حين بدأوا في النزول من الجبل، كان الإرهاق يثقل عظامهم. تأوه يوجين وهو يمسّد ظهره.
“ربما لم تكن فكرة النوم على قمة جبل هي الفكرة الأسلم.”
أومأ ليوناردو، بينما أمسكت إيلاني رأسها بيدها محاولة طرد آخر اثار النوم.
“أنا ألوم آرثر!”
قال آرثر، منهكًا لكنه لا يزال متشبثًا بحماسه.
“لكن الأمر كان ممتعًا…”
جلست ماريان مستندة إلى جذع شجرة و تنفَسُها ثقيل.
“ربما… لكني أفضل البقاء على الأرض من الآن فصاعدًا…”
أطلق فيليكس ضحكة خافتة.
“كان ممتعًا، آرثر…”
ثم وقع نظره على قاعدة الشجرة قرب ماريان. كانت هناك حفنة أقحوان صغيرة نبتت في هدوء، فتوقفت عيناه عليها لحظة. اقتطفت ماريان إحدى الزهور، تقلّبها بين أصابعها، ثم همست.
“أليست الزهور رائعة حقًا؟ أظن أن لدينا الكثير لنأمله من الزهور… إنها لطف من القدر. وجودها ليس ضروريًا، إنها فقط… جمال خالص.”*
قال يوجين وهو يرمش ببطء.
“لم أفكر في الأمر هكذا من قبل.”
رفعت ماريان الزهرة أمامها، ابتسامة صغيرة ترتسم على شفتيها إذ حدقت بها.
“أظن أن بعض الأشياء تمثل الأمل… الزهور أحدها. فهي تنمو حتى في أحلك الظروف… و تعود بكامل إشراقها مع الربيع.”
وحين رفعت نظرها وجدتهم يحدقون بها جميعًا. ارتفع اللون الأحمر إلى وجنتيها فجأة.
“آسفة… لا أظن أن الأمر مهم…”
قالت إيلاني وهي تحاول استيعاب ما قيل.
“إنه… غريب.”
عبس فيليكس نحوها، ثم مد يده يساعد ماريان على الوقوف.
“حسنًا… أظنه مثيرًا للاهتمام.”
ابتسمت ماريان له بخجل طفيف، بينما أومأ ليوناردو موافقًا.
ثم، دون أن تفكر كثيرًا، وضعت الأقحوانة خلف أذن فيليكس.
“هاكَ… تبدو لطيفًا.”
اتسعت عينا فيليكس قليلًا، لكنه سرعان ما ابتسم بدفء و همس بصوت رقيق.
حين عادوا إلى القصر، اجتمعوا جميعًا في إحدى الغرف. جلس آرثر بين إيلاني وليوناردو، ورفع ذراعه اليمنى خلف رأس إيلاني باسترخاء.
قال ليوناردو وهو يمد رجليه بتعب.
“أكاد لا أشعر بعظامي…”
رد آرثر ساخرًا.
“هذا لأنك تقضي نصف حياتك جالسًا في القصر. من الطبيعي أن تتعب بعد القليل من الحركة.”
ضحك فيليكس بخفوت، بينما قال ليوناردو معترضًا.
“بعض الحركة؟ نحن تسلقنا جبلًا كاملًا.”
لوّح آرثر بيده بلا مبالاة.
“كلاهما سواء.”
كانت أصابعه تعبث بخصلة من شعر إيلاني دون انتباه. رفع فيليكس حاجبه نحو يوجين، وتبادل الاثنان ابتسامة خفيفة مليئة بالفهم، لكنهما لم يقولا شيئًا. انفتح الباب فجأة، ودخل جوزيف.
“سيد ليتان، وصلت رسالة من والدكم.”
أخذ يوجين الرسالة بين أصابعه، نظر إليها لحظة، ثم ألقاها في نار المدفأة دون أن يحاول فتحها. سألت ماريان بهدوء.
“ألن تقرأها؟”
رد يوجين وهو يتثاءب
“لا. على الأرجح يوبخني على… شيء ما.”
ابتسمت ماريان ابتسامة صغيرة، ثم مالت برأسها على كتفه.
“لا بأس… هو لا يحب إلا كاثرين على أي حال.”
اتسعت ابتسامة يوجين ووضع ذراعه حولها براحة.
“أنا لست منزعجًا… لكنكِ لطيفة.”
ضحكت بخفوت بينما وقف فيليكس فجأة.
