انبعثت أشعة الشمس من بين ثنايا الستائر، فتحت ماريان جفنيها ببطء، رموشها البنية ألقت ظلًّا ناعمًا على عينيها المتعبتين بعد لحظات من التفكير فيما إذا كان يجب عليها مغادرة السرير أم العودة للنوم. استقامت ماريان جالسة وتمدّدت، لكن قبل أن تستطيع التحرك من السرير دخلت روكسانا بابتسامة مشرقة وقالت.
“صباح الخير، آنستي.”
كانت تحمل سلطانية (صينية) من الطعام في يدها ووضعتها على الطاولة بجوار ماريان. ردّت ماريان الابتسامة بأخرى متعبة.
“صباح الخير، روكسي.”
تمطّت ماريان ثم قالت، وصوتها مشوب بالنعاس.
“ما الوقت الآن؟”
قالت روكسانا.
“امممم، قد اقترب الغروب على ما أظن.”
تجمدت ماريان في مكانها، الغروب؟ كيف نامت حتى ذلك الوقت؟ حينئذ تذكرت أنها بالكاد نامت منذ عدة ليالٍ، لكن ذلك لم يمنعها من التنهد قبل أن تنظر إلى روكسانا.
وقعت عيناها على الطعام وقد غطّى الارتباك ملامحها. قالت روكسانا.
“أوه، لقد أخبرتني خادمات الدوق أن أعطيه لكِ. ظنّوا أنكِ لن تكوني مرتاحة بوجودهم في الجوار.”
ظهرت ابتسامة ناعمة على وجه ماريان، كان خدم فيليكس لطفاء حقًا… مثل سيدهم. ثم وجهت نظرتها إلى روكسانا وقالت بهدوء.
“إشْكريهن لأجلي.”
أومأت روكسانا ثم غادرت الغرفة مسرعة.
بينما تتناول ماريان إفطارها، كان رأسها يتسارع بالتفكير: كيف يمكنها أن تكسب ثقة فيليكس؟ كانت تعلم أن سبب بقائها هنا هو صداقة فيليكس مع أخيها الأكبر يوجين، لكن هذا لم يكن كافيًا، تحتاج ثقته بها هي، وليس بأخيها. لم تكن تلك الفكرة الوحيدة التي دارت في رأس ماريان؛ في الواقع، ربما كان هذا أقل ما يقلقها في ذلك الوقت. بين كيفية التخلص من قيود عائلتها وإنقاذ فيليكس وجدت مليون فكرة تصارع بعضها بعضًا تاركة ماريان مشوشة وقلقة، لكن حبل أفكارها سرعان ما انقطع حين أدركت أنها أنهت فطورها بالفعل. تنهدت، ثم نظرت إلى سكين الطعام، وحينها تذكرت.
“الاتفاق!!”
هكذا صرخت لنفسها بينما نهضت لتحضر شيئًا من حقيبتها، ابتسمت حين رأت القوارير الزجاجية الصغيرة، أخذت ثلاثًا منهم ثم وضعتها على الطاولة. نظرت إلى السكين مجددًا ثم أمسكتها بوجل، ارتجفت يدها قليلاً لكنها هزت رأسها متذكرة ما يجب عليها فعله، ثم أخيرًا وبيد مترددة، جرحت راحة يدها.
انتشر الألم في يدها كأنه نار تحرق كل ما اقترب منها، لكنها صرت على أسنانها وشاهدت دمها يقطر في الزجاجات قطرة تلو الأخرى، كما لو أنه يعذبها لإهداره.*
أخيرًا، وكأنما العذاب قد قرر أن ينتهي، امتلأت القوارير الثلاث بدمائها، كان المنظر مخيفًا فأشاحت بناظريها عنه. لقد كانت هي من اختارت هذا، لكن من قال إن صاحب الاختيار لا يمكن أن يكون خائفًا؟ غسلت يدها وضمّدتها ثم نظرت إلى القوارير مرة أخرى، فقد كانت تلك الزجاجات الصغيرة نجاتها الوحيدة.
غيرت ماريان ملابسها، وبمجرد أن انتهت، طرق طارق الباب. فتحت ماريان الباب وقالت بريبة.
“ما… ما الأمر، سيد جوزيف؟”
قال جوزيف برسميته المعتادة.
“يرغب الدوق برؤيتك. يبدو أنه يريد متابعة محادثتكما الليلة الماضية.”
ابتسمت ماريان وأومأت بحماس.
“لحظة واحدة!”
