حين عاد يوجين إلى ساحة الفرسان، وجدهم يتدربون بالفعل، لكن آيرين لم تكن بينهم. عبس قليلًا قبل أن يستقيم وينادي أحد الفرسان.
“ثيودور، أين آيرين؟”
اقترب ثيودور وانحنى باحترام.
“لست واثقًا، سيدي… أظن أنها في الغابة.”
زاد العبوس على وجه يوجين، ثم قال.
“حسنًا، عد إلى تدريبك.”
اتجه نحو الغابة القريبة، ولم يبتعد كثيرًا حتى وجد آيرين تتدرّب عند بدايتها. كانت منشغلة تمامًا بما تفعل، الشمس تعكس ضوءها على شعرها، وملابسها مبللة قليلًا من العرق.
تنحنح يوجين. التفتت نحوه—وفي اللحظة التي رأته فيها، أشرق وجهها كليًا.
“القائد!”
ابتسم واقترب منها.
“مرحبًا، آيرين. ما الذي تفعلينه هنا وحدك؟”
جلست آيرين على الأرض ووضعت سيفها قربها، ثم جلس يوجين بجانبها.
“أتدرب…” قالتها بنبرة خفيفة.
ضحك يوجين بهدوء.
“أرى ذلك. أعني… لما لا تتدربين مع الآخرين؟”
نظرت آيرين إلى الأرض للحظات، كأنها تبحث عن الكلمات.
“أتعلم أيها القائد؟ عندما تكون موجودًا يتصرف الجميع بلطف، لكن بمجرد أن ترحل… يحتقرني أغلبهم. يعتقدون أنني ضعيفة، عديمة الفائدة، وأنني انضممت للفرسان لأصطاد زوجًا نبيلًا. وهذا يظهر كلما اختفيت أنت.”
شعر يوجين بانقباض في قلبه. لم تكن آيرين أيًا مما يقولون—لم تكن يومًا. كانت قوية، ذكية، لطيفة و مجتهدة أكثر من أغلب الفرسان. لم يفهم نظرتهم لها، ولم يرغب في فهمها.
أزاح خصلة من شعرها جانبًا وقال.
“لكنّك تعلمين أنهم مخطئون، صحيح؟”
أومأت آيرين.
“أعلم… لكن الأمر مزعج أحيانًا. خاصةً–”
‘أني أحبك.’
كلمات لم تقلها.
كلمات يعرفها قلبها ولا تجرؤ شفتاها على الاعتراف بها.
نظرت إلى عينيه… كانت تحبه بعمق، لكن لو قالت ذلك الآن سيبدو كما لو أن الفرسان كانوا على حق؛ كأنها لم تكن تبحث إلا عن زوجٍ نبيل ينتشلها من بؤسها. ولو اعترفت، قد يصدق هو نفسه ذلك… وقد تخسر احترامه لها. لذلك صمتت، لأنها لم تُرِد أن تخسره هو أيضًا.
أمال يوجين رأسه قليلًا.
“خاصةً؟”
ابتسمت آيرين وهزت رأسها.
“لا شيء مهم. أعني… يصبح الأمر أسهل عندما أتدرب وحدي.”
ابتسم يوجين بدوره، ثم مد يده وأمسك يدها.
“أنتِ رائعة، آيرين.”
لم تستطع إخفاء الحمرة التي غزت وجنتيها.
“ش-شكرًا… ماذا عنك أنت، أيها القائد؟ لمَ أصبحت فارسًا؟ أنت لا تحتاج لهذا…”
تنهد يوجين ثم قال.
“تعلمين أن عائلتي تمتلك سحرًا يرتبط بالعقول، صحيح؟”
“أجل…”
“أنا لدي بعض القوى، لكنها ليست قوية مثل كاثرين. وحتى هذا… أرفض استخدامه.”
نظرت إليه بشيء من القلق.
“ولِم ذلك؟”
ابتسم بمرارة.
“لأنه يخدع الناس. يمسح ذكرياتهم، يشوّه شخصياتهم… لا أريد أن أكون جزءًا من شيء كهذا. ومنذ أن وُلدت كاثرين بقوة كبيرة، أحبها والداي كثيرًا. كانت حياتنا هادئة… حتى أعلنت أنني لن أستخدم سحري. عندها كرهني والدي، وطردني إلى الفرسان. و ها أنا ذا.”
عبست آيرين.
“والدك… شخص مريع. سمعت ما حدث مع أختك الصغرى.”
ابتسم يوجين ابتسامة خفيفة.
“بالطبع سمعت. لكنها بخير الآن… لا داعي للقلق.”