“حسنٌ، لدي بعض الأعمال. استمتعوا بوقتكم.”
بعد لحظة صمت قصيرة، رفعت إيلاني يدها بحماس مفاجئ.
“لديّ فكرة… لنذهب للتسوق!”
أومأت ماريان فورًا، بينما بدا الشباب الثلاثة أقل حماسًا—نظرة استسلامية مشتركة بينهم.
“حسنًا، لنذهب للتسوق”، قال يوجين في النهاية.
ـــــــــــــــــ
خلال تجوالهم في السوق، توقّف يوجين عند متجر أسلحة لفت نظره. التفت إلى الفتاتين وقال بهدوء.
“ماري، إيلاني… هل يمكن أن تبقيا وحدكما قليلًا؟”
أومأتا معًا، فابتسم وابتعد مع آرثر وليوناردو نحو المتجر.
نظرت ماريان إلى إيلاني ثم ابتسمت بحماس.
“هناك سوق قريب، هل تأتين معي؟”
ترددت إيلاني.
“لكن… يوجين قال—”
قاطعتها ماريان بابتسامة.
“قال قليلًا… وهذا يعني أن الأمر سيطول. تعالي، نشتري شيئًا نأكله.”
لحقَت بها إيلاني بخطوات مترددة. كان السوق يعجّ بالعامة، وضحكات الباعة تختلط بنبرات المساومة. قالت إيلاني بصوت منخفض وهي تراقب الزحام:
“ألا يزعجون النبلاء؟”
قالت ماريان ببساطة.
“لا. فقط كوني لطيفة، وستسير الأمور جيدًا.”
ثم ابتسمت لطفل صغير مرّ بجانبهما وهو يحمل كيسًا أكبر من حجمه.
لمحت شيئًا على أحد الأكشاك فشعّت عيناها.
“انظري، تلك التمائم** جميلة!”
أمسكت بيد إيلاني وتوجهت نحو الكشك. انحنت قليلًا فوق طاولة المجوهرات وتفحصتها باهتمام، ثم اختارت اثنتين.
“هذان سيُناسبان سيفَي فيليكس ويوجين…”
رفعت إيلاني حاجبها.
“أظن ذلك… لكن لماذا تشترين لهما تمائم أصلًا؟”
ابتسمت ماريان ابتسامة دافئة.
“يوجين أخي… وفيليكس ساعدني كثيرًا. تقديم شيءٍ بسيط ليس أمرًا غريبًا. ألا تريدين شراء شيء لأحد؟”
هزّت إيلاني رأسها بسرعة.
“لا… لا داعي لذلك.”
لم تُلحّ ماريان، بل اكتفت بإيماءة خفيفة قبل أن تدفع ثمن التمائم.
“هيا، هناك مقهى قريب يقدم حلوى لذيذة.”
رفعت إيلاني نظرها باهتمام مفاجئ.
“هل لديهم تارت الفواكه؟”
ضحكت ماريان بخفة.
“بالطبع. لنذهب.”
وبدا أن ذلك وحده كافٍ ليجعل خطوات إيلاني أقل ترددًا.
عندما جلستا في المقهى، تبادلت الفتاتان لحظة هدوء قبل أن تسأل إيلاني بفضول.
“هل أنتِ دائمًا لطيفة مع الجميع؟”
أجابت ماريان بابتسامة صغيرة.
“ليس دائمًا… لكن طالما أن أحدًا لا يؤذيني، فلا ضرر أن أكون لطيفة.”
تأملت إيلاني ابتسامتها وكأنها تبحث عن إجابة أعمق، ثم قالت.
“كانت والدتي تقول إن الأميرة يجب أن تكون قوية… لا لطيفة.”
تنهدت ماريان بخفة.
“يمكنكِ أن تكوني كليهما.”
عبست إيلاني قليلًا و قالت.
“اللطف يجعل الإنسان بحاجة لمن يحميه… واللطفاءُ يُستغلّون. لكن الأقوياء… لا يحدث لهم ذلك.”
ضحكت ماريان ضحكة قصيرة.
“جميع البشر بحاجة إلى من يحميهم… لهذا نبحث عن الحب، عن الأصدقاء، ونبني روابطنا مع الآخرين؛ فهي ما يخفف قسوة هذا العالم و مرارته. وحتى الأقوياء، حين ينهكون، يسقطون ويحتاجون من يرفعهم. فنحن في النهاية بشر. أمّا أن يستغلّك أحد، فذلك نتيجة سذاجة لا لطف. اللطف لا يُمنح للجميع… بل لمن يثبت أنه يستحقه.”
سكتت إيلاني لحظة، تحدق في وجه ماريان كانت تسمع هذه الكلمات لأول مرة و بدا الأمر غريبًا بعض الشيء لها. ثم قالت بابتسامة خفيفة.
“ربما… أنتِ محقّة.”
ـــــــــــــــــ
بعد أن تناولا الحلوى، تجوّلا قليلًا لشراء بعض الملابس قبل أن يتجها مجددًا نحو متجر الأسلحة. كان الثلاثة قد خرجوا للتو. ابتسمت ماريان وهمست.
“أخبرتكِ.”
ضحكت إيلاني مبتسمة بدورها.
قال يوجين.
“حسنًا، يمكننا الذهاب.”
أمسكت ماريان بيده وقالت.
“لا داعي لذلك، لقد انتهيتُ أنا وإيلاني بالفعل.”
همس آرثر.
“من حسن حظّنا…”
ضحك ليوناردو قليلًا ثم قال.
“أظن أنّ بإمكاننا العودة إلى فيليكس إذًا.”
أومأت إيلاني، وتوجّهوا إلى العربة التي كانت تنتظرهم.
وفي طريقهم، مرّوا بالكشك الذي اشترت منه ماريان التمائم. لم يلتفت إليه أحد… سوى آرثر. توقّف للحظة، عيناه معلّقتان بأحد الدبابيس الذي تتوسّطه جوهرة ذهبية صغيرة. انحنى والتقطه برفق، كأنه يحمل شيئًا ثمينًا جدًا.
همس لنفسه.
“يشبه عيني إيلاني…”
مرّر إصبعه فوق الجوهرة، وقلبه يخفق أسرع مما اعتاد. دفع المال لصاحبة الكشك، ثم أطبق يده حول الدبوس بعناية قبل أن يرفع نظره نحو الآخرين الذين كانوا قد ابتعدوا قليلًا. التفتت إيلاني إليه، وضوء القمر ينساب على عينيها الهادئتين، فاحمرّ وجه آرثر بينما تطايرت خصلة من شعرها حول وجنتها. كانت، في عينيه، أجمل ما خُلِق.
صباح عيد ميلاد ماريان، أيقظتها روكسانا بابتسامة هادئة.
“صباح الخير، آنستي. الإفطار جاهز.”
فتحت ماريان عينيها ببطء، ما زالت مثقلة بالنعاس. تمتمت بصوت خافت
“أمم… صباح الخير…”
ثم هزت رأسها محاولة التخلص من نعاسها.
شكرًا، روكسي.”
بعد الإفطار، أخذت حمامًا دافئًا قبل أن تخبرها روكسانا.
“آنستي، هناك أشياء أحتاج شراءها من السوق. هل ترغبين بمرافقتي؟”
ابتسمت ماريان ابتسامة صغيرة.
“بالطبع، مرّ وقتٌ طويل منذ ذهبنا معًا…”
ارتدت ماريان فستانًا كحلي اللون بلا أكمام، تنساب طبقاته فوق بعضها كالموج حين يلامس الشاطئ. وضع عليه طبقة خفيفة من التول اللامع، فصار الفستان يلتقط الضوء كسماء مرصعة بالنجوم. وتدلت عند الصدر والخصر مجوهرات فضية مرصعة بالألماس والتوباز الأزرق. نظرت إليها روكسانا بإعجاب، بينما قالت ماريان بارتباك ظنته روكسانا محببًا.
“أليس هذا مبالغًا فيه قليلًا… للسوق؟”
أجابت روكسانا وهي تبدأ بتسريح شعرها.
“البتة.”
ضفرت بعضًا من شعر ماريان في جديلتين ورفعتهما إلى كعكة رقيقة، ثم زينتها بمجوهرات صغيرة من الفضة والتوباز. وضعت لها قلادة و قرطين مطابقين، ثم لمسة خفيفة من مستحضرات التجميل. وقفت ماريان أمام المرآة بهدوء.
“أبدو جميلة…”
ابتسمت روكسانا بصدق.
“ماذا تقصدين؟ أنتِ جميلة دائمًا، آنستي.”
لمست ماريان خدها بنعومة.
“ربما…”
قبل أن تخرجا، لفت روكسانا عباءة سوداء حول كتفيها.
“للاحتياط فقط.”
شعرت ماريان بالغرابة، لكنها لم تقل شيئًا.
