لدى بوّابة دوقيّة أوتبرن، كان جوزيف وروكسانا ينتظران عودتهما. وما إن توقّفت العربة حتى نزل فيليكس أولًا، ثم أعان ماريان على النزول وهي تمسك بيده. ابتسم جوزيف بانحناءة خفيفة.
“أهلًا بعودتك، سيدي.”
أجابه فيليكس بهدوءه المعتاد.
“مرحبًا، جوزيف… كيف حالكما؟”
ابتسمت روكسانا واقتربت لتