كان فيليكس يجلس على الأرجوحة، ضاحكًا بينما تدفعه والدته، ليلي أوتبرن.
“أليس هذا لطيفًا، ليكس؟”
ضحك فيليكس بسعادةٍ صافية.
“أجل! أحب هذه الأرجوحة حقًا! شكرًا لكِ، ماما!”
ابتسمت ليلي، وكانت عيناها الزرقاوان تشعّان بالحب.
“لا داعي لشكري، حبيبي الصغير… أتريد أن تأكل بعض الحلوى؟”
لمعت عينا فيليكس، وأومأ بحماسة.
“حلوى!”
ضحكت ليلي وهي تحمله بين ذراعيها.
“أجل، حلوى من أجل ليكس.”
تمسّك فيليكس بها بشدة، ثم سألها بصوتٍ طفوليٍّ بريء.
“ماما، لماذا ليس لدي شعرٌ برتقاليٌّ وعيونٌ زرقاء مثلكِ؟”
فكرت ليلي للحظة قبل أن تجيبه بابتسامة دافئة.
“هممم، ربما لأنك تشبه بابا؟ أيضًا، أنت وسيمٌ ورائعٌ كما أنت، ليكس.”
احمرّ وجه فيليكس بخجل، ودفن رأسه في عنقها. لكن خجله سرعان ما اختفى حين رأى والده، إيريك، واقفًا ينتظرهما وبيده طبق الحلوى.
“بابا! لقد أحضرت الحلوى!”
كان إيريك يشبه فيليكس حين كبر، ولكن بشعرٍ أقصر ونظرةٍ أكثر هدوءًا. ابتسم لهما وقال.
“أجل، أحضرت لك الحلوى… أيها الوغد الصغير.”
هز فيليكس رأسه برفض لطيف.
“لا! أنا لست كذلك! ماما قالت إني وسيم ورائع!”
ضحك إيريك بخفّة.
“بالطبع قالت ذلك… هيا، تناول حلواك.”
وضعت ليلي فيليكس أرضًا، فجرى نحو والده. تناول قطعة من الحلوى وملأت الضحكة وجهه الصغير.
همست ليلي وهي تنظر إليه بابتسامةٍ متعبة.
“أليس ألطف طفلٍ في العالم؟”
أومأ إيريك وهو يتأمل ابنه.
“إنه كذلك…”
رفع فيليكس رأسه نحوهما، وأماله قليلًا باستغرابٍ طفولي.
“ماما، بابا… بما تتهامسان؟”
ابتسم إيريك وربت على شعره.
“لا شيء يا فيليكس… هل أعجبتك الحلوى؟”
أومأ فيليكس بحماسٍ، وفمه ممتلئ بها.
“أجل! إنها لذيذة! شكرًا، بابا.”
ازدادت ابتسامة إيريك دفئًا.
“العفو…”
ـــــــــــــــــ
ليلًا، أخذته ليلي إلى الفراش، وكان فيليكس مستلقيًا بينما تمرّر أصابعها بلطفٍ بين خصلات شعره.
“ماما… أليس من المفترض أن تختفي اللعنة إذا شرب أحد أفراد العائلة دمًّا من الشخص الذي يحبّه؟”
أومأت ليلي بخفوت.
“بالفعل، لما تسأل؟”
تثاءب فيليكس وهو يجيب بنعاس.
“بابا يحبك… أليس من الممكن أن يفعل هذا ونتخلّص منها؟”
ابتسمت ليلي وراحت تداعب شعره مجددًا.
“هناك الكثير من الأشياء التي لا تعرفها بعد، ليكس… عندما تكبُر ستفهم.”
بدأ النوم يثقل جفنيه.
“لكن أنا كبي…”
قبل أن يُكمل، كان قد استسلم للنوم تمامًا. ابتسمت ليلي، وانحنت لتقبّل جبهته.
“تصبح على خير، ليكس… ماما تحبك.”
نهضت بهدوء وغادرت الغرفة، ثم دخلت إلى غرفتها حيث كان إيريك جالسًا، يتصفّح كتابًا آخر عن اللعنة، وعلى وجهه علامات الإحباط. جلست بجانبه وسألته بصوتٍ خافت.
“لا شيء؟”
تنهد طويلًا، ثم قال بمرارة.
“لا شيء.”
مدّت ليلي يدها لتضعها على كتفه، ناظرة إليه بعينين مطمئنتين.