بمجرد أن غادرتا، شرع الخدم بتجهيز القصر. لم يستغرق الأمر طويلًا؛ كان الجميع يعرف تمامًا ما يجب فعله.
بدّل الجميع ملابسهم واجتمعوا في مكتب فيليكس. قال آرثر وهو يعقد ذراعيه.
“أليست فكرة المفاجأة… طفولية قليلًا؟”
ابتسم فيليكس و قال.
“ربما… لكنها قالت إن آخر مرة احتُفل بعيد ميلادها كانت قبل ذهاب يوجين للدراسة، عندما كانت في السابعة. لا تتذكر التاريخ حتى… ولا أي شيء حوله. بدا لي أنه من الأفضل أن نصنع لها ذكرى جديدة.”
قال ليوناردو بصوت منخفض.
“لا بد أن هذا سيعني لها الكثير.”
أومأ يوجين، وكأن الكلمات تثقل صدره.
“بالطبع سيفعل.”
ـــــــــــــــــ
بعد وقت لم يكن بالطويل، عادت ماريان وروكسانا إلى القصر. وما إن وصلتا إلى المدخل حتى قالت روكسانا، بصوت خافت.
“عيد ميلاد سعيد، آنستي.”
اتسعت عينا ماريان بدهشة، لكن قبل أن تتحرك شفتاها، انفتح باب القصر بهدوء. كان فيليكس واقفًا هناك، يبتسم ابتسامة غير معتادة عليه، هادئة كنسيم الشتاء. مدّ يده إليها.
“عيد ميلاد سعيد، ماريان.”
ارتجف قلبها و تسارعت دقاته. لم تخطر ببالها فكرة الاحتفال قط… همست وهي تشد على يده دون وعي.
“اليوم… عيد ميلادي؟”
أومأ فيليكس، وما زالت الابتسامة تلازم عينيه.
“أجل، إنه كذلك.”
سحبها برفق إلى الداخل، وحين دخلت، وجدت الجميع بانتظارها. امتلأت عيناها بالدموع فورًا، وفاض شيء دافئ داخل صدرها لم تعرف له اسمًا.
“أنا… شكرًا… شكرًا لكم جميعًا…”
ضمّها يوجين إلى صدره بقوة، كان فقد سنوات كثيرة ويريد تعويضها بلحظة واحدة.
“لا تبكي يا ماري…”
دفنت وجهها في كتفه كطفلة عثرت أخيرًا على بيتها.
“أنا فقط… سعيدة… جدًا…”
ضحك ليوناردو برفق.
“لا بأس يا ماريان… استمتعي.”
ربتت إيلاني على ظهرها بحنان، وعيونها تلمع هي الأخرى. لم تستطع تخيل اثنتي عشرة سنة من الوحدة… لكنها شعرت براحة عميقة لأنها لم تعد مضطرة لتحمل ذلك وحدها.
مسحت ماريان دموعها سريعًا.
“أنا بخير… حقًا.”
مرر يوجين أصابعه في شعرها ثم قبّل جبهتها.
“تعالي، الطاهي حضّر أنواع الحلوى التي تحبينها… وصنع لكِ كعكة الشوكولاتة بنفسه.”
ضحكت ماريان، ضحكة صغيرة لكن كفيلة بأن تجعل شيئًا في صدر فيليكس ينبض بقوة غير مألوفة. أخذ نفسًا عميقًا ليخفي اضطرابه.
“هيا… لندخل.”
كان الاحتفال بسيطًا لكنه دافئ، بعد أن فرغوا من الحلوى، بدأ تقديم الهدايا.
أهدتها روكسانا شالًا نسجته بنفسها، بنقوش دقيقة تشبه خيوط ضوء الفجر.
أما آرثر فوضع أمامها مجموعة كتب أحضرها من بلدان بعيدة.
ثم اقترب يوجين، ونبرة صوته دافئة كما عادته.
“ماري… فكرت أن أشتري لك الكثير من الهدايا كي أعوضك عن السنوات الماضية، ثم أدركت أن ذلك قد يزعجك… لذا اخترت شيئًا واحدًا فقط.”
وضع أمامها صندوقًا موسيقيًا من الذهب الخالص. فتحته ماريان بيد مرتجفة فوجدت تمثالًا صغيرًا لفتاة تشبهها، تدور مع اللحن. وفي الجانب الآخر، حُفر بعمق.
<كل حياتي دومًا لكِ.
