ساد الصمت بينهما لحظات قليلة، حدّقت ماريان في وجهه حائرة، لا تدري ما تقول.أظلمت عيناه، وقد بدا الألم جليًّا على ملامحه؛ كأن الكلمة وحدها كانت كفيلة بأن تستدعي ما ظنّ أنه انطفأ منذ زمن.
وأخيرًا، فتحت ماريان فمها، وصوتها بالكاد يسمع.
“آسفة…”
لكن ابتسامة هادئة ارتسمت على شفتي فيليكس، وقال بلطف.
“لا بأس… لا داعي للاعتذار.”
أمعنت ماريان النظر في ملامحه، لكنها –بعد طول تردّد– آثرت الصمت.
تتابعت الليالي حتى انقضى شهر كامل منذ عاشت ماريان في الدوقيّة، وقد شعر الجميع أن حياتهم انقلبت رأسًا على عقب.
القصر الهادئ صار يشع بالحيوية والمرح. ماريان لم تكن بطبعها كثيرة الكلام أو مفرطة النشاط، لكن حضورها ترك أثرًا في نفوس خدم فيليكس؛ بالنسبة لهم، وجودها الهادئ أضفى على أيّامهم معنى جديدًا، وما بدا يومًا مستنقعًا راكدًا، صار نهرًا جاريًا.
اعتاد الخدم على وجودها، كثرت الحلوى في القصر، وجدوا فيها أنيسًا، ووجد فيليكس نفسه قد اكتسب صديقة.
في أحد الأيام، كانت ماريان متكئة على أريكتها تقرأ كتابًا حين دخلت خادمة تحمل صينية من الحلوى، وقالت بابتسامة.
“آنستي، الطباخ أعدّ فطائر القرفة، أتودّين بعضًا؟”
رفعت ماريان عينيها من الكتاب وابتسمت برقة.
“بالطبع، شكرًا لك… هل تناول فيليكس طعامه اليوم؟”
أطلقت الخادمة تنهيدة طويلة وأجابت بصوت منخفض
“كلا… لم يلمس طعامه بعد.”
عبست ماريان. مجددًا كان فيليكس يتخطى وجباته، وفي كل مرة بعذر مختلف. نهضت من مكانها وسألت.
“أين هو الآن؟”
ترددت الخادمة للحظة ثم قالت.
“في مكتبه، أنهى تدريب الفرسان منذ قليل.”
ازداد عبوس ماريان؛ بالطبع… يتدرّب دون أن يضع لقمة في فمه.توجهت نحو مكتبه، وما إن فتحت الباب حتى رأته هناك، يبدو مرهقًا، وبيده قنينة دماء يشرب منها قطرات قبل أن يضعها بهدوء على مكتبه.
أمعنت النظر فيه. في كل مرة رأته كانت تلمح تلك النظرة، النظرة التي لم تستطع يومًا أن تفهم معناها. التقت عيناه بعينيها للحظة، لكنه سرعان ما أشاح بوجهه.
“ماريان… ما الذي أتى بكِ؟ هل تحتاجين شيئًا؟”
أشاحت رأسها نافية ثم ابتسمت ابتسامة عذبة.
“لا، فقط ظننت أننا نستطيع تناول الإفطار سويًا…”
لم تكن تفهمه تمامًا؛ كان منغلقًا، ثابت الملامح، وإذا وبّخته ازداد الأمر سوءًا، لذا اكتفت بأن تعرض عليه صحبتها. علّه ـ إن لم يأتِ من أجل نفسه ـ يأتِ من أجلها.
ظل صامتًا لبرهة، ثم قال أخيرًا.
“بالطبع يمكننا تناول الإفطار سويًا… بالمناسبة، هذا الفستان يليق بك.”
فوجئت ماريان بملاحظته؛ مجاملة جاءت خارج سياقها تمامًا، لكنها لم تستطع منع الضحكة التي أفلتت من شفتيها.
“شكرًا لك، فيليكس.”
ارتسمت على وجهه ابتسامة خفيفة، ولم يعلّق أكثر، فقط قادها إلى غرفة الطعام. تناولا الإفطار في صمت، لكنها رغم ذلك كانت سعيدة… معه.
وبينما كانا على المائدة، قطع فيليكس الصمت قائلًا.
