على أرضية الغابة الباردة، استلقى يوجين و الفرسان. فجأة، تحرك يوجين قليلًا ضاغطًا على جرحه، همس بصوت مبحوح.
“ماريان…”
كان ألم جرحه حارقًا، لكنه علِم أن عليه الوصول إليها. حاول الوقوف لكنه سقط على ركبتيه، كاد يفقد الأمل لكن صهيل جواده ظهر مجددًا. اقترب الحصان منه، امسك يوجين بلجامه ثم امتطاه بصعوبة بالغة، سقط رأسه فوق رقبة حصانه مباشرة و همس بينما تمسك به.
“خذني إلى فيليكس، أرجوك…”
انطلق الحصان على الفور.
ـــــــــــــــــ
أمام بوابة الدوقية، كان ماريان و فيليكس واقفين بانتظار يوجين. قالت ماريان بابتسامة عريضة.
“لا استطيع الإنتظار الى أن يصل… أعددت له حلوياته المفضلة كلها. سيستطيع أيضًا رؤية مهارات السيف التي تعلمتها.”
ابتسم فيليكس.
“أنا واثق أنه لا يستطيع الانتظار أيضًا… فهو يحبكِ كثيرًا لدرجة الهوس…”
ضحكت ماريان.
“أنت تبالغ، فيليكس.”
ابتسم فيليكس.
“ربما…”
عاود كلاهما النظر إلى الطريق، رأت ماريان حصان يوجين قادمًا، ازدادت ابتسامتها و لوحت له.
“أخي!”
لكن يوجين لم يلوح لها، عبست قليلًا قبل أن يقترب فيليكس منها.
“هناك شيءٌ خاطئ…”
ثم اتسعت عيناه حينما اقترب الحصان و صرخ.
“يوجين!”
بمجرد أن توقف الحصان، كاد يوجين أن يسقط إلا أن امسكه فيليكس… لكن ماريان لم تتحرك، تجمد جسدها بالكامل كما لو كان التصق بالأرض، رفعت يدها مرتجفةً إلى فمها بينما تقطعت أنفاسها و ملأت الدموع عينيها.
“أ-أخي…”
نادى فيليكس و الذعر يملأ صوته.
“طبيب! أحضروا طبيبًا!”
ركض الخدم لمناداة طبيب بينما سقطت ماريان أرضًا بجوار أخيها و مدت إليه يدًا مرتجفة.
“يوجين، أرجوك…”
امسك يوجين بيدها بوهن.
“ماري…”
بكت ماريان.
“أنا هنا، أخي، أنا هنا…”
ابتسم يوجين بخفة قبل يسعل دمًا.
“ماري، أنا آسف… لا أريد أن أترككِ… أردت أن نكبر سويًا و أن يلعب أطفالنا معًا…”
سعل مجددًا.
“أردت أن أحميك و أحبكِ للأبد… أن أحضر أعياد ميلادٍ أكثر مما فوت… لكن يبدو أن ذلك لم يكن مقدرًا لي…”
بكت ماريان بشدة.
“لا تقل هذا… سيأتي الطبيب و يعالجك… ستكون بخير… ستفعل كل ما تريد، أرجوك… أرجوك أخي…”
لكن يوجين تابع.
“لم يكن هناك في حياتي شيء أهم منكِ…”
ثم نظر لفيليكس الذي جلس مجمدًا و عيناه مليئتان بعدم التصديق.
“اعتنِ بها جيدًا، فيليكس… فلم يبقَ لها غيرك…”
هز فيليكس رأسه.
“كلا… لا يمكنك فعل هذا…”
لكن يوجين ابتسم و قال.
“أنا آسف…”
ثم مسح دموع ماريان.
“أحبكِ، أختي الصغيرة…”
ثم سقطت يده بجواره و غادر الضوء عينيه ببطء. انهار العالم حول ماريان، هزت جسده غير راغبة في التصديق و الدموع تغرق وجنتيها.
“يوجين! استيقظ، يوجين! لا تتركني، أخي! يوجين!”
حين لم يرد، ارتجف جسدها بأكمله لا إراديًا… فقدت التحكم على جسدها كليًا و توقف عقلها، لم تكن تشعر بالحزن، لم تكن تصدق أنه مات بعد، لكن أحساسًا مرعبًا بالإدراك تسلل داخلها. ‘لقد مات’
“كلا! لم يفعل!”
حاولت هز جسده مجددًا لكن فيليكس احتضنها و الدموع تملأ عينيه هو أيضًا، حاولت ماريان الابتعاد عن فيليكس لتمسك يوجين مجددًا، لتمنع الخدم من أخذ جسده لكن فيليكس امسكها بقوة.
“أنا آسف، ماريان… آسف…”
هزت ماريان رأسها.
“كلا، كلا… يمكننا إنقاذه! أرجوك، فيليكس!”
دفن فيليكس وجهه في شعرها.
“ماريان، أرجوكِ… لا تفعلي هذا بي…”
احتضنته ماريان و قد بدأ الحزن و الأسى يتصاعدان في قلبها… لقد مات يوجين.
اهتز جسد ماريان بشهقاتها بين ذراعي فيليكس، و حزنها يخبرها بأن العالم قد انتهى.
دخل أحد الخدم إلى مكتب ليوناردو حيث كان هو، إيلاني و ريبيكا يجلسون سويًا. نظر الخادم إلى الأسفل و قال.
“لقد توفي السيد يوجين ليتان.”
نظر كلاهما إليه قبل أن يقول ليوناردو مختنقًا بالدموع التي هددت أن تتصاعد.
“ماذا؟”
قال الخادم.
“قتل في طريقة إلى دوقية أوتبرن…”
شهقت إيلاني و هبت متجهة للخارج و كذلك فعل ليوناردو، قالت ريبيكا بغضب.
“ليوناردو!”
لكنه صرخ بها.
“اخرسي! فلتخرسي فحسب!”
تجمدت ريبيكا بينما ركض ليوناردو إلى الخارج.
ذهب أحدُ الفرسان إلى باقي الفرسان و قال بتعبير فارغ.
“لقد قتل القائد و جميع الفرسان الذين رافقوه…”
توقف جميع الفرسان عن تدريبهم بينما سقط سيف آيرين، قبل أن يقول أحد شيئًا ركضت فورًا و هي تبكي.
وصلت إلى العربة التي استقلها ليوناردو و إيلاني و أوقفها باكية.
“أرجوكما… خذاني معكما… أعلم أنه لا يصح لكن رجاءً–”
قاطعها ليوناردو و هو يسحبها إلى الأعلى.
“اركبي.”
جلست آيرين بجوار إيلاني و دفنت وجهها في يدها. ربتت إيلاني على كتفها بينما تمسح دموعها نفسها. جلس ليوناردو أمامهما و هو يحدق بالنافذة، يبكي بصمت بينما انطلقت العربة.
ـــــــــــــــــ
في منزل آرثر، دخل مساعده، ارنولد، و هو يتناول الطعام مع والديه و قال بنفس متقطع.
“سيدي، قتل السيد يوجين ليتان.”
توقفت يد آرثر في منتصف حركتها.
“يو-يوجين؟”
أومأ ارنولد.
“أجل، وقف آرثر مسرعًا مما جعل كرسيه يقع أرضًا، أخذ معطفه و توجه خارجًا دون كلمة أخرى.
ركض نحو الاسطبل و امتطى حصانه، متوجهًا نحو الدوقية بأسرع ما يمكنه.
عند وصولهم جميعًا إلى الدوقية، هرعوا إلى الداخل. كانت ماريان جالسة على أحد الكراسي تحدق في الأرض بفراغ، همست إيلاني.
“ماريان…”
ثم جلست بجانبها و احتضنتها، لم ترد ماريان، فقط أمسكت بيد إيلاني بينما بكت الأخيرة.
“أنا… أنا لا أصدق هذا حقًا.”
سأل آرثر ببطء.
“أين فيليكس؟”
أشارت ماريان إلى إحدى الغرف و قالت بخفوت.
“هناك…”
توجه آرثر و ليوناردو إلى تلك الغرفة على الفور بينما بكت آيرين بجوار ماريان و إيلاني. بداخل الغرفة كان فيليكس واقفًا، حزنه مختلط بصدمة من رسالة كان يمسكها بيدها، تجعدت الورقة من شدة قبضته و فكه مشدود بقوة.
ارتمى ليوناردو على الأريكة دافنًا وجهه.
“يوجين…”
نظر آرثر إلى فيليكس ثم قال.
“فيليكس، ما الذي يوجد بالرسالة.”
همس فيليكس بين أسنانه.
“ترفض عائلته دفنه في منزله… يرفضون حتى حضور الجنازة…”
أحكم آرثر قبضتيه و تصاعدت الدموع في عينيه مجددًا.
“كيف يمكنهم فعل هذا؟”
هز فيليكس رأسه ثم استدعى جوزيف.
“ابدأ بتحضير الجنازة… سيُدفن هنا…”
أومأ جوزيف قبل أن يتوجه خارجًا، مسح آرثر دموعه بينما اهتز جسد ليوناردو. نظر فيليكس إليه قبل أن ينظر بعيدًا، لم يكن بإمكانه البكاء الآن. همس لآرثر.