حدقت آيرين به بينما كان ينظر إلى الأفق. في عينيها أمل صامت… أن تمتلك الشجاعة يومًا لتخبره بما في قلبها.
كان ليوناردو جالسًا في مكتبه حين دخلت والدته. رفع رأسه إليها وقال بصوت خافت.
“ما الأمر، أمي؟”
جلست غلوريا بلا استئذان، كما تفعل دائمًا، ثم قالت ببرود.
“أريد أن أحدثك بأمر مهم. اترك تلك الأوراق وانظر إلي.”
تنهد ليوناردو، وضع الأوراق جانبًا ثم نظر إليها. ابتسمت و ظهرت علامات الرضا على وجهها قبل أن تتابع.
“يجب عليك أن تتزوج قريبًا. سيدريك لديه خطيبة بالفعل، وهذا قد يجعل النبلاء يميلون لدعمه.”
قال ليوناردو مترددًا.
“أمي، أنا لا–”
لكنها قاطعته بقسوة اعتادها.
“لا مجال للاعتراض. أحضرتُ ابنة الدوق من راند. والدتها صديقتي، وزواجكما سيقوّي العلاقات بين المملكتين. القرار نهائي. إنها في القصر الآن.”
تصلّب جسد ليوناردو. كادت الكلمات أن تخرج من فمه، لكنه اصطدم بنظرتها الحادة… فسكت. شعر بجفاف يمتد في حلقه، ثم أومأ باستسلام.
“حسنًا، أمي.”
نهضت غلوريا بابتسامة صغيرة.
“كنت أعلم أنك ستختار القرار الصائب.”
ثم غادرت الغرفة. ظلّ ليوناردو يحدّق في الباب بعينين زجاجيتين… مرة أخرى.
بعد لحظات، فُتح الباب ودخلت الفتاة. نظر إليها ليوناردو، وعيناه ما تزالان فارغتين.
كانت عابسة بوضوح—عيناها الخضراوان ضاقتا وهي تتفحص الغرفة قبل أن تقول ببرود.
“مكتب ممل بالنسبة لأمير…”
تحرك حاجباه قليلًا، وحاول أن يبتسم رغم انزعاجه.
“أعتذر إن لم يرق لكِ، آنسة…”
لوّحت بيدها باستخفاف.
“ريبيكا. ريبيكا دونوڤان.”
كان شعرها الوردي القصير يتمايل مع كل التفاتة لرأسها، تفحصها ليوناردو من رأسها لأخمص قدميها، كانت ترتدي فستانًا احمر مليئًا بالزخارف و الطبقات البيضاء، فكر ليوناردو أنه مبالغ به لآنسة نبيلة جاءت للحديث عن الخطوبة… كان طفوليًا بعض الشيء و غير مناسب لخطيبة ولي العهد، لكنه لم يعلق.
قالت ريبيكا فجأة.
“إذن، ليوناردو… كم عمرك؟”
ارتفع حاجباه. لم يسمع اسمه هكذا من قبل، بلا لقب، ليس من شخص قد قابله لتوه على الأقل.
“معذرةً؟”
بدت غير مهتمة بانزعاجه، أعادت السؤال ببرود.
“سألتك كم عمرك.”
تنهد وقال.
“أنا في الثانية والعشرين من عمري. وماذا عنكِ يا آنسة دونوڤان؟”
قالت.
“عشرون.”
جلست قبالته وكأنها صاحبة المكان. ثم أضافت دون تردد.
“قالت والدتك إنك وسيم… لكني لا أرى ذلك.”
اتسعت عينا ليوناردو، واستغرق لحظة ليتأكد أنه سمعها جيدًا.
“معذرةً…؟”
ضحكت بخفة.
“أمزح. أنت فقط تبدو مملاً. ألا يمكننا فعل شيء لطيف؟ كالذهاب للتسوق، مثلاً.”
فتح فمه ليعترض، لكنها كانت قد وقفت بالفعل.
“هيا، ما الذي تنتظره؟”
وقف ليوناردو بصمت، التقط معطفه، وخرج معها… إلى جولة تسوق لم يرغب بها… ليس كأنه رغب بأي من هذا على كل حال.
ـــــــــــــــــ
حين عاد ليوناردو إلى القصر، اتجه مباشرة إلى غرفة يوجين. وجده جالسًا إلى مكتبه يكتب رسالة. رفع يوجين رأسه فور دخوله وقال.
“ما الأمر، ليو؟”
جلس ليوناردو على حافة السرير، وبادر بالكلام بسرعة، و الانزعاج واضح في نبرته.
“أمي تريد إجباري على خطبة فتاة من مملكتها. أجبرتني على مقابلتها اليوم، وتلك الفتاة… أكثر شخص أناني ومزعج ومدلل رأيته في حياتي! أكاد أفقد عقلي.”
