كانت بداية الرحلة إلى العاصمة هادئة، استسلمت ماريان للنوم داخل العربة، والاهتزاز الخفيف يكاد يغريها بالراحة… حتى—
تحطّم
ارتطم جسد العربة فجأة، اندفع رأس ماريان نحو الجدار بقوة، ودوّى طنين حاد في أذنها بينما سال الدم دافئًا من صدغها. شهقت محاولة استيعاب ما جرى، ثم مدّت نظرها المرتجف من النافذة، فإذا بها ترى فيليكس وفرسانه وسط معركة ضد رجال ملثمين.
قبض الذعر على قلبها حين رأت أحدهم يقترب من العربة، عيناه تلمعان تحت قناعه. اندفع نحوها ورفع سيفه، تراجعت غريزيًا، فتفادت الضربة في آخر لحظة، ثم استلت بخفة خنجرًا صغيرًا كان فيليكس قد أعطاه لها يومًا.
اندفع الخنجر إلى بطن الرجل، شهق متألمًا، ويداه تمسكان بجُرحه بينما دفعته ماريان بعيدًا بكل قوتها. لم يكن قلبها قادرًا على قتله، لكن القتال… نعم، يمكنها أن تقاتل.
انتهت المعركة سريعًا، والرجال الملثّمون يتراجعون القهقرى وسط صيحاتهم وشتائمهم الموجّهة إلى فيليكس وجنوده. لم يلتفت فيليكس إليهم، بل استدار مباشرة نحو العربة. وما إن وقعت عيناه على الدم المتساقط من صدغ ماريان، حتى سار إليها. جثا على ركبته بجوارها، وصوته يخفت.
“أأنتِ بخير؟”
لكنها لم تجب. عيناها كانتا معلّقتين بالسيف المطروح على الأرض قربها… سيف الرجل الذي أصابته. ارتجفت أنفاسها حين رأت الرمز المنقوش على مقبضه… رمز لم يكن لأحد سواها. أختها، كاثرين ليتان.
انعقد حاجبا فيليكس حين لمح اضطرابها، فاتبع نظراتها إلى السيف، ثم عاد يحدّق بها بقلق.
“أمِن خطبٍ ما، ماريان؟”
ترددت، كلمات كثيرة تتزاحم على شفتيها، تطرق عقلها كالمطارق، هل تقول له؟ أم تبقي الأمر سرًا؟ قلبها يخفق بعنف، و الاختيارات تتصارع في عقلها، وأخيرًا، رفعت عينيها نحوه، محاولة أن تبدو ثابتة.
“لا شيء… كنت خائفةً بعض الشيء وحسب…”
ازداد العبوس على ملامح فيليكس، لكنه لم يعلّق على صمتها. اكتفى بأن التفت نحو جنوده وأمر بصوت حازم.
“أين الطبيب؟ جرحها يحتاج إلى العلاج فورًا.”
ثم عاد ينظر إليها، وخفَت صوته قليلًا وهو يهمس بلطفٍ لم يخلُ من لمحة فخر.
“عملٌ جيّد بالخنجر، ماريان.”
تسارعت دقات قلبها للحظة، وحرارة غريبة تسللت إلى وجنتيها، لكنها لم تقل شيئًا. جلست في صمت حتى أتمّ الطبيب تضميد جرحها بعناية.
بعدها عادوا إلى طريقهم، يسيرون بهدوء. لم تقع أيّ هجمات أخرى مباغتةٍ أخرى، إستمرت الرحلة هادئة بلا عوائق.
حين وصلا إلى القصر الإمبراطوري، تقدّم أحد الخدم بسرعة ليستقبلهما، وعلى وجهه ابتسامة بشوشة.
“سيدي الدوق! لقد مرّ وقت طويل منذ حضرت آخر مرة، إنّ ولي العهد والأميرة إيلاني يتحرّقان شوقًا لرؤيتك.”
ارتسمت على شفتي فيليكس ابتسامة خفيفة عند سماع اسم ليوناردو وإيلاني؛ مضت فترة طويلة منذ لقائه بهما. قال بهدوء.
“هل حضر آرثر ويوجين بعد؟”
أجاب الخادم باحترام.
“ليس بعد، سيدي. السيد آرثر لم يصل، أمّا السير يوجين فما زال في ساحة التدريب مع الفرسان. لكننا أعلمناه بوصولكم، وأظنّه سيأتي قريبًا…”
وفيما هو يتحدث، وقعت عيناه على ماريان. ارتبك قليلًا ثم رفع نظره إلى فيليكس مستفهمًا. ابتسم فيليكس وقال.
“آه… هذه الآنسة ماريان ليتان، أخت يوجين الصغرى.”
ازدادت الحيرة على ملامح الخادم، لكنه لم يعلّق، بل اكتفى بالانحناء وأشار لهما ليتبعاه إلى الداخل.