أخوك الأكبر، يوجين.>
رفعت نظرها إليه والدموع تتجمع في عينيها للمرة الثالثة. احتضنته بقوة.
“شكرًا لك… أخي.”
ابتسم يوجين وربت على رأسها.
“لا شكر على واجب.”
ثم التفت إلى فيليكس بابتسامة خفيفة. تبادل معه فيليكس نظرة قصيرة، قبل أن يتقدم خطوة للأمام.
“هديتي… ليست هنا. إنها في غرفة أخرى. هل تتبعونني؟”
تبادلوا نظرة قصيرة قبل أن يتبعوا فيليكس عبر الممر. توقف أمام غرفة كانت مخصّصة للوحـات، أضواؤها خافتة و الجو يعبق برائحة الألوان والزيت. فتح الباب، ثم تقدّم بخطوات ثابتة نحو لوحة كبيرة مغطاة بقماش أسود. التفت إليهم بابتسامة سريعة، ثم سحب القماش في حركة واحدة.
تجمدت الأنفاس في صدورهم.
لمعت عينا ماريان، فقد كانت اللوحة لها… ولكن بصورة لم ترَ نفسها بها قط. ظهرت فيها تبتسم بخفة، تتلألأ عيناها الخضراوان كما لو شُذِّبت من حجر كريم، بينما انساب شعرها على ظهرها و حول وجهها كخيطٍ من ضوء. كان في المشهد كله شيء أثيري، يصعب تحديد مصدره؛ ربما الفستان العاجي الذي يعانق الضوء، أو المجوهرات اللؤلؤية التي تُشبه قطرات الفجر، أو تلك الابتسامة الهادئة التي لا تظهر على وجهها إلا في لحظات نادرة.
لكن مهما كان السبب، فقد رأت في اللوحة شيئًا لم تتوقعه… جمالًا لم تعتقد يومًا أنه يمكن أن يُنسَب إليها.
شعرت ماريان بشيء يرتفع في صدرها، دهشة، امتنان، وربما صدمة.
هل هذا… ما يراه فيليكس حين ينظر إليها؟
لم تستطع أن تُبعد عينيها عن اللوحة، ولو للحظة واحدة.
تنحنح فيليكس قليلًا، وكأنه يحاول كسر الصمت الذي طال أكثر مما توقع.
قال يوجين بصوت خافت.
“يا إلهي… هذا مذهل.”
أومأ ليوناردو ببطء.
“كنت دائمًا بارعًا، فيليكس… لكن هذا… شيء آخر.”
خطت ماريان خطوة صغيرة نحوه، ثم أمسكت يد فيليكس برفق.
“هذا أجمل ما بدوت يومًا.”
تجمّد فيليكس للحظة.
نظر إليها، نظر طويلًا يكاد يفضحه، ثم قال بصوت منخفض، كأنه خرج منه من دون إذن.
“ليس تمامًا… أنتِ أجمل الآن.”
باغتته كلماته كما باغتت الجميع، وارتفعت حرارة أذنيه قليلًا. ضحكت ماريان بخفة.
“شكرًا لك يا فيليكس… لقد كان عيد ميلاد سعيدًا بالفعل.”
ابتسم، ابتسامة أرق مما أظهر قبلًا.
“من دواعي سروري… دومًا.”
كانت إيلاني تراقبهما بصمت، وشيء باهت من الغيرة يلمع في عينيها. طوت شعورها بسرعة وابتسمت كأن شيئًا لم يكن.
أما آرثر، نظر إليها لحظة طويلة، ثم أشاح بوجهه في صمتٍ، لم يكن يعرف حقًا ما الذي رآه.
ـــــــــــــــــ
انتهت حفلة عيد الميلاد الصغيرة التي أقاموها لماريان، وتوجه كلٌّ منهم إلى غرفته، تاركين خلفهم أثرًا دافئًا.
جلست ماريان على سريرها، تنحني برفق نحو الهدايا المصفوفة أمامها. لم تعد تلك الفتاة التي اعتادت الوحدة، كانت الآن محاطةً بالمحبة.
ابتسمت لنفسها ابتسامة صغيرة، هادئة، ثم همست:
“عيد ميلاد سعيد… لي.”
استلقت بعدها على سريرها، وسمحت لجفنيها أن يثقلَا. كان هذا أول ليلٍ منذ زمنٍ طويلٍ ينام فيه قلبها مطمئنًا، مستسلمةً للنوم، كانت تنتمي أخيرًا إلى مكانٍ ما.
التعليقات لهذا الفصل " 14"