تابعت ماريان التحديق في فيليكس للحظات، قلبها ينبض بسرعة، قبل أن تفتح فمها أخيرًا لتقول بصوت منخفض.
“أنا… أنا ماريان ليتان، سيدي.”
شعرت ببعض التوتر، لكنها تابعت محاولة تهدئة نفسها.
“س-سررت بلقائك…”
مد فيليكس يده إليها برفق وساعدها على النهوض. بينما كان يساعدها، لاحظ كم كانت ملابسها رقيقة، لا تكاد تقيها من البرد. تنهد فيليكس بصمت وقال
“سررت بلقائك أيضًا، آنسة ليتان… أظن أنه من الأفضل أن نكمل حديثنا في مكان أكثر دفئًا.”
كان يتأمل عينيها بعينيه اللامعتين طوال الوقت، وبدأت ماريان تدرك أنها كانت ترتجف من البرد. هزت رأسها برفق ردًا لما قاله.
صفر فيليكس، وظهر حصان أبيض رائع الجمال، تمامًا كما هو. نظر إلى الفتاتين، ولم يكن الحصان ليتسع لهم جميعا، لم يتردد حتى للحظة قبل ان يقول
“يمكنكما الركوب، سأسير بجواركما فالدوقية ليست بعيدة.”
رفعت روكسانا يديها وقالت، مترددة
“ل-لا بأس سيدي، يمكنني المشي!”
نظر إليها فيليكس بتعبير هادئ ثم رفع حاجبه وقال بنبرة حاسمة
“آنستي، لا يمكنني أن أركب الحصان بينما تمشي آنسة. يمكنكِ الركوب.”
في تلك اللحظة، كان عقل ماريان يغرق في أفكارها الخاصة ‘يا إلهي، إنه رائع للغاية! هل انقرض الرجال مثل هذا بالفعل؟ كيف رفضته إيلاني؟ كيف؟’
ساعد فيليكس كلا من ماريان وروكسانا على الصعود إلى ظهر الحصان، ثم قال بلطف، رغم هدوئه الواضح
“آسف لأني لا أملك ما يبعث الدفء فيكما حالياً، لكن مدخل الدوقية قريب… لن يستغرق الأمر أكثر من عشر دقائق.”
ابتسمت ماريان بابتسامة صغيرة وقالت برقة
“لا بأس، يمكننا التحمل، شكراً لك.”
هز فيليكس رأسه أن لا قائلاً بنبرة هادئة
“لا داعي لشكري، آنستي.”
ساروا في صمت، وكأن كل شيء حولهم يغرق في هدوء عميق، حتى كسرت ماريان هذا الصمت وقالت بصوت منخفض، مشيرة إلى الحصان
“أممم، ما اسمه؟”
رفع فيليكس نظره إلى السماء للحظة، ثم التقت عيناه بعينيها مجدداً وقال بصوت هادئ
“كايدن…”
قالت ماريان بابتسامة خفيفة
“اسم لطيف… من سماه؟”
قال فيليكس بهدوء، لكن كانت لمحة من الحزن تنساب في صوته
“والدتي.”
شعرت ماريان بندم فور سؤالها،كانت تعرف أن ذكرى وفاة والدته ليست من الذكريات التي يحب فيليكس تذكرها. قالت ماريان بتردد:
“أوه… أ-أرى…”
من تلك اللحظة، خيم الصمت مجددًا على الطريق، وكأن الكلمات قد انتهت، حتى وصلوا إلى مدخل الدوقية. كانت الدوقية بمثابة قصر مهيب، يمكن رؤيته من بعيد، بناه طراز فخم وراقي يخطف الأنفاس، لدرجة أن من ينظر إليه لا يستطيع أن يرفع عينيه عنه.
ما أن انفتحت البوابة حتى هرع الخدم والفرسان لاستقبال فيليكس، وساعد الفرسان ماريان وروكسانا على الترجل من الحصان. أخيرًا، اصطحب فيليكس ماريان إلى مكتبه بعد أن قدمت لها الخادمات شالاً لتتدفأ به.
كان مكتب فيليكس مكانًا مريحًا وهادئًا، جدرانه كانت من لؤلؤ ناعم، والمصابيح البيضاء التي تزين الغرفة كانت مطعمة بالذهب، مما أضفى على المكان لمسة من الفخامة. كان المكتب الخشبي الكبير واضحًا أنه مصنوع من خشب غالٍ وثمين، و مدفأة عاجية جعلت الدفء ينتشر بين جدران المكتب، بينما كان الكرسي والأريكة، كلاهما بألوان حمراء عميقة وحدود ذهبية، يتناغمان مع الجو العام للمكان، ليبدو المكان وكأنه جزء من عالم آخر.