“لا بأس… لا يمكنك التخلص منها على أي حال، أليست تلك خيانة للعائلة الإمبراطورية؟”
أومأ برأسه بخفوت.
“إنها خيانة للعائلة الإمبراطورية…”
ابتسمت ليلي ابتسامة دافئة.
“انتهى الأمر إذًا. وأنا أحبك، أنت وفيليكس، سواء كنتم مصّاصي دماء أم لا.”
قابلها إيريك بابتسامة ضعيفة، وأمسك بيدها.
“شكرًا، عزيزتي.”
مالت لتقبّل خده، وقالت بخفة.
“علينا النوم الآن أيضًا. تعرف عادة فيليكس في إيقاظنا فجرًا…”
ضحك إيريك بهدوء.
“ذلك الوغد الصغير…”
حين تمدّد الاثنان إلى جوار بعضهما، ظلت ليلي تحدّق في السقف لوقتٍ طويل، تفكّر في كلمات فيليكس…
كانت ماريان تصارع فيليكس الذي انقضّ عليها بعنف، أنيابه تلمس بشرتها تقريبًا، أنفاسه الساخنة تلهب عنقها. شعرت للحظة بضعفٍ يجتاح جسده، فاستجمعت قواها ودفعته بعيدًا عنها.
تراجعت خطوة وهي تلهث، ثم نظرت إليه بعينين مرتجفتين.
“فيليكس… أرجوك!”
لكن فيليكس لم يكن يسمعها، كان غارقًا في صرخاته، يمسك رأسه بكلتا يديه كأن الألم يمزّق جمجمته. بدا كحيوانٍ جريحٍ يختنق من داخله، تتناوب عليه الذكريات، والعطش ينهشه حتى العظم.
تردّدت ماريان لحظة، ثم تقدّمت نحوه مجددًا بخطواتٍ حذرة.
حين رفع رأسه نحوها، كان في عينيه بريق جوعٍ دامٍ، فانقضّ عليها ثانيةً. لكنها هذه المرة أيضًا لم تفرّ، بل رفعت يديها لتحتضن وجهه بكلتي كفّيها، رغم رعشة الخوف التي تسري في أطرافها.
قالت بصوتٍ ناعمٍ، متوسّلٍ، يرتجف.
“فيليكس… أرجوك، هذه أنا…”
تجمّد للحظة، عيناه متسعتان و لكن لم يبتعد، بدأت الذكريات تتدفّق مجددًا…
نهض فيليكس من سريره في ليلة عيد ميلاده السادس، لم يستطع النوم من شدّة الحماس. كانت الدقائق تمر ببطء، وكل ما يشغل باله هو الهدايا والاحتفال المنتظر.
قفز من فراشه وركض بخفةٍ في الممر، قلبه يخفق سعادةً وهو يتجه نحو غرفة والديه.
لكن حين اقترب، تجمّد في مكانه.
كان الباب مفتوحًا على مصراعيه، وصوت صراخٍ يمزّق الهدوء. رأى جنودًا في الداخل يحاولون السيطرة على الموقف، وصوت والدته يعلو وسط الفوضى.
“لا! لا تؤذوه!”
اتسعت عينا فيليكس، وجفّ حلقه.
كان والده هائجًا، عينيه تلمعان بجنون، والفرسان مترددون في الاقتراب منه خشية الأذى. بينما كانت ليلي تبكي، تحاول تهدئته بلا جدوى.
“ماما…؟”
نظرت ليلي نحوه، والذعر يكسو ملامحها.
“لا داعي للقلق، ليكس، سيكون والدك بخير… أخرج!”
اندفعت نحوه ودفعته خارج الغرفة، ثم أغلقت الباب… أو ظنت ذلك، إذ بقيت فرجة صغيرة رأى منها كل شيء.
اقتربت ليلي من إيريك ببطء، تهمس باسمه، لكن الوحش في داخله هاجمها.
صرخ الفرسان محاولين إيقافه، لكنهم لم يستطيعوا.
قالت ليلي بين دموعها وصوتها المرتجف.
“إيريك، أرجوك… من أجل فيليكس!”
لكن صراخها انقطع عندما غرز أنيابه في رقبتها.