“ماريان… لم أسألكِ من قبل، لكن… كيف حالكِ في القصر؟”
ارتسمت ابتسامة صغيرة على شفتيها وهي تجيب.
“كل شيء بخير… شكرًا لك.”
قبل أن يتمكّن فيليكس من قول شيء آخر، انفتح الباب فجأة، فدخل جوزيف على حين غرّة.اقترب منه وانحنى قليلًا، ثم همس في أذنه بكلمات لم تلتقط ماريان منها شيئًا.لكن ما إن انتهى، حتى ارتسم الغضب على ملامح فيليكس بوضوح.
ظهر القلق على وجه ماريان حين هبّ فيليكس واقفًا. بادرت تسأله.
“ما الأمر، فيليكس؟”
ألقى عليها نظرة خاطفة، ثم قال بنبرة حاول أن يجعلها مهدئة.
“لا شيء يا ماريان… فقط انتظري هـ—”
لكن الباب انفتح في تلك اللحظة، ودخل شخص ما. تجمّدت ملامح ماريان فور أن وقع بصرها عليه، فقد تعرفت عليه حالًا. شحب وجهها وكأن الدم انسحب منه، إنه أحد خدم عائلتها.
اشتد الغضب على ملامح فيليكس، وحدّق بالرجل قائلًا بحدة.
“ما الذي تريده؟”
ابتسم الرجل ابتسامة سمجة، تمنى فيليكس لو استطاع محوها من وجهه، وقال بلهجة مغرورة لا تُحتمل.
“أظن أني أوضحت الأمر لخادمك مسبقًا… جئتُ لأعيد الآنسة ماريان إلى عائلتها.”
تكورت قبضتا فيليكس، واندلع صوته كالنار.
“لقد مرّ شهرٌ كامل، ولم تفكّر عائلتها حتى في إرسال رسالة! فبأي حقٍّ يريدونها الآن؟”
أطلق الخادم ضحكةً مستهزئة، ثم قال بسخرية مقززة.
“وما شأنك أنت؟ إنها عاهرة، هربت من بيت أهلها، لا—”
لكن كلماته لم تكتمل؛ ففي لحظة خاطفة كان جسده قد ارتطم بالجدار بقوة، وسيف فيليكس يلامس رقبته الضعيفة. ارتجفت ابتسامة الخادم حين دوّى صوت فيليكس غاضبًا.
“أيها الوغد!”
ازداد فزع ماريان؛ لم يسبق لها أن رأت فيليكس غاضبًا بذلك الشكل. ارتجفت أطرافها، وذكّرها المشهد بتلك اللحظات المرعبة حين كان والدها ينهال عليها ضربًا في نوبات غضبه العمياء. لكن الكلمات ماتت على شفتيها، فلم يخرج منها سوى صمت مذعور.
بينما دوّى صوت فيليكس من جديد، حادًا كالنصل، يتسرّب من بين أسنانه.
“أعطني سببًا واحدًا… سببًا واحدًا فقط، لأغفر لك، أيها اللعين!”
ارتجف الخادم كأرنبٍ محاصر، بينما كانت عينا فيليكس الحمراوان تلمعان بوحشيةٍ مخيفة، كغضبٍ لا يعرف الرحمة.
التفت فيليكس إليه ببطء، والنار لا تزال تتأجج في عينيه، لكن حين انزلقت نظراته إلى ماريان تجمّد في مكانه. شدّ الألم صدره وكأن يدًا خفية تعصر قلبه؛ أهذا الذعر في عينيها… بسببه؟
ابتعد فيليكس عن الرسول ببطء، لكن قبضته بقيت مشدودة على مقبض السيف، والشرر لا يزال يتطاير من عينيه.قال بصوت منخفض لكنه يقطر وعيدًا.
“ارجع إلى أسيادك… وأخبرهم أنها تحت حمايتي. لا أحد، أسمعت؟ لا أحد يجرؤ على أخذها، ما لم تختَر هي ذلك بنفسها.”
جرى الرسول متعثّرًا، والذعر يملأ قلبه، يفرّ من حتف وشيك.
حدق فيليكس به شزرًا قبل أن يترك سيفه، ويدير نظره نحو ماريان. بدت له في تلك اللحظة كأرنب مرتجف من الخوف، وعيناها تتسعان بفزع، كما لو أن كل نبضة قلبها تصرخ في صمت. اقترب منها بخطوات حذرة، ثم توقف أمامها.
“ماريان…؟”
أفاقت ماريان من صدمتها، ونظرت إليه بينما دقات قلبها تتسارع. مدّ فيليكس يده بحذر، لكن ما إن كادت أنامله تلامسها حتى أغمضت ماريان عينيها وابتعدت عنه. اتسعت عينا فيليكس؛ لمَ كانت خائفة؟تكلم مجددًا، وصوته هذه المرة ينكسر.
“ماريان… أنا لن أفعل شيئًا، ما الخطب؟”
لكنها لم تقل شيئًا. بدأ الذعر واليأس يتسللان إلى قلبه؛ كانت نظراتها خائفة، كأنها ترى وحشًا… أترى؟ هل رأته وحشًا مثل الآخرين؟ ارتفع صوته، مختنقًا.
“ماريان، أنا آسف… لا تنظري إليّ هكذا… لم أقصد أن…”
ماتت الكلمات على شفتيه. ماذا عساها تُجدي؟ أن يقول إنه ليس وحشًا؟ إنه لم يكن ليؤذيها؟ لكنه لم يدرِ، فوالدته… وقبل أن يستسلم للوم ذاته، تكلّمت ماريان أخيرًا، بصوت مرتجف.
“فيليكس… أنا لست خائفةً منك… فقط…”
شعرت بحلقها يضيق، لكنها تابعت، وذنب يقطر من صوتها.
“الذكريات… والدي كان يعنّفني حين يغضب… أنا…”
عانت لتشرح ما يعتصر قلبها، لم تجد الكلمات، لكنها لم تكن بحاجة إلى المزيد؛ كلماتها وحدها كانت كفيلة بأن تُسكن العاصفة داخله. لم يكن هو السبب. ومع ذلك، اجتاحه شعور آخر… رغبة جارفة في حمايتها.
‘كيف يمكن لوالد أن يُسبّب كل هذا الألم لابنته؟’
فكّر فيليكس، الذي فقد والديه وهو في الخامسة. لم يستطع تخيّل قسوة كهذه. لكنه في الوقت نفسه شعر بالذنب؛ لأنه أيقظ ذلك الخوف في قلبها. مدّ يده إلى كتفها برفق، وقال بصوتٍ ثابت.
“أنا آسف… لن أفعل ذلك مجددًا، أعدكِ.”
ارتسمت ابتسامة صغيرة على شفتيها.
“شكرًا لك، فيليكس…”
ساد الصمت بينهما لحظات، حتى قطعت خادمة الجو بدخولها.
“سيدي الدوق، هناك دعوة من البلاط لحضور المأدبة الإمبراطورية. هل نخبرهم أنك لن تحضر؟”
كان من عادة فيليكس رفض الحفلات، وقد همّ أن يأمرها بتجاهلها، لكن فكرة طرأت بباله. قال بهدوء، وكأنما يصرّح بأبسط الأمور.
“لا. سنذهب أنا والآنسة ليتان.”
اتسعت عينا الخادمة في صدمة، لكنها اكتفت بالانحناء.
“كما تأمر، سيدي…”
خرجت، وبقي جوزيف واقفًا، يكاد صوته لا يتجاوز الهمس.
“سيدي… هل ستذهب حقًا؟”
أومأ فيليكس بهدوء. ازدادت الحيرة على وجه جوزيف، فسأله بارتباك.
“لكن… لماذا؟”
التفت فيليكس إلى ماريان بابتسامة هادئة، وقال.
“لنتخلّص من عائلة ماريان… بالطبع.”
ساد الصمت لوهلة، غير أن عيني ماريان كانتا تلمعان بامتنان صامت لذلك الرجل.
مع اقتراب موعد المأدبة، خرجت ماريان برفقة روكسانا لشراء فستان ومجوهرات مناسبة. صعدتا إلى العربة، لكن رغم الأجواء التي كان يفترض أن تكون مبهجة، بدت ملامح ماريان بعيدة كل البعد عن السعادة. التفتت إليها روكسانا بقلق وسألتها.
