كانت غلوريا واقفة عند باب القصر، يحيّيها العاملون باحترام. كانت خصلات شعرها الشقراء مرفوعة خلف رأسها بعناية، وفستانها الأحمر الداكن ينساب حولها، يزيّنه دانتيل أسود عند الأطراف. تقدّمت إيلاني نحوها بخطوات خفيفة.
“أمي!”
لمعت عينا غلوريا البنيتان بالدفء حين رأت ابنتها، وضمّتها بين ذراعيها.
“مرحباً، حلوتي.”
سألتها إيلاني بسعادة.
“مرحباً، أمي. كيف كانت زيارتك؟”
أجابت غلوريا بنبرة هادئة.
“كانت جيدة… وكيف حالك أنتِ؟”
ابتسمت إيلاني.
“أنا بخير.”
خلفها، كان ليوناردو واقفاً بصمتٍ معتاد. لم ينطق بكلمة. اكتفت شفتاه بابتسامة مريرة صغيرة، بالكاد تُرى. التفتت غلوريا إليه، وقد قست ملامحها فجأة.
“مرحباً، ليوناردو.”
أومأ برأسه بهدوء.
“مرحباً، أمي.”
لم ترد غلوريا، وكأن وجوده لم يكن مهمًا. التفتت فوراً إلى إيلاني، وابتسامة دافئة ارتسمت من جديد على ملامحها.
“تعالي معي، حلوتي. لا بد أن لديك الكثير لتخبريـني به.”
ابتسمت إيلاني وتبعت والدتها، بينما بقي ليوناردو في مكانه. أطرق برأسه وتنهد… شعر كما لو أن شيئاً داخله تحطم مرة أخرى. نظر إلى الاتجاه الذي سارتا فيه، ثم أشاح بوجهه وتوجه لغرفته بصمت.
التفتت إيلاني تنظر إليه للحظة، لكن مكانه كان قد خلا. توقفت، وكأنها تحاول التقاط أثره، قبل أن يناديها صوت والدتها.
كان فيليكس جالسًا في مكتبه، يحاول مرة أخرى أن ينتزع من الكمان لحنًا لا يستجيب. كانت أنامله تتحرك، لكن ذهنه كان في مكان آخر تمامًا… عند السؤال نفسه: ما الهدية التي تستحقها ماريان؟
كتب عشرات الاقتراحات، ثم شطبها جميعًا. لا شيء بدا قريبًا منها، لا شيء يشبه ذلك الهدوء الذي تجلبه معها كلما دخلت الغرفة.
وقطع أفكاره صوت خطوات خفيفة، ثم دخلت ماريان تحمل طبقًا من البسكويت.
ابتسم، وكأن العالم قد أضاء.
“مساء الخير، ماريان.”
وضعت الطبق أمامه وجلست، وعيناها تتأملان الكمان بين يديه.
“مساء الخير… الكمان مجددًا؟”
تلون وجهه بالأحمر، ضحك بخفوت كمن ضُبط متلبسًا.
“أوه… أجل. كنت أحاول.”
قالت وهي تبتسم، بنبرة ساخرة و لكنها لطيفة.
“أنت سيء فيه حقًا… ألا تنوي التوقف عن ذلك يومًا؟”
أجاب بهدوء، وهو يأخذ قطعة بسكويت.
“لا، لا أنوي.”
حدقت فيه للحظة، وكأن شيئًا صغيرًا في صدرها تحرك دون إذن.
“أنت ميؤوس منك.”
ثم أضافت.
“الجو جميل مؤخرًا… هناك تلة في القرية تمتلئ بالزهور. هل… تريد المجيء معي؟”
رفع فيليكس نظره نحوها، وكأن السؤال باغته.
“بالطبع. نذهب غدًا؟”
اتسعت عيناها بدهشة، لم تتوقع منه قبولًا بهذه السلاسة.
هو الذي يهرب من أعين الناس… كارهًا المرور بينهم و تحديقهم به… خائفًا من إحساسه أنه مختلف، وافق بسهولة بالغة. قالت ماريان.
“متأكد؟”
ابتسم ابتسامة تحمل شيئًا لطيفًا… شيئًا غير مألوف بالنسبة له.
“بالطبع. يمكنني استخدام سحر تنكر. سنذهب غدًا إن أردتِ.”
قفزت سعادتها إلى السطح، بدا كما لو أن روحها أضاءت.
“أجل، نذهب غدًا!”
وقفت تستعد للمغادرة، لكنه ناداها.
“ماريان.”
التفتت.