أمسكت ماريان بالزجاجات الثلاث بسرعة ثم تبعت جوزيف، لقد مرت بنفس الممرات البارحة، لكن ذلك الانبهار الأول لم يزل، كأن في كل ركن شيئًا جديدًا كل مرة. عندما دخلا مكتب فيليكس مجددًا، ابتسمت ماريان لرؤيته، كانت رؤيته كفيلة بأن تنسيها ألمها وحزنها، كأنه شمس بعد أسبوع مطير. رفع فيليكس عينيه عن الأوراق ثم قال بهدوء.
غادر جوزيف الغرفة مغلقًا الباب في عقبه، بينما جلست ماريان على الأريكة، لكن قبل أن يقول فيليكس شيئًا، وضعت قوارير الدم أمامه، لم تكن تريده أن يغير رأيه. نظر فيليكس لها ورمش مرة، اثنتين، ثم ارتسم شبح ابتسامة على شفتيه.
“ما هذا، آنستي؟”
قالت ماريان بثقة.
“كان الاتفاق هو دمي مقابل البقاء هنا، أيها الدوق! ها هو جزئي من الاتفاق، الآن حان دورك!”
رغم نبرتها الواثقة، كان هناك قلق يغلي داخلها، كانت قلقة من ما سيفعله فيليكس، ربما فقط… يرسلها إلى أهلها، كان هذا أقل ما أرادته في تلك اللحظة. نظر فيليكس إليها بتعبير لا يمكن قراءته للحظة، ثم قال.
“آنسة ليتان… لم أكن لأطردكِ بكل الأحوال، لا داعي للقلق.”
“لا شيء يدعو للقلق، فقط أردت محادثتك. لقد كنتِ متعبة بالأمس ولم أستطع أن أسألك شيئًا.”
بمجرد أن أنهى فيليكس كلامه، دخلت الخادمات بالشاي وبعض الحلوى. أضاءت عينا ماريان، بالإضافة إلى حبها الشديد للحلوى، لم يسبق لها أن رأت حلوى بهذا الجمال والإتقان. وضعت الخادمات الأطباق على الطاولة ثم غادرن. قال فيليكس.
“تفضلي، آنسة ليتان.”
قالت ماريان.
“شكرًا لك، أيضًا… يمكنك مناداتي بماريان فحسب.”
نظر فيليكس إليها ورفع حاجبه.
“أمتأكدة؟”
أومأت ماريان برأسها وقالت بابتسامة.
“أجل. أخبرتك بأنني أريد التخلص من اسم عائلتي… لا داعي لأن تناديني بهذا.”
ساد صمت محرج بينهما لعدة دقائق قبل أن يسعل فيليكس بغرابة ويقول.
“آه- بالمناسبة، قلتِ بالأمسِ أن عائلتكِ تعاملكِ بسوء… أيمكنك أن تخبريني كيف تحديدًا…”
ثم تابع بسرعة عندما شعر أنه قد يكون تجاوز الحد بسؤاله.
“إ-إذا كنتِ مرتاحة بالطبع…”
نظرت ماريان وظنت أنه بدا لطيفًا، فقد كان وجهه الشاحب مخضبًا بالأحمر ويحرك أصابعه بتوتر. بالكاد استطاعت ماريان إيقاف ابتسامتها، ثم قالت.
“لا بأس…”
نظرت إلى يدها قليلاً قبل أن تتابع بصوت هادئ.
“أنا… لست شقيقة أخوتي. عندما ولدت، ماتت والدتي، لكن أحدًا لم يهتم بهذا، كل ما اهتموا به كان أنا. توقعوا أن أولد بقوة سحرية لا مثيل لها، لكن ما حصل كان عكس ذلك تمامًا، فقد ولدت بدون أي قوى على الإطلاق…”
توقفت للحظات، بدأت ذكريات غريبة تعود إليها، لم ترَ تلك الذكريات قبلاً وبدأت الكلمات تتدفق من فمها وكأن لا سلطة لها عليها.
“ترعرعت في برج بعيد عن قصر العائلة، لم يأتِ أحدٌ لرؤيتي أو يهتم بي حتى عدا أخي الأكبر. كان هنا الرابط الوحيد بيني وبين عائلتي، ورغم ذلك لطالما حاول والدي إبعاده عني… ذهب كلا أخوتي إلى الأكاديمية، بينما لم أحصل على معلمين في المنزل، حتى اضطررت إلى أن أتعلم بنفسي، بالكاد أرسلوا أي طعام إليَّ. عندما كبر يوجين قليلًا، أجبرهم أن يحضروني إلى القصر. أعطاني يوجين كل ما رغبت به، وعندما بدا وكأن كل شيء بخير، انهارت الأرض من تحت قدميَّ من جديد.”
