يربّت على رأس الذئب الضخم الجاثم بجواره.
رفع شيئًا بين أصابعه، عين الفارس، نظر إليها للحظة قبل أن يسحقها بقبضته و يلقيها أرضًا. تطايرت الدماء على الأرض، فابتسم أكثر، ابتسامةً وحشية تلمع في عينيه.
“ذلك الفاشل… لم يستطع حتى الوشاية كما يجب.”
ضحك بخفة، صوتها بارد كالنصل.
“لكن لا بأس. الخطة ستسير تمامًا كما أريد.”
مسح بقع الدم العالقة على صدره، ثم استلقى على السرير ورمى قطعة لحم نحو الذئب. عيناه الزرقاوان تحدّقان في السقف، جليديتان… خاليتان من الندم.
تمتم بازدراء.
“ليس لديه قدرات سحرية حتى…”
ثم بصق على العين المسحوقة بجواره، متابعًا ببرود.
“على الأقل، كان صراخه ممتعًا.”
ـــــــــــــــــ
ذهبت ماريان إلى غرفة يوجين وطرقت الباب.
“أخي؟”
“أوه، ماري، تفضّلي بالدخول!”
جاءها ردّه من الداخل، ابتسمت… كادت تسمع ابتسامته من نبرته.
دخلت ماريان واحتضنته قبل أن تسأله.
“لمَ اختفيتَ في منتصف الحفل؟”
تراجع يوجين قليلًا وابتسم بخجل.
“آسف… احتاجني الفرسان بعض الشيء… أخوكِ الأكبر قائد رائع، أليس كذلك؟”
ضحكت ماريان و قالت.
“بالطبع أنت كذلك، يوجين.”
ثم خفت ابتسامتها قليلاً واستجمعت نفسها.
“هناك شيء يجب أن أطلعك عليه… لكن لا تغضب، حسنًا؟”
رفَعَ يوجين حاجبه مستفهماً.
“حقًا؟ ما هو؟”
أخذت ماريان نفسًا عميقًا، ثم قالت بصوت منخفض لكن ثابت.
“حسنا… اليوم، خرج فيليكس و هو يبدو متعبا، تبعته للخارج… كان في الواقع قد اصيب بحالة هياج لذا… هاجمني… لكن، قبل أن تغضب! أنا بخير، فيليكس ابتعد عني بنفسه دون أن يصيبني بأذى…”
انفجر يوجين صارخًا.
“هو… ماذا؟! كيف تمكن من فعل هذا؟ ذلك ال—”
تردّد، شيئٌ ما في كلام ماريان عن محاولة فيليكس السيطرة على نفسه خفّف من حدة غضبه. لم يكن طبيعيًا أن يستطيع فيليكس التحكم في نفسه عند الهياج، لكنه فعل من أجل ماريان. تنهد بعمق ثم قال أخيراً.
“حسناً… ما زلت غاضبًا منه! لكني لن أقتله… ربما، سأضربه فقط غدًا.”
ابتسمت ماريان واحتضنته مجددًا، مما جعله يبتسم على مضض.
“أحبكِ كثيرًا، تعلمين ذلك؟ أنا فقط… قلقٌ عليكِ.”
أومأت ماريان برأسها مطمئنة.
“أعلم… لا داعي للقلق. أستطيع الاعتناء بنفسي. فيليكس علّمني بعض الأشياء، وكنت أحمل خنجرًا… لو لم يبتعد، لابعدته بنفسي.”
اتسعت ابتسامة يوجين، وقبّل جبينها برفق. “هذه هي أختي…”
ـــــــــــــــــ
كان فيليكس مستلقيًا في سريره، غارقًا في دوامة أفكاره. لم يستطع النوم؛ الكوابيس عن والدته عادت تطارده، ومعها ذكرى ما حدث مع ماريان.
عند ذكرها، التفت نحو الطاولة بجواره، حيث وُضِعت بعض الشموع المعطّرة. ابتسم بخفوت. كانت ماريان قد اشترتها له في أول مرة ذهبت فيها إلى السوق، قائلة إنها تساعد على النوم.
مدّ يده نحو إحداها، أشعلها ثم أعادها إلى مكانها، راقب وهجها الهادئ يتراقص على الجدار. شكّ في أنها ستحدث فرقًا… إلا إذا كانت ماريان قد وضعت فيها مخدّرًا. ضحك بخفوت على الفكرة، ضحكة قصيرة سرعان ما انطفأت مع عودة الصمت إلى الغرفة.
استلقى على ظهره يحدّق في السقف. الإمبراطور سيعلن قريبًا عن مغادرة ماريان لعائلتها. كان عليه أن يكون مستعدًا لكل ما سيترتّب على ذلك. هل يوجين غاضب منه كثيرًا؟ وهل… حقًا ماريان لا تكرهه؟ والده… لا يزال في غيبوبه… والدته… تسللت تلك الأفكار خلال هدوء الليل حتى أثقل النعاس جفنيه أخيرًا، وفي النهاية، استسلم للنوم بينما وهج الشمعة يذوب ببطء بجانبه حتى انطفأت.
التعليقات لهذا الفصل " 8"