بعد الجنازة بعدة أيام، خيّم جو كئيب على القصر وكأن الروح قد سُحبت منه.
طرق فيليكس على باب غرفة ماريان وانتظر قليلاً لكنها لم ترد. تنهد واضعاً جبهته على الباب.
“ماريان، أرجوكِ… تناولي شيئاً…”
لكن كل ما أجابه كان الصمت؛ تلألأت الدموع في عينيه.
“ماريان…”
وقفت روكسانا بجواره وجسدها يرتجف، ثم همست.
“لقد مرت ثلاثة أيام… لا يمكننا تركها هكذا…”
هز فيليكس رأسه.
“ماذا تريدين مني أن أفعل؟!”
خرج صوته أكثر عصبية مما قصد لكنه شعر بالذنب فوراً، مرر يده خلال شعره ثم قال.
“روكسانا، أنا… أنا آسف حقاً… أنا قلق حقاً وماريان ترفض الكلام حتى… لا أدري ما الذي يجب عليّ فعله…”
حاولت روكسانا فتح الباب لكنه كان لا يزال مغلقاً.
“آنستي! أرجوكِ!”
لكنها قوبلت بالصمت مرة أخرى. تنهد فيليكس.
“ربما هي نائمة…”
مسحت روكسانا دموعها.
“لكنها لا ترد أبداً… ماذا إن لم تكن بخير؟”
نظر فيليكس إلى باب الغرفة.
“كنت سأعرف…”
ـــــــــــــــــ
داخل الغرفة، كانت ماريان جالسة بجوار النافذة تحتضن أرنبها المحشو بشدة بينما تحدق في الخارج بعينين زجاجيتين. همست.
“أخي…”
كانت الحقيقة تغرق يوماً بعد يوم، ويزداد ألمها في كل لحظة. بدأت تبكي مجدداً دافنة وجهها في دميتها.
“كان من المفترض أن أنقذ فيليكس… لِمَ مات يوجين؟ لِمَ؟! هذا كله خطئي… كان من المفترض أن أبقى في المنزل فحسب!”
نظرت إلى الخارج حيث كان الربيع مزدهراً. كان صندوق الموسيقى الذي أهداه يوجين لها على الطاولة.
<كل حياتي دوماً لكِ.
أخوكِ الأكبر، يوجين.>
بدا الأمر كما لو أن العالم يسخر منها. أمسكت بالصندوق، أرادت أن تتخلص منه… أن تلعن القدر… أن تكره الربيع… لكنها لم تستطع فعل شيء من ذلك، فقط انهارت على الأرض بجوار الطاولة والكلمات تتكرر في رأسها كمزحة قاسية.
ـــــــــــــــــ
كان الجميع لا يزالون في قصر فيليكس عدا آيرين التي استدعاها الفرسان واضطرت للرحيل.
جلسوا جميعاً أمام الطعام بانتظار فيليكس وماريان، لكن فيليكس عاد وحده.
قالت إيلاني.
“مجدداً؟”
أومأ فيليكس والكآبة تطغى عليه. عاد الصمت يسودهم ولم يمس أحد طعامه. تحدث ليوناردو وقد تهدج صوته.
“يوجين… ليس هنا بعد الآن… لن يكون في القصر عندما أعود… لا يمكنني…”
انقطع صوته بالبكاء مجدداً؛ كلما استطاعوا استعادة رباطة جأشهم، تكلم أحدهم ليغرقوا في الحزن والدموع مجدداً، كما لو أن حياتهم توقفت في اللحظة التي لفظ فيها يوجين آخر أنفاسه.
ـــــــــــــــــ
ليلاً، وقبل أن يتوجه للنوم، مرّ فيليكس على غرفة ماريان وطرق الباب.
“تصبحين على خير، ماري…”
ثم التفت وتوجه نحو غرفته، مروراً بغرفة والده. توقف هناك للحظة وحدق في الباب لكنه أشاح بوجهه وتابع طريقه. استلقى على سريره رافعاً نظره للسقف.
“كان يجب عليّ حمايته…”
أمسك بتميمة يوجين التي أهدته ماريان إياها؛ كانت مكسورة الآن منذ سقطت بجوار جثته. ضغط عليها فيليكس قليلاً قبل أن يتنهد ويتركها.
“أنا آسف…”
ـــــــــــــــــ
بعد يومين آخرين، استيقظت ماريان من النوم. لم تعرف كيف نامت أو متى. نظرت إلى النافذة حيث بالكاد بدأ الظلام يتبدد. وقفت ومشت ببطء نحو النافذة قبل أن تغلق الستائر. جلست على الأرض منطوية على نفسها، وضعت ذراعيها ورأسها فوق ركبتيها وأمالت رأسها قليلاً؛ تساقطت خصلات شعرها حولها بينما حدقت في الحائط.
جلست هكذا لبضعة دقائق قبل أن تقرر أخيراً أن تترك الغرفة. أرادت شخصاً لتكلمه… أرادت فيليكس. نهضت ومشت بخطوات متثاقلة حتى وصلت إلى مكتبه وفتحت الباب دون طرق.
كان فيليكس يعمل على بعض الأوراق، لم يستطع النوم… فقرر أن يشغل عقله بالعمل. لكن بمجرد أن سمع صوت الباب ينفتح حتى نظر إلى الأعلى. حين رأى ماريان كادت ابتسامة أن ترتسم على وجهه لكن الصدمة حلت محلها… لم يرَ ماريان بتلك الحالة من قبل. كان تعبيرها فارغاً، خسرت الكثير من الوزن، وشحبت بشرتها، لكن أكثر ما أقلقه كان عيناها؛ العينان اللتان لمعتا كما لو أنهما تحملان النجوم نفسها كانتا الآن منطفئتين… سُلب كل نور منهما.