ضحك يوجين بخفة.
“أهي سيئةٌ لهذه الدرجة؟”
فرك ليوناردو صدغه بضيق.
“بل أسوأ.”
عاد يوجين إلى رسالته وسأل.
“وماذا ستفعل الآن؟”
هز ليوناردو رأسه.
“لا أدري… أتمنى أن تكرهني وترفضني. لأن والدتي بالتأكيد لن تسمح لي بإنهاء الأمر من جانبي.”
قال يوجين وهو يطوي الرسالة الأولى ليبدأ بأخرى.
“في وقت ما، عليك أن تقف بوجه والدتك يا ليو.”
أطلق ليوناردو نفسًا طويلًا.
“أعلم… ولكن ليس الآن. لست… مستعدًا لهذا بعد. بالمناسبة، لمن تكتب كل هذه الرسائل؟”
ابتسم يوجين.
“الأولى لفيليكس وماريان، لأخبرهما أني سأزور الدوقية قريبًا كما وعدت ماريان. وأما هذه…”
نظر إلى الورقة أمامه ثم أكمل بنبرة أكثر خجلًا.
“هذه لآيرين. لم أجد الجرأة لأخبرها ما أريد مباشرة، فكتبت لها رسالة. سأرسلها في طريقي إلى هناك.”
ابتسم ليوناردو بدوره.
“لطيف… فقط لا تكتب شيئًا أحمق.”
ضحك يوجين.
“لا تقلق.”
استمر الشابان في الحديث والضحك فترة طويلة، ثم غادر ليوناردو إلى غرفته عندما تأخر الوقت.
في اليوم الذي كان يُفترض أن يتوجه فيه يوجين إلى دوقية فيليكس، كان يعدّ فرسانه للرحيل. وقبل أن يمتطي حصانه، اقتربت منه آيرين وسألته بصوت خافت.
“أيها القائد، لما لا تأخذني معك؟ هل يعني هذا أنك لا تثق بي؟”
ضحك يوجين بخفة، ومدّ يده ليأخذ يدها بين يديه.
“أنا أثق بكِ أكثر مما تتخيلين. لكني أحتاجك أن تبقي هنا هذه المرة. سأراكِ قريبًا، آيرين.”
ضغط آيرين على يده دون وعي.
“أراك قريبًا…”
طبع يوجين قبلة خفيفة على يدها، ثم امتطى حصانه وغادر يتقدّم الفرسان. بقيت آيرين تراقبه حتى صار نقطة بعيدة في الأفق، ثم همست لنفسها.
“اعتنِ بنفسك… يوجين.”
ـــــــــــــــــ
بعد يومين، وفي منتصف الطريق نحو الدوقية، وقع الهجوم.
انطلق سهم نحو يوجين، بالكاد تفاداه قبل أن يخترق كتف الفارس الذي يقف خلفه. ارتفعت السيوف في ثوانٍ، وتفرّق الفرسان. كان يوجين يتلفت حوله بحذر… إلى أن وقعت عيناه على الرمز المرسوم على دروع المهاجمين.
تجمّد مكانه و اختفى العالم من حوله عدا دروعهم.
ذلك الشعار… شعار عائلته.
لم يسمع صليل السيوف، ولا صرخات فرسانه… كان يسمع تلك الحقيقة وحدها، تتردّد في صدره كضربة مطرقة.
أكانت عائلته… تحاول قتله؟
اندفع أحد الفرسان نحوه.
“أيها القائد—!”
لكن صرخة الرجل قُطعت بطعنة في صدره، فسقط أرضًا، يتقلب في دمه. ارتدّ رذاذ الدم على وجه يوجين، قطع يوجين شروده، وصدّ ضربةً أتته من الجانب، ثم طعن مهاجمه.
نظر حوله بسرعة. فرسانه يتساقطون واحدًا تلو الآخر. عدد المهاجمين كان أكبر مما توقعوا، وأكثر تنظيمًا مما ينبغي.
اشتدت قبضته على مقبض سيفه، وانغمس في قلب القتال.
تصادمت شفرات السيوف. ارتفعت الصرخات. بدا لهم للحظة أنهم قادرون على قلب الموازين… حتى شعر يوجين بحدّ بارد يخترق ظهره.
لم يلتفت.
لم يردّ.
لم يشأ أن يرى وجه الخائن.
كان يعلم أنه أحد رجاله… أحد الذين دربهم، أكل معهم، وضحك معهم. لم يرد أن يُدفن و الكراهية آخر ذكرياته.
التعليقات لهذا الفصل " 15"