“يجب عليكَ الاعتناء بإيلاني و ماريان… ليوناردو لن يستطيع المساعدة.”
قال آرثر.
“ماذا عنك؟”
دمعت عينا فيليكس.
“سأُحضِّر الجنازة…”
كاد آرثر أن يقول شيئًا، كان يوجين صديق فيليكس أيضًا، كان من المفترض أن يُمنح الوقت ليحزن و ليس أن يتحمل مسؤولية جنازة… لكنه علِم أن فيليكس كان بالفعل مسؤولًا عن ذلك… أومأ ببطء و جلس بجوار إيلاني.
“ماريان… أنا… أنا آسف…”
بدأت ماريان في البكاء مجددًا و هي تحتضن إيلاني.
ـــــــــــــــــ
مع بدأ مراسم الجنازة، وقف جميعهم أمام نعش يوجين، لم تستطع إيلاني النظر إليه، وضعت زهرة غار فوقه ثم التفتت بعيدًا و احتضنت آرثر الذي فقد كل ذرة ثباتٍ كانت به حين رآه، احتضنها بشدة و هو يبكي، قبل أن يضع زهرة أخرى.
“يوجين… لا يمكن أن يكون هذا حقيقيًا… يوجين…”
كانت الدموع تغرق وجنتيه و تتساقط فوق شعر إيلاني، لم يشعر بمثل هذا الانكسار في حياته بأكملها.
ليوناردو لم يتوقف عن البكاء منذ أن سمع الخبر، لم يعد يوجين هناك… و في القصر سيكون وحيدًا مجددًا، لن يكون هناك أحد ليحدثه أو ليلعب الشطرنج معه، في تلك اللحظة أدرك أنه حقًا خسر أعز أصدقائه. لم يستطع حتى أن يضع الزهرة بنفسه، فقط أعطاها لفيليكس.
أخذ فيليكس الزهرتين و همس بينما وضعهما.
“أنا آسف…”
ثم وقف و نظر إلى يوجين و شعر بغصة في حلقه قبل أن تصل الدموع إلى عينيه، كان الذنب يقتله… لم يستطع حماية صديقه و ها هو الآن، ميتًا في نعشه… لكن كل تحمله أنهار حين همست ماريان بجواره.
“أخي، ألا يكفي هذا؟ ألن تستيقظ حقًا؟”
انكسر قلب فيليكس مجددًا، كان كل ذلك بسببه… لو استطاع أن يحمي يوجين… لو استطاع أن يعالجه… لم يكن هذا ليحصل، اجتاحه احساس بالعجز لم يشعر به منذ موت والدته بينما هز رأسه، لم يدرِ ما يخبرها… ما يخبر أي منهم. فقط انهار بصمت.
كانت ماريان تبكي بحرقة بجواره، وضعت الزهرة و حاولت قول شيء ما لكن الكلمات علقت في حلقها، و خرج مكانها النحيب. وضع فيليكس يده على كتفها محاولًا تهدئتها.
نظرت آيرين إلى جسد يوجين و قد اختلط الغضب بالحزن في عينيها، كرهت كل ما حولها… كرهت من قتل يوجين. انحنت نحوه و وضعت الزهرة قبل أن تقبل خده و تهمس.
“يوجين… سأنتقم لك… أعدك.”
تساقطت دموعها فوق وجهه بينما وقفت مجددًا.
دخل الخدم و أغلقوا النعش قبل أن يحملوه إلى الخارج بينما تبعهم فيليكس و الباقون.
نظرت ماريان حولها، كان الجو جميلًا، ازدهرت الزهور حولهم، كانت الشمس مشرقة و العصافير تطير فوقهم. جعل هذا الغضب يتصاعد بداخلها، كيف كان بإمكان العالم أن يكون جميلًا و سعيدًا بينما يوجين كان قد مات لتوه؟ كيف كان كل شيء بخير بينما عالمها قد انهار؟ شعرت بحقد تجاه العالم بأكمله لكنها لم تنطق، لم تستطع حتى.
كان بعض من فرسان يوجين ينتظرون بالخارج بينما توجه الخدم إلى مقابر الدوقية، وضع نعش يوجين في الأرض. نظر الجميع إليه مرة أخيرة قبل أن يردم التراب فوقه، تعالت أصوات بكائهم قليلًا و هم ينظرون إلى نعش يوجين يغرق بالتراب، كصفعة تخبرهم أنه مات حقًا.
كان قبر يوجين بجوار قبر والدة فيليكس، حُفِر على شاهد القبر.
التعليقات لهذا الفصل " 16"