ظل فيليكس صامتًا، لم يقاطعها أو يقل شيئًا حتى عندما ساد الصمت، فقط انتظر حتى تتابع… بهدوء.
تنهدت ماريان ثم تابعت، وصوتها قد بدأ يهتز.
“رحل يوجين ليصبح من الفرسان الإمبراطوريين. ورحل السبب الوحيد الذي جعل كل شيء بخير. بدأت أختي الكبرى بأخذ كل ما أعطاه يوجين لي ولم يبقَ لي شيء على الإطلاق، تجاهلتني الخادمات ولم أحصل على أعياد ميلاد أو يعرف عني أحد حتى… صمت، هذا كل ما وجد حولي… لكن أسوأ ما في الأمر أن والدي-“
شعرت ماريان بسائل دافئ ينحدر على وجنتيها. ارتسمت الدهشة على محياها، لم تدرك أنّها تبكي… لم تكن قد شعرت بشيء.
“ماريان؟”
كان صوت فيليكس مشوبًا بالقلق، وعيناه تفتشان ملامحها. وحين بقي صمتها معلّقًا بينهما، تقدّم بخطًى هادئة حتى بلغها. توقف لحظة يحدق في عينيها المرتجفتين، ثم جثا على ركبته، امتدت يداه، تحيطان بيديها برفق. بعدئذٍ، رفع بصره إليها، ولم تراوده فكرة السؤال عمَّا بها، بل اكتفى بأن يهمس، كأن صوته خلق ليطمئنها وحدها.
“ماريان… أتتبعينني؟”
أومأت ماريان وهي تمسح دموعها على عجل. جذبها فيليكس إليه، يده تغلّف يدها كدرعٍ صغير يحميها. عبرا الحديقة معًا، لكن عينيها لم تريا شيئًا من حولها؛ كانت نظرتها معلّقة به، لا تعرف كيف تُزيحها.
تابعا السير حتى بلغا أطراف القصر، حيث بدا باب خشبي صغير يختبئ خلف أغصان متشابكة. لم تستطع ماريان أن تمنع ابتسامة تسللت إلى وجهها وهي تتذكر “الحديقة السرية”**.
دفع فيليكس الباب، فانفتح على مشهد خطف أنفاسها: حديقة صغيرة، لكنها تفوقت في جمالها على حدائق القصر جميعها. أزهار زرقاء متناثرة لم تعرف ماريان اسمها، غير أنها كادت تقسم أنها تشعّ تحت ضوء القمر. شجرة عتيقة وقفت شامخة هناك، توحي بأن عمرها يمتد أبعد من القصر نفسه، وعلى أحد فروعها عُلّقت أرجوحة خشبية.
جالت ماريان بناظريها في المكان، وأنفاسها تتسارع كأن الجمال يسرقها منها لحظةً بعد لحظة.
جال فيليكس بنظره أرجاء الحديقة، ثم عاد ليستقر عليها. لم تفته البهجة التي ارتسمت في ملامحها، فابتسم ابتسامة خفيفة وقال بصوت خافت.
“أأعجبتكِ؟”
تنفست ماريان ببطء، وكأن الكلمات تخذلها أمام ما تراه، ثم همست.
“إنها… لا أجد في نفسي وصفًا يليق بجمالها.”
ضحك فيليكس، وصوته ينساب في صمت الليل كأنغام رقيقة.
“يمكنك تجربة الأرجوحة… إذا أحببتِ ذلك، بالطبع.”
اتسعت ابتسامة ماريان.
“حقًا؟! أجل! أريد أن أجربها!”
جلست على الأرجوحة، وأعطاها فيليكس دفعة خفيفة. رفعت بصرها إلى السماء، تنعكس النجوم في عينيها، والنسيم يلعب بخصلات شعرها. تحركت الأرجوحة ذهابًا وإيابًا، وفيليكس تابعها بنظره للحظة، لكنه أسقط نظره برفق حين التقت نظراتهما، ثم همس كمن يشاركها سرًّا.
“صنعت أمي هذه الحديقة… وكل ما فيها، قبل أن ترحل.”
* ضد إيذاء النفس بأي شكل من الأشكال.
** الحديقة السرية رواية كتبها فرانسيس هودجسون بورنيت و نشرت أول مرة عام 1911. تحكي الرواية عن قصة فتاة صغيرة تدعى ماري لين، فقدت والديها و ذهبت للعيش مع عمها لتكتشف
حديقة مهجورة و مقفلة تبدأ في إحيائها و معها تنمو صداقات جديدة و تتعلم معنى الحب و الاهتمام و التغيير الداخلي. قرأت الرواية قبلًا و كانت لطيفه، أرشح قراءتها.
التعليقات لهذا الفصل " 3"