قدمت الخادمات كوبًا من الشاي لكل من ماريان وفيليكس، فأمسكت ماريان الكوب بإحكام، وكأنها تستمد الدفء منه، جلست في صمت لبرهة، حتى بدأ فيليكس الحديث.
“آنسة ليتان، ما الذي أتى بكِ إلى هنا إذن؟”
نظرت ماريان إليه، وابتسمت قليلًا، ثم أجابت بصوت هادئ:
“حسنًا… أنا بحاجة إلى مساعدتك، سيدي الدوق.”
أخذ فيليكس رشفة من الشاي بهدوء، ثم قال بنفس النبرة الهادئة:
“أي نوع من المساعدة تحديدًا، آنستي؟”
ترددت ماريان للحظة، ثم قالت بصوت منخفض:
“لقد… هربت من المنزل. لا أملك أي سحر على الإطلاق، مما جعلني أُتجاهل من قبل عائلتي. حتى إنهم نادرًا ما يتحدثون عني، ولست معروفة لمعظم المجتمع. يمكنك أن تقول إنه يتم إساءة معاملتي هناك… لا يوجد سوى أخي الأكبر يوجين، وهو غالبًا ما يكون مع الفرسان الإمبراطوريين بعيدًا عنا، وبصدق… لم أستطع التفكير في شخص يساعدني أكثر منك…”
استمع فيليكس لها بهدوء، وأومأ برأسه. كان يعرف ذلك، فهو ويوجين كانا أصدقاء، لكن من الواضح أن صديقه لم يكن يعلم أن أخته كانت تُعامل بهذه الطريقة في المنزل. كاد فيليكس أن يتكلم، لكن ماريان قاطعته بسرعة.
“أ-أريد أن أبقى هنا وأتخلى عن لقب عائلتي، و… بالمقابل… سأعطيك دمائي! أعلم أنك تحتاج إلى دماء بشرية لتقلل حالات الهياج… سأعطيك هذا إذا جعلتني أعيش هنا!”
اتسعت عينا فيليكس، لم يتوقع مثل هذا العرض من تلك الآنسة الصغيرة التي كانت تجلس أمامه. هربت ضحكة ناعمة من بين شفتيه وقال:
“أحقًا، آنسة ليتان؟”
أومأت ماريان برأسها بقوة وقالت بحسم:
“أجل، سيدي الدوق. دمائي مقابل أن أبقى هنا!”
ابتسم فيليكس وقال برفق:
“حسنًا، إذا كان هذا ما تتمنينه، آنسة ليتان…”
ابتسمت ماريان ابتسامة واسعة وقالت بحماس:
“شكرًا لك، سيدي الدوق!”
ابتسم فيليكس وقال بنبرة هادئة
“اهدئي، آنسة ليتان… لا داعي لشكري. كنت لأُقدم لكِ المساعدة على أي حال.”
صار تعبير ماريان أكثر نعومة، كانت تعلم أن فيليكس، رغم مظهره البارد وصمته الدائم، كان شخصًا لطيفًا للغاية لا يتوانى عن مد يد العون لمن احتاجها. كانت هذه إحدى الخصال التي لطالما أحبتها ماريان فيه.
ابتسمت بخجل وقالت
“أعلم… لكني لا أريد أن أشعر أنني عالة عليك.”
عاد تعبير فيليكس الهادئ إلى ملامحه، وقال بنغمة لطيفة، محاولًا تهدئتها
“لستِ عالة، آنستي. يسعدني أن أقدم لكِ المساعدة في أي وقت.”
ثم أشار إلى مساعده، الذي كان يقف إلى جواره في صمت متحفظ
“جوزيف، خذ الآنسة إلى غرفة الضيوف، يبدو أنها تحتاج إلى بعض الراحة.”
ثم أعاد النظر إليها، ولا تزال ماريان تشعر أن عينيه آسرتان، وقال بهدوء
“سنناقش تفاصيل بقائك هنا غدًا، آنستي. أما الآن، فربما يجب عليكِ أن تأخذي قسطًا من الراحة.”
أومأت ماريان برأسها برقة وقالت: “حسنًا، شكرًا لك، سيدي الدوق.”
ثم تبعت جوزيف في هدوء، لاحظت لأول مرة، لكيف يبدو القصر حقًا من الداخل. كان كل ممر يشع ضوءًا دافئًا من الشمعدانات الجدارية التي تم نصبها بعناية، كأنها تنسج هالة من الطمأنينة في كل زاوية.