كانت أروقة القصر الإمبراطوري فسيحة بارعة الجمال؛ تدلّت الثريّات من أسقف محفورةٍ بدقّة، وزُيّنت الجدران بألوان البنفسج والذهب، ألوان العائلة الإمبراطورية منذ قرون. تناثرت التماثيل والتحف في كل بقعة؛ منحوتات صخرية ورسومات بديعة تصوّر أفراد العائلة الحاكمة.
توقّف فيليكس أمام لوحة كبيرة وابتسم بفخرٍ خافت، ثم همس لماريان
“أنا رسمت هذه.”
اتّسعت عيناها بدهشة.
“حقًا؟!”
ضحك فيليكس وأومأ، فأعادت النظر إلى اللوحة، مأخوذةً بروعتها. أدركت أن كل تفصيلة صغيرة فيها تطلّبت شهورًا من الجهد، لكنها ككل لوحاته الأخرى في قصره… آية في الجمال.
تابع الخادم السير بهما حتى وصلوا إلى غرفة صغيرة ذات باب بمقبض ذهبي. طرقه برفق قبل أن يعلن.
“مولاي، آنستي… لقد حضر الدوق أوتبرن والآنسة ليتان.”
ما إن دخل فيليكس حتى انتفض وليّ العهد والأميرة واقفين بسرعة. هرعت الأميرة إيلاني نحوه واحتضنته بحرارة، حتى إن ماريان لم تجد فرصة لتأملها أو تقديم نفسها. أمّا ولي العهد فوقف على مقربة، يكتفي بالنظر. كان رجلاً وسيماً، قوامه مماثل لفيليكس وإن بدا أقصر قليلًا، يلمع شعره البنفسجي تحت ضوء الشمس بينما تبرق عيناه الذهبيتان بوهج معدني. قال بنبرة هادئة.
“فيليكس… مرحبًا بك مجددًا.”
في حين همست إيلاني، وهي لا تزال متشبّثة به.
“لقد اشتقنا إليك كثيرًا.”
شعرت ماريان بانقباضٍ في قلبها وهي ترى فيليكس يبادلها العناق. كانت تدرك أن معرفتها به لم تتجاوز أسابيع قليلة، ومع ذلك غمرها شعور مؤلم حاولت جاهدةً إخفاءه.
أجاب فيليكس بلطف.
“وأنا اشتقت إليكما أيضًا.”
وحين ابتعدت إيلاني أخيرًا، استطاعت ماريان أن تتأملها جيدًا. كانت الأميرة أشبه بنسخة نسائية من شقيقها الأكبر؛ الملامح نفسها، النبل نفسه… وجمالٌ لا يخفى.
التفت فيليكس نحو ماريان ثم قال بابتسامة.
“اسمحا لي أن أعرّفكما… هذه الآنسة ماريان ليتان، أخت يوجين الصغرى، التي لا يكف عن الحديث عنها.”
ابتسم كلٌّ من ليوناردو وإيلاني لماريان، ثم قال ليوناردو بنبرة ودودة.
“مرحبًا، آنسة ليتان. يشرفني لقاؤك… إن أخاكِ، حسناً، بماذا يمكنني أن أصفه…”
قاطعته إيلاني ضاحكة وهي تكمل عبارته.
“كلّما كنّا معًا لا يكفّ يوجين عن الحديث عن (أختي اللطيفة) أو (أجمل ما خُلق على الأرض)… إنه أمر لطيف حقًا.”
تدفّق دفء غريب في صدر ماريان. كانت تعلم أن شقيقها الأكبر يعتني بها، لكن سماع الأمر من ألسنة أصدقائه جعلها أكثر سعادةً و إدراكًا. وقبل أن تجد ما تقوله، انفرج الباب مفتوحًا بقوة، فالتفت الجميع ليجدوا يوجين واقفًا هناك، يلهث وقد تبلّلت جبهته بعرق التدريب، بينما التصقت خصلات شعره الذهبي ببشرته.
وقعت عيناه الزرقاوان مباشرة على ماريان، لتشرق ابتسامة واسعة على محيّاه قبل أن يهرع نحوها ويحتضنها بقوة. قال بصوت مرتجف مفعم بالحنان.
“ماريان… ملاكي الصغير! كيف حالك؟ لقد اشتقت إليك كثيرًا! كدت أجنّ حين وصلني من والدي خبر هروبك. لكن فيليكس طمأنني بأنكِ كنتِ برفقته. قولي لي… هل حقًا فعلوا بكِ ذلك حين لم أكن بجوارك؟! لماذا لم تخبريني؟ أنا آسف، كان عليّ أن أنتبه أكثر… يا إلهي!”
تلألأت الدموع في عيني ماريان وهي تشدّد على عناقه، ثم همست تخفف عنه.
“أنا بخير… لا داعي للقلق. لا تعتذر… لم تكن غلطتك.”
ساد صمت قصير؛ كانت نظرات فيليكس مثقلة بالحزن، بينما تبادل ليوناردو وإيلاني النظرات في حيرة، عاجزين عن فهم ما يحدث.