“ماذا؟”
أشار إلى طرف فستانها الطويل.
“احذري… قد تتعثرين.”
نظرت إلى الفستان وضحكت بخفوت، ثم أمسكت بطرفه لتتأكد أنها لن تسقط.
“شكرًا، فيليكس.”
خرجت بخفة، وبقي هو يراقب الباب المغلق… ثم أسند رأسه إلى راحته، وابتسامة رقيقة مرت على شفتيه.
“من دواعِ سروري.”
ـــــــــــــــــ
في اليوم التالي، ارتدى فيليكس قميصًا أبيض فضفاضًا وسروالًا أسود، وحمل معه دفتر الرسم وقلمًا وبعض الألوان.
أما ماريان فارتدت فستانًا ربيعيًا بلون أصفر هادئ يتحرك مع كل خطوة، بأكمام قصيرة تعقدها شريطان رقيقان. انتعلت حذاءً أبيض، قبعتها البيضاء تظلل عينيها، وشريطتها الصفراء تتمايل بخفة مع شعرها المنسدل. بين يديها سلةٌ أعدّتها روكسانا بعناية، لكن الحماسة في خطواتها كانت أوضح من أي تفاصيل أخرى.
خرجت ماريان بخفّة، فوجدت فيليكس ينتظرها عند الباب. اقتربت منه مبتسمة.
“يمكننا الذهاب.”
ابتسم فيليكس بدوره، وتناول سلة الطعام من يدها، ثم ألقى عليهما سحر التنكّر.
“سأزيله عندما نبتعد عن الناس.”
بادلتْه ماريان ابتسامة صغيرة، ثم نظرت إلى مظهره الجديد. كان يبدو… مختلفًا.
شعر برتقالي مجعد، عيون بنية، وقليل من النمش على الوجنتين. نسخة لا تشبه فيليكس من قريب أو بعيد، بالكاد استطاعت كتم ضحكتها.
“تبدو غريبًا.”
رفع حاجبه ساخرًا، وابتسم.
“سأعتبر هذه مجاملة. شكرًا.”
لكن حين وقعت عيناه عليها، توقّف قليلًا. نسخة جميلة، ربما أكثر مما تعمد: شعر أحمر قصير، عينان زرقاوان صافيتان. ومع ذلك… لم يستطع تجاهل الحقيقة التي عرفها فورًا:
مهما حاول، لا شيء يصنعه سحره يقترب من جمالها الحقيقي. جمال عينيها الخضراوين… حين تكون هي، ماريان.
قال بصوت منخفض حمل شيئًا لم يدركه هو نفسه.
“تبدين… جيّدة.”
ثم هزّ رأسه، كمن يطرد فكرة غير مناسبة.
“علينا الذهاب.”
ابتسمت ماريان بخفة، وتبعته بخطوات هادئة، ربما لم تلاحظ ماريان لكن الفرسان فعلوا… كان فيليكس يسير ببطء ليجاريها.
ـــــــــــــــــ
حين وصلَا إلى أعلى التل، أبطل فيليكس السحر فعادت ملامحهما كما يعرفها كلٌّ منهما.
جلسا تحت شجرة عتيقة تتربع على القمة، بدت أغصانها كما لو كانت تلامس السحاب.
قالت ماريان وهي تفتح السلة.
“روكسانا والطباخ أعدّا ما فيها… يجب عليك أن تتناول شيئًا ما.”
أمسك فيليكس شطيرة وتذوقها، كانت جيدة، خفيفة، مثلها. نظر إليها وقال.
“أتحبين هذا؟”
أومأت بلطف.
“أجل… الطاهي قال إنك لن تمانع أي شيء نعدّه. لكن… هذه”
وأشارت بخجل بسيط إلى بسكويت الزنجبيل،
“خبزتها بالأمس. ظننت أنك أحببتها، لذلك صنعت المزيد.”
ارتسمت ابتسامة صغيرة على شفتيه. كان الطاهي محقًا، لم يكن ليمانع أي شيءٍ يعدونه، لم يكن يحب أو يكره شيئًا بعينه، حتى تلك اللحظة. أمسك قطعة البسكويت وقال.
“حسنًا… شكرًا لكِ. أحب بسكويت الزنجبيل.”
ازدهر السرور على ملامحها.
“كنت أعلم! تناولت الكثير منه بالأمس.”
ضحك فيليكس ضحكة قصيرة، ثم تناول أخرى في صمت.
جلسا للحظات لا يقولان شيئًا. كانت الريح تحرك أوراق الشجرة، وكان الصمت بينهما دافئًا. حتى قالت ماريان.