كان المكان يعكس احساسا بالراحه و الطمأنينة، مع الألوان الهادئة التي انتشرت في كل ركن. درجات العاجي الفاتح والبيج تداخلت مع لمسات من اللؤلؤي، تتخللها نقوش ذهبية باهتة بدقة متناهية، و كأنها تروي قصصا عن ماضية عن القصر و ساكنيه.
غطت الأرضيات سجاجيد سميكة بلون الأحمر القاتم، بينما انتشر الأثاث الخشبي المصقول والطاولات الرخامية بعناية حول المكان، كل قطعة تحمل لمسة من الترف و الرقي.
وعلى الجدران، تدلت لوحات زيتية تجذب الأنظار بعضها لأفراد من العائلة و بعضها الآخر يصور مناظر طبيعية هادئة، و من المبهر أن الأخيرة كانت مرسومة بيد فيليكس نفسه!
لكن أكثر ما لفت انتباه ماريان كانت النوافذ الكبيرة ذات الإطارات الذهبية، التي استطاعت من خلالها رؤية سماء الليل المرصعة بالنجوم و حديقة القصر الغناء، مما بعث أحساسا عميقة من السكينة و الدفء في قلبها رغم ليل الشتاء البارد.*
نظرت ماريان إلى جوزيف وقالت بابتسامة مهذبة
“القصر جميل حقًا…”
أجابها جوزيف بنبرة رسمية خفيفة، حافظ فيها على وقاره
“لقد طرأ عليه الكثير من التغييرات منذ أن تولّى السيد فيليكس الدوقية. فعلى خلاف أفراد أسرته السابقين، لم يجد الراحة في الجدران الداكنة أو التحف الثقيلة و رأى أنها تخلو من الحياة، فآثر أن يعيد تشكيله ليعكس طابعًا أكثر ترحيبًا وراحةً لسكانه. وقد كان ذلك أيضًا نزولًا عند أمنية والدته الراحلة.”
لاحظت ماريان النبرة الرسمية التي تحدث بها جوزيف و لم تعقب عليها، فقد اكتفت بالقول
“أرى…”
ثم تابعت سيرها في صمت إذ لم تجد ما تضيفه
بعد هُنيْهة** من السير، قادها جوزيف إلى غرفة الضيوف. كانت الغرفة رحبة لا تقل فخامةً عن سائر أرجاء القصر؛ تتلألأ جدرانها اللؤلؤية تحت وهج المصابيح الدافئ، وزينتها لوحات مختارة بعناية.
في وسطها، انتصب سرير واسع تغطيه ملاءات حمراء ناعمة مطرزة بخيوط ذهبية دقيقة، تتناثر حوله وسائد بنفس الألوان، مما أضفى على المكان لمسة من الأناقة الهادئة.
إلى جانب الغرفة، فتحت شرفة تطل على البحيرة الكائنة في الحديقة الخلفية، حيث انعكست أنوار النجوم على سطح الماء في مشهد يدعو للسكينة.*
توقف جوزيف عند الباب، وقال بنبرته الرسمية الثابتة
“أتمنى لكِ ليلة هادئة، آنسة ليتان.”
ابتسمت ماريان ابتسامة خفيفة، وأجابت بلطف
“شكرًا لك، سيد جوزيف.”
ثم انحنى جوزيف انحناءة مقتضبة، واستدار مغادرًا في صمت.
بعدما غادرها جوزيف، وجدت ماريان نفسها وحيدة في الغرفة الفسيحة.
بدلت ملابسها بهدوء، ثم جلست أمام طاولة التزيين، تسحب المشط في خصلات شعرها الطويلة، فيما كانت أفكارها تتقاطع في ذهنها.
تأملت الرحلة التي خاضتها حتى اللحظة، منذ فرارها من منزلها، وحتى وصولها أخيرًا إلى قصر فيليكس.
كانت تدرك أن ما اختبرته لا يكاد يساوي شيئًا مما ينتظرها في الأيام القادمة، وأن الطريق الحقيقي لم يبدأ بعد.
ومع ذلك، وبين صمت الغرفة وسكون الليل، شعرت بشيء من الترقب الحذر، فرحلة في عالم غريب يمكن أن تكون مثيرة بحق.***
(*) آسفة إن كنت أطيل في الوصف بعض الأحيان لكن أشعر أنه يعطي أحساسا أكبر بالاندماج في القصة.
(**) قد تبدو كلمة غريبة و لكنها تعني مدة قصيرة من الزمن.
(***) لا أؤمن بتناسخ الأرواح، إنها حرام تماما و لكني أستخدمتها فقط لأبدا القصة و غالبا لن أذكرها كثيرا
في القصة بما أن الأحداث ستتغير مع دخول ماريان و لن يكون هناك حاجة لذكرها الا في مواضع معينه.
التعليقات لهذا الفصل " 2"