تصلّب فيليكس، عيناه متسعتان، وجسده الصغير يرتجف بعنف. الدموع انهمرت على وجنتيه وهو يزحف إلى الوراء، أراد أن يوقف والده لكن قدميه خذلتاه. كان غير قادرٍ على الوقوف، على الصراخ، على الفهم.
“ب… بابا… ماما…”
حين ابتعد إيريك أخيرًا، كانت ليلي ساكنة بين يديه. أفاق من غيابه، نظر إلى الدماء التي لطخت يديه، ثم إلى وجهها الشاحب.
“لا… ليلي؟ ليلي، أرجوكِ… ليلي! أجيبيني! ليلي!!”
كانت تلك صرخة تمزّق القلب، أدرك فيها أنه للتو قتل زوجته بيديه.
انهار على الأرض محتضنًا جسدها، بينما سقط فيليكس مغشيًّا عليه — لم يحتمل الصغير ما شهده.
ـــــــــــــــــ
انتفض فيليكس من سريره مذعورًا، يتصبب عرقًا والدموع تملأ وجهه. كان الخدم يحيطون به، نظرات القلق تملأ عيونهم.
نظر إليهم بعينين دامعتين، صوته يرتجف بين شهقةٍ وأخرى.
“ماما… بابا؟ أين ماما وبابا؟ كان هذا كابوسًا، صحيح؟ بابا لم يقتل ماما… صحيح؟”
لكن أحدًا لم يُجِب. تبادل الخدم النظرات المرتبكة، وابتعد بعضهم بخطواتٍ مترددة.
نهض فيليكس من الفراش، قدماه ترتجفان، وركض نحو غرفة والديه.
كان الباب نصف مفتوح، ومن خلفه رأى المشهد الذي سيطارده مدى حياته.
والده مستلقٍ على السرير، وجهه شاحب كالميت، وإلى جواره قائد الفرسان، أدريان، يهمس للأطباء بوجهٍ كئيب. كانت الأرض مغطاة بالدماء.
تسمرت قدما فيليكس، ثم بدأ يهز رأسه في إنكارٍ يائسٍ والدموع تتساقط بغزارة.
“سير أدريان… أين ماما؟ لما لا يستيقظ بابا؟ أنا أريد ماما وبابا!”
تردد أدريان قليلًا، نظر إلى الصغير بحزنٍ شديد قبل أن يقول بصوتٍ خافتٍ مرتجف.
“سيدي الصغير… والدك في غيبوبة، ووالدتك قد… ماتت.”
كأن الكلمات كانت سكاكين تخترق صدره.
انهار العالم حوله في لحظة، شهق فيليكس يحاول أن يلتقط أنفاسه وهو يمسح دموعه بيديه المرتجفتين.
“لا! ماما وعدتني أنها لن تموت! وبابا قال إننا سنبقى معًا! توقف عن الكذب! أنت تكذب!”
ركض نحو السرير قبل أن يمسكه أدريان ويضمه إليه، احتضنه بقوة بينما ارتجف جسد الطفل الصغير في أحضانه.
كان شاهدُ قبرِ ليلي هناك، يقف فيليكس أمامه وحيدًا، ممسكًا بباقةٍ صغيرةٍ من الزهور بيديه المرتجفتين.
قال بصوتٍ متهدّجٍ تغلبه الدموع.
“ماما… لقد كذبتِ عليّ… وعدتِني أنكِ لن تموتي… لماذا؟ لماذا فعلتِ هذا؟! أنا لا أريد أن أكون دوقًا كما يقول الجميع، أريد فقط أن أكون معكما! أريد أن ألعب، أن آكل الحلوى، أن تقرئي لي قصة قبل النوم… أن تدفعيني على الأرجوحة، ماما، أرجوكِ… إنه عيد ميلادي اليوم… لا تتركيني وحدي… عودي إليّ، فقط هذه المرة…”
لكن لم يجبه سوى الصمت، صمتُ المقابر والليل البارد الذي التف حوله كعباءةٍ من الوحدة.
جلس أمام القبر حتى منتصف الليل، حتى انقضى عيد ميلاده الذي تمنّى لو لم يأتِ أبدًا.
حين اقترب الفرسان وأخذوه بعيدًا أخيرًا، نظر إلى المرآة في طريقه.
انعكست فيها ملامحه الصغيرة، وعيناه الحمراوان اللامعتان، لم يتغير شيء… لا يزال مصّاص دماءٍ كما كان.
التعليقات لهذا الفصل " 7"