ابتعد يوجين قليلًا وهو لا يزال ممسكًا بكتفيها، يتأمّل ملامحها كما لو كان يخشى أن تغيب عنه ثانية. كانت ماريان سعادته الوحيدة في عائلته وعالمه، رغم كل ما حازه من أصدقاء ومكانة، ظلّت هي أعزّ عليه من حياته ذاتها. رفع بصره نحو فيليكس، وفي عينيه امتنان صادق لا يخفى.
“شكرًا لك، فيليكس…”
ثم أعاد النظر إلى أخته، كأنما يريد أن يتيقّن مرارًا أنها بخير فعلًا.
كسر ليوناردو الصمت بنبرة جادّة.
“حسنًا… ربما يجدر بنا أن نجلس جميعًا، ثم يمكنكم أن تشرحوا ما الذي يحدث بالضبط.”
جلسوا خمستهم، وخيّم صمت ثقيل على الغرفة. دقائق مضت قبل أن تبادر إيلاني، محاولة كسر التوتر، وهي تنظر مباشرة إلى ماريان.
“أمم… هل يمكنكِ أن توضحي لنا ما جرى؟”
ارتبكت ماريان للحظة، شعرت بقلبها يطرق صدرها بعنف، تردّدت قليلًا ثم بدأت تحكي، بصوت متقطع في البداية، ثم أكثر وضوحًا. روت لهم كيف هربت من منزلها، وكيف وجدت نفسها في قصر فيليكس، وما حدث مذ وصلت.
مع كل كلمة تنطقها، كانت ملامح ليوناردو وإيلاني تتبدل. ارتسم على وجهيهما عبوس عميق، خليط من الصدمة والتقزّز.
همس ليوناردو، صوته منخفض وكأنه يخشى أن يثقل الجو أكثر مما هو عليه.
“وما الذي تخطّطون لفعله الآن؟”
تبادل فيليكس ويوجين نظرات سريعة قبل أن يتجها إلى ماريان. ثم قال فيليكس بثبات.
“لقد اتفقنا أن تأخذ ماريان لقب البارون تاين من يوجين، وأن تبقى تحت حمايتي.”
أومأت ماريان برأسها في هدوء. كان البارون تاين عمها، وقد مات بلا ورثة، ولم يخلّف وراءه سوى لقبه وبعض الأملاك المتواضعة.
علّقت إيلاني بعد لحظة صمت، بصوتٍ متروٍ.
“تبدو فكرة جيدة… لن يكون لها أي اتصال بعائلة ليتان. لكن، هذا يستدعي موافقة والدي، صحيح؟”
تنفّست ماريان ببطء، ثم أجابت وهي تحاول أن تبدو واثقة.
“نعم. لقد دُبِّر موعد مع الإمبراطور بالفعل… أظن أنّه سيكون اليوم—”
طرقات قوية على الباب
“أيمكنني الدخول؟”
ردّ ليوناردو فورًا.
“تفضّل.”
دخل أحد فرسان الإمبراطور، يقف شامخًا و هادئًا، ثم أدار نظره نحو ماريان.
“آنسة ليتان، سير يوجين، ودوق أوتبرن… يريد الإمبراطور رؤيتكم الآن.”
شعرت ماريان بتوتر يزحف في جسدها كبرودة ماءٍ مثلج يغمرها. قلبها خفق بعنف، وعرفت أن الأمر لن يكون سهلًا. لكنّها تماسكت، رفعت رأسها، وتبعت الحارس بخطوات مترددة، وإلى جانبها يوجين وفيليكس.
وصلوا أخيرًا إلى أبواب غرفة العرش؛ أبواب عملاقة منقوشة بالذهب والأحجار الكريمة، كأنها جدار يفصل بين ماريان ومصيرها. تقدّم الحارس وطرق بعزم، ثم أعلن بصوت جهوري يتردّد صداه في الممر.
“مولاي، الآنسة ليتان!”
تحرّكت الأبواب ببطء، كاشفةً عن قاعة لم تر ماريان في حياتها ما يضاهي فخامتها. سقف شاهق مرصّع برسوم مذهّبة، أرضية تلمع كالمرايا، وأعمدة رخامية تصطف كجنود يحرسون العرش. وفي الأعلى، جلس الإمبراطور. رجل مهيب يشبه ليوناردو إلى حدّ بعيد، لكن ملامحه أشدّ وقارًا، وصوته يحمل سلطة لا شك بها.
أمر بهدوء.
“ارفعوا رؤوسكم… ما الذي جئتم لطلبه؟”
رفعت ماريان رأسها ببطء، لتقع عيناها على الرجل الواقف بجوار الإمبراطور. شعر فضي طويل ينسدل حتى خصره، وعينان زرقاوان باردتان تخلو من أي دفء… على النقيض تمامًا من عيني يوجين. للحظة شعرت وكأن الهواء يفرّ من رئتيها، وقلبها يهوي في أعماقها.
وكأن القدر أراد أن يزداد الأمر سوءًا.
ذلك لم يكن أي رجل… كان الأمير الأصغر، سيدريك أورڤين.
التعليقات لهذا الفصل " 5"