“آنستي، ما الخطب؟”
انتقلت عينا ماريان إليها للحظة، ثم ارتسمت ابتسامة باهتة على شفتيها.
“لا شيء يستحق القلق، روكسي.”
ترددت روكسانا في الكلام، كأنها تود الاعتراض، لكن نبرة ماريان جعلتها تصمت.
ظل الصمت يخيّم على العربة حتى وصلتا إلى المحل.
ما إن دخلتا حتى أخذت ماريان تحدّق في المكان؛ كل ما وقعت عليه عيناها كان يصرخ بالترف والبذخ.
أحست بانقباضٍ في صدرها، لم ترد أن تكون عبئًا على فيليكس. مدّت يدها نحو فستان بدا لها أكثر بساطة وأقل ثمنًا، لكن صوت روكسانا استوقفها.
“آنستي؟ تعالي وانظري…”
خطت ماريان نحوها، وما إن رأت ما تشير إليه حتى تجمّدت. كان فستانًا ذهبيًا، يتلألأ تحت أضواء المحل، يحمل في طياته شيئًا من السحر، شيئًا جعلها تذكر الأميرات في القصص. أسر قلبها للحظة، لكنه بدا لها… باهظًا أكثر مما تحتمل. أدارت وجهها بسرعة، متظاهرة بعدم الاهتمام، وفي تلك اللحظة بالذات… دخل فيليكس، يتبعه جوزيف.
حين التقت عينا فيليكس بماريان، تقدم نحوها بخطوات ثابتة وقال بنبرة هادئة.
“ظننت أنه كان من المفترض أن أرافقك… تأخرت قليلًا، آسف.”
لم يكن ذلك سوى ذريعة. في داخله كان يظن أن تركها وحدها سيكون أكثر راحة لها، لكنه لم يستطع مقاومة إلحاح الخدم والفرسان الذين أصروا على أن يصحبها بنفسه.
أشاحت ماريان بوجهها بعيدًا عنه، محاولة إخفاء ارتباكها.
“لا… لا بأس. لم يكن يجب عليك القدوم…”
مدت يدها لتلتقط فستانًا آخر، لكن يد فيليكس أمسكت بمعصمها برفق. توقفت في مكانها، ورفعت عينيها نحوه بتردد.
قال بنبرة منخفضة تكاد تكون همسًا.
“ظننتُ أنك أحببتِ ذلك الفستان…”
هزّت ماريان رأسها سريعًا. لم تكن تريد أن تأخذ منه شيئًا، لكن ذلك الفستان كان كثيرًا حقًا.
“لا. أعني ما أقول… سأبحث عن شيء آخر فحسب.”
ومع ذلك، لم يفلح إصرارها في تغيير ملامحه. قال فيليكس بهدوءٍ قاطع، وعيناه لا تفارقانها.
“يمكنكِ أخذه… إن كان هو ما تريدينه حقًا.”
عضّت ماريان شفتها، كبرياؤها يمنعها؛ لم تعتد أن تطلب مالًا من أحد، ناهيك عن شيء بهذا السعر. لكن فيليكس مال قليلًا نحوها، يهمس بصوت مطمئن.
“لا بأس… سأجعل يوجين يدفع ثمنه لاحقًا، حسنًا؟”
لم تستطع ماريان أن تمنع ابتسامة صغيرة من التسلل إلى شفتيها عند قوله.
“أتعدني؟”
ارتسمت ابتسامة على محياه هو الآخر.
“أعدك.”
تنهدت ماريان، ثم خرجت منها ضحكة خفيفة لم تستطع كبتها.
“حسنًا إذًا… لكن تذكّر، لقد وعدت.”
أومأ فيليكس بثقة، وابتسامة مطمئنة لا تفارق وجهه.
اختارت ماريان بعض المجوهرات أيضًا، و
حرص فيليكس ألا يشتري شيئًا أكثر مما طلبت، فقد لاحظ بالفعل مدى تحفظها ومضضها على قبول أي شيء يشتريه لها.
بعد يومين تحديدًا، توجّه كل من ماريان وفيليكس إلى العاصمة لحضور المأدبة الإمبراطورية، وكان كلاهما يعلم أن الرحلة قد بدأت لتوها.
التعليقات لهذا الفصل " 4"