كان يوجين جالسًا في ساحة تدريب الفرسان، تتساقط قطرات العرق من جبينه على الأرض الترابية، شاهدةوعلى ساعات طويلة من الجهد. تقدم أحد الفرسان بشعرٍ بنيّ وعينين سوداوتين هادئتين، إيريك، يحمل بيده كوب ماء ورسالة مختومة.
قال إيريك بصوته المهذب.
“أيها القائد، أرسل السيد آرثر نويل دعوة لك ولولي العهد. يريد أن يراكما خلال يومين.”
أومأ يوجين بهدوء، ومسح العرق عن جبينه بيده.
“شكرًا، إيريك. سأخبر الأمير. يمكنك الذهاب الآن.”
تحرك إيريك مبتعدًا، بينما تنهد يوجين ببطء، ثم وقف واستقام، متجهًا نحو القصر بخطوات متثاقلة. لكنه ما إن قطع نصف الطريق حتى وقعت عيناه على الشخص الوحيد الذي كان يتمنى ألا يلتقيه الآن. الفارسة الوحيدة في الحرس الإمبراطوري… آيرين.
توقف للحظة، وكأنه اصطدم بجدار غير مرئي، ثم التفت بسرعة محاولًا الإفلات، لكن عيني آيرين البرتقاليتين ضاقتا، لقد أمسكت به قبل أن يحاول حتى.
“رأيتك، أيها القائد. لم تحاول الهرب مني؟”
همس يوجين بكلمة خرجت منه رغماً عنه.
“تبًا.”
ثم التفت لها محاولًا تصنع الهدوء.
“أنا لا أهرب منكِ، آيرين…”
لاحظ شعرها الذهبي القصير، كان مختلفًا عن طول شعرها الذي يعرفه.
“قصصتِ شعركِ؟”
عقدت ذراعيها أمام صدرها، وعينيها لا تفارقان وجهه.
“لا تحاول تغيير الموضوع. أنت تتجنبني.”
قال يوجين متوترًا.
“لا، لا أفعل… كنت ذاهبًا لرؤية ليوناردو.”
رفعت حاجبها، و مزقت حجته في لحظة.
“بوابة القصر من ذلك الطريق. وأنت كنت تسير في الاتجاه المعاكس.”
اقتربت خطوة، فتراجع يوجين خطوة.
“لماذا تتجنبني؟!”
ارتفع لون الخجل إلى وجهه حتى لطخ أذنيه، وتسارعت دقات قلبه كأنه عالق في معركة لا يستطيع الانتصار فيها. من بين جميع النبيلات في الإمبراطورية… بالطبع كان عليه أن يقع في حب آيرين، بكل شراستها و حدتها.
تلعثم بصوت خافت.
“أنا… لا… لا شيء حقًا! أيمكنني الذهاب الآن؟!”
زفرت آيرين، و قد استسلمت، عالمةً أن لا فوز في تلك المعركة.
“حسنًا… لكن لا تتجنبني بعد الآن!”
وما إن ابتعد عنها، حتى ركلت صخرة صغيرة، ورفعت يدها تخفي بها احمرار وجهها.
“أحمق…”
دخل يوجين القصر واتجه نحو ليوناردو، الذي كان يعمل على كومة من الأوراق. رفع ولي العهد حاجبه فور رؤيته، ثم قال بابتسامة تحمل أكثر مما تقول.
“آيرين؟”
رد يوجين بلا حماس.
“ومن غيرها؟”
ثم قبل أن يسأله ليوناردو أي سؤال آخر، قال.
“لقد دعانا آرثر إلى منزله بعد يومين. هل ستذهب؟”
أومأ ليوناردو سريعًا، وكأن الدعوة كانت طوق نجاة.
“بالطبع سأذهب! أي مكان بعيد عن والدتي!”
ضحك يوجين بخفة.
“بالطبع ستفعل…”
تنفس ليوناردو طويلًا، ثم قال.
“أتمنى لو كان فيليكس يستطيع المجيء…”
علق يوجين.
“تتحدث كما لو أنها آخر مرة سنلتقي بها سويًا. عيد ميلاد ماريان بعد أسبوعين، سيكون هناك.”
تنهد ليوناردو، هذه المرة بارتياح.
“أنت محق…”
وقّع ورقة ثم دفعها تجاه يوجين.
“هذه إجازتك لنذهب إلى آرثر.”
أخذها يوجين وهو يبتسم.
“لهذا احتجت أن أكون صديق ولي العهد…”
ضحك ليوناردو، ولم يعلق. كانت سعادته بالابتعاد عن والدته أكبر من أي مضايقه.
سأل يوجين.
“ما الذي ستقوله لوالدتك؟”
أجاب ليوناردو ببساطة.
“سأخبرها أنه اجتماع سياسي أو شيء كهذا…”
فتح ليوناردو فمه ليكمل، لكنه صمت فجأة. تجمد شيء ما في عينيه. عبس يوجين.
“ما الأمر؟”
قال ليوناردو بصوت منخفض.
“لا شيء… كنت أتساءل فقط… هل ستُحبني والدتي يومًا ما؟”
لم يجد يوجين ما يقوله. ساد الغرفة صمت ثقيل… صمت لم يحاول أيهما كسره.
“لم تحتفل بعيد ميلادها منذ سنوات… أراد فيليكس أن يجعل الأمر مميزًا بالنسبة لها.”
زفرت إيلاني، كأنها تحاول إزاحة شيء عالق في صدرها.
“بالطبع يفعل… إنه لطيف جدًا معها…”
رفع ليوناردو حاجبه.
“فيليكس لطيف مع الجميع…”
نظرت إليه، و خرجت كلماتها من حيث لا تدرك.
“أجل، فيليكس لطيف. لكن… هل أنا الوحيدة التي ترى أن الأمر مختلف معها؟!”
قال ليوناردو بسخرية.
“أجل… أنت فقط تشعرين بالغيرة.”
عقدت ذراعيها سريعًا، كمن يحاول حماية نفسه من كلمات لم يحب سماعها.
“ماذا؟! كلا! أنا لا أشعر بالغيرة…”
ابتسم ليوناردو وربت على رأسها بلطفٍ اعتادته منذ طفولتهما.
“بالطبع لا تفعلين… الآن، يجب علي أن أذهب لوالدتي.”
انحنى وقبّل صدغها ثم غادر. بقيت إيلاني واقفة لحظة، حاجباها معقودين. لم تكن تشعر بالغيرة… كانت فقط لا تحب تلك النظرة التي ينظر بها فيليكس إلى ماريان… أو تلك الطريقة التي يعاملها بها… كان الأمر مزعجًا فحسب.
ـــــــــــــــــــــــ
توجه ليوناردو بعدها إلى والدته. وجدها في الحديقة، كوب الشاي يتصاعد بخارُه مع نسمات الريح الخفيفة. أخذ نفسًا عميقًا ثم سار نحوها.
“أمي؟”
لم تنظر إليه، لكنها ردت بنبرة حادة علمها جيدًا.
“ماذا؟”
قال، وهو يقف مستقيمًا.
“سأذهب إلى منزل الكونت نويل هذا الأسبوع.”
ظهر العبوس على وجه غلوريا فورًا.
“ماذا؟! لماذا؟!”
تجمد ليوناردو للحظة، لكنه جمع شتات نفسه.
“سيكون يوجين ليتان هناك أيضًا… لقاء سياسي…”
هدأت غلوريا قليلًا، كما لو أن كلمة “سياسي” قد أرضت شيئًا ما في داخلها.
“حسنًا… يبدو هذا جيدًا. يمكنك الذهاب.”
تنفس ليوناردو الصعداء، ومرّ شيء يشبه الراحة على ملامحه.
“شكرًا…”
ثم استدار وغادر الحديقة. كان الهواء باردًا، لكنه شعر بخفة غير مألوفة… كان سيبتعد عن والدته… مجددًا.
“أرسلت رسالة إلى فيليكس… ربما هدده ذلك الشخص هو الآخر.”
تنهد ليوناردو وهو يضغط على صدغيه.
“سحقًا…”
قال يوجين بعد لحظة تردد.
“ربما يجب أن نلغي عيد ميلاد ماريان.”
قال آرثر بسرعة.
“كلا، لا يمكننا… إنه أول عيد ميلاد لها منذ سنوات. أنت قلت هذا بنفسك.”
أضاف ليوناردو.
“ثم إننا سنسافر معًا. أياً يكن ذلك الشخص، لن يجرؤ على تهديدنا ونحن مجتمعون.”
تنهد يوجين، وقد بدا أن القلق يخفّ من على كتفيه.
“أنت محق… ربما كنت أبالغ.”
دخل الفرسان في تلك اللحظة وهم يمسكون برجل مقيّد. قال أحدهم.
“لقد وجدناه يا سيدي. إحدى السيدات العجائز في القرية سمعت بحثنا وأرشدتنا إلى مكانه.”
اقترب ليوناردو من الرجل و قال بجدية.
“من أرسلك؟!”
قال الرجل بصوت مرتجف لكنه متحدٍ.
“لا أحد… كان هناك الكثير من المال لقتل أيٍّ منكم… وكذلك فيليكس أوتبرن.”
أخذ يوجين الورقة من فوق الطاولة.
“أأنت من كتب هذه؟”
أومأ الرجل و الخوف يتزايد في عينيه.
“نعم… ظننت أنّ ترويعكم سيسهّل قتلكم.”
قال آرثر باستهزاء.
“إذن ليس سيدريك… مجرد مرتزق أحمق.”
سأل يوجين بحدة.
“من وضع المال على رؤوسنا؟”
قال الرجل.
“أي نبيل قد يفعلها. لكل واحدٍ منكم عدوّ ينتظر فرصة.”
قال آرثر للفرسان ملوحًا بيده.
“ألقوه في الزنزانة.”
بمجرد أن خرجوا، قال يوجين.
“هذا… مريح نوعًا ما.”
أومأ ليوناردو بهدوء، لكن شيئًا في عينيه لم يهدأ.
في ا
لقرية
خرجت المرأة العجوز من الأزقة الضيقة، وما إن ابتعدت قليلًا حتى ازداد طولها، وتلاشى انحناء ظهرها، وعاد شعرها الأشقر إلى طبيعته. نظرت إلى الرجل الملثم أمامها وابتسمت بحدة.
“كان ذلك سهلًا.”
أزال الرجل لثامه، وعيناه الزرقاوان تلمعان ببرود مألوف.
“أحسنتِ يا كاثرين.”
اتسعت ابتسامتها.
“وما الذي ستفعله الآن… سيدريك؟”
أمسك سيدريك بيدها، وصوته هادئ وقاسٍ في آن واحد.
“ماذا تعنين؟ سأصطاد.”
ألقى نظرة أخيرة نحو القرية قبل أن يختفي كلاهما في ظلال الليل.
التعليقات لهذا الفصل " 12"