وقف من مكانه فوراً وأمسك بيدها.
“يا إلهي، ماريان…”
كان يبدو قلقاً للغاية، وتعبيره على حدود الهلع.
قادها نحو الكرسي برقة ثم قال.
“انتظري هنا، سأخبر الخدم بأن يحضروا لكِ شيئاً لتأكليه–”
لكنها أمسكت بيده.
“لا أريد أن آكل…”
قال فيليكس.
“لا يمكنكِ فعل ذلك! تبدين–”
لكن نظرتها أوقفته. جلس أمامها ببطء ولم يقل شيئاً. تكلمت ماريان وصوتها أجش من الإرهاق.
“لا يمكنني التوقف عن التفكير فيه، فيليكس…”
قال فيليكس واضعاً يده على خدها.
“لا يجب عليكِ نسيانه يا ماريان…”
هزت ماريان رأسها وبكت مجدداً.
“لا أريد –كلا– لا أستطيع العيش بدونه…”
قال فيليكس.
“كلا، لا تقولي ذلك… لم يكن يوجين ليرغب في هذا!”
نظرت ماريان إليه.
“لكنه ليس هنا بعد الآن…”
اشتدت قبضته على يدها.
“ماريان، أنتِ تعلمين أنه لم يكن ليرغب في ذلك…”
بكت ماريان.
“ألا تملك سحراً يعيدك بالزمن؟ أي شيء يعيده للحياة؟!”
فوجئ فيليكس من كلامها ثم قال.
“ماريان، لا يوجد شيء كهذا–”
صرخت وهي تبكي.
“كل تلك القدرات ولا تملك واحدة تعيد أخي؟!”
تنفس بعمق مهدئاً نفسه.
“ماريان، أنا مجرد إنسان… لست إلهاً لأعيده للحياة… أيمكنكِ أن تهدئي قليلاً؟”
وقفت ماريان بقوة.
“أهدأ؟! لقد مات أخي للتو وأنت تخبرني أن أهدأ؟!”
قال فيليكس.
“ماريان، يجب عليكِ أن تهدئي. جميعنا نشعر بالحزن ولكن–”
قاطعته ماريان متهكمة.
“بالطبع تشعر بالحزن، لهذا السبب أنت تجلس هنا متابعاً حياتك وكأن شيئاً لم يكن!”
فقد فيليكس السيطرة على نفسه وصرخ.
“أتظنين أن عملي الآن يعني أنني لا أهتم؟! أنا حزين لكن الحياة لا تتوقف لحزن أحد!”
صرخت ماريان.
“أنت لا تهتم! ربما لأن أخي ليس بأهمية والدتك!”
توقف فيليكس وأظلمت عيناه.
“أنتِ لم–”
لكنها قاطعته مجدداً وقد ارتفع صوتها، شعر فيليكس بكل شيء حوله يهتز.
“ربما ليس مهماً لكَ لأنه ليس عائلتك أنت!”
ثم ركضت خارج الغرفة. كان فيليكس واقفاً هناك، مصدوماً ومجروحاً… لم يصدق أن ماريان قالت ذلك له. سقط على كرسيه مجدداً ودفن وجهه بين يديه.
بعد لحظات، لاحظ فيليكس أن الجو صار أهدأ، نظر بجواره ليجد فروع شجر صغيرة قد نبتت على جدران الغرفة. انتفض واقفاً وقبل أن يغادر الغرفة، دخل جوزيف.
“سيدي، الآنسة ماريان تركت القصر! رآها الفرسان لكنهم كانوا بعيدين–”
لم ينتظر فيليكس حتى يسمع بقية ما لدى جوزيف، فقط ركض خارج الغرفة، ذاهباً للبحث عنها.
ـــــــــــــــــ
امتطى فيليكس صهوة جواده وانطلق بحثاً عن ماريان، ارتطم هواء الربيع ساخناً بوجهه بينما فاض الذعر في قلبه.
لقد وعد يوجين… وعد أن يحمي ماريان… والآن تسبب في رحيلها. ضاق حلقه بالذنب الذي تصاعد بداخله، سيجدها، بأي ثمن.
في القصر، كان آرثر وليوناردو قد انطلقا للبحث عنها أيضاً برفقة بعض الفرسان.
بعد ساعات عدة من البحث في كل بقعة قد تكون ماريان بها، وجدها أخير
كانت ماريان تجلس أمام البحيرة الزهور تتناثر حولها بكل شكل و لون و لكن المنظر كان لا يزال كئيبًا، لأنها كانت مركز المشهد.
كانت أقدامها حافية وملتهبة قليلاً من الركض، ضغطت ركبتيها على صدرها وأراحت ذراعيها ورأسها عليهما.
تنفس فيليكس الصعداء واقترب منها.
“ماريان، شكراً لله…”
نظرت ماريان إليه بلا تعبير، تابع فيليكس السير نحوها، همست ماريان.
“فيليكس…”
ابتسم فيليكس بضعف وجلس بجوارها.
“أجل، أنا هنا…”
لكن بمجرد أن قال هذا، سقطت ماريان مغشياً عليها بين ذراعيه، ماسحةً الابتسامة من على وجهه تماماً.
صرخ فيليكس وقد تصاعد الرعب في صدره.
“ماريان!”
ملاحظة الكاتبة: أعلم أن الفصل قصير لكنه مثالي هكذا من حيث الأحداث.
التعليقات لهذا الفصل " 17"