“أتدري؟ أريد الركض قليلًا… وماذا عنك؟”
قال فيليكس بهدوء.
“كنت سأحب ذلك… لولا أني أتدرب مع الفرسان يوميًا. يمكنك الركض. كما أني أحضرت دفتر الرسم… سأرسم شيئًا.”
ابتسمت ماريان.
“حسنًا… متأكدة أنه سيكون رائعًا.”
وقفت ونظفت فستانها، ثم ابتعدت خطوات قليلة.
نظر إليها فيليكس للحظة قبل أن ينحني لدفتره… حاول أن يرسم شيئًا من المشهد حوله، لكنه لم يحب أي خط رسمه. كان المكان جميلًا، لكن شيئًا ما لم يتحرك في قلبه.
ورفع عينيه نحوها مرة أخرى.
كانت تقف في مواجهة الرياح، يموج شعرها مع الهواء، تمسك قبعتها كي لا تطير، وتضحك… ضحكة خفيفة جعلت الشمس تلمع في عينيه، تسارعت دقات قلبة، و قبل أن يدرك ذلك كان قد رسم ماريان.
وعندما أنهى الخطوط الأخيرة، عرف.
عرف ما كانت يجب أن تكون عليه هديتها في عيد ميلادها.
رفَع نظره إليها مجددًا وهو يبتسم. التفتت نحوه وقالت.
“أمتأكد أنك لا تريد الركض معي؟ أستطيع أن أهزمك… أظن.”
ضحك فيليكس وهو يقف.
“أشك في ذلك… أتريدين المحاولة؟”
أومأت، وهي تعلم أنها ستخسر… لكنها أرادت أن تراه سعيدًا، حرًا، ولو للحظة واحدة.
وقف فيليكس بجانبها، وقال.
“هل نبدأ؟”
أومأت مجددًا، ثم انطلقا.
في البداية، لم يفهم فيليكس لماذا تحب الركض، لكنه ما إن ترك الريح تعبث بشعره، وما إن لامس الهواء وجهه بلا قيود، حتى شعر بخفة لم يعرفها من قبل.
لأول مرة، لم يكن يفعل شيئًا لأجل أحد، ليس لأنه دوق، ليس لأنها مسؤولية… بل لأنه هو نفسه أراد ذلك.
أطلق ضحكة قصيرة، لكنها كانت أصدق ضحكة سمعَتها ماريان منه.
ـــــــــــــــــ
عندما عادا إلى الشجرة، جلس كلاهما إلى جذعها العريض، يلهثان قليلًا… لكن الابتسامة لم تفارق شفتيهما. أخفى فيليكس دفتر الرسم الخاص به، ثم حدق بها في صمت قال أكثر مما يستطيع وضعه في الكلمات.
ضحكت ماريان، وهي تحاول التقاط أنفاسها.
“لن أفعل هذا مجددًا… تعبت.”
ابتسم فيليكس بهدوء و قال.
“أخبرتكِ أنها فكرة سيئة…”
رفعت ماريان نظرها نحو السماء، وأشارت إليها بخفة.
“تبدو جميلة… قريبًا سيصبح لونها كعينيك.”
نظر فيليكس إليها أولًا، ثم تبع يدها بنظره نحو الأفق، لكنه لم يقل شيئًا. ربما لأنه شعر أن الكلام في تلك اللحظة سيكون أقل مما يجب.
حلّ صمت هادئ بينهما، صمت يشبه نسيم المغيب حين يمرّ على التل برفق. ومع اقتراب الشمس من الاختفاء، بدأ النعاس يتسلل إلى جفون ماريان، يثقلها شيئًا فشيئًا. مال رأسها نحو فيليكس، قاومت للحظة، ثم استسلمت… ووضعت رأسها على كتفه، ثم غرقت في النوم.
تجمد فيليكس للحظة قصيرة، ثم استرخى. حرّك جسده قليلًا ليمنحها مساحة أرحب، ثم رفع يده ووضعها فوق عينيها، يحجب عنها الضوء الأخير للشمس. نظر إلى دفتره… إلى تلك الرسمة الصغيرة… ثم
إلى السماء التي اشتعلت باللون الأحمر.
كانت ماريان محقة. السماء تشبه عينيه.
أسند رأسه إلى رأسها، وترك أنفاسه تهدأ… قبل أن يتسلل إليه هو الآخر ذلك النعاس الهادئ، فيغرق في النوم قربها.
التعليقات لهذا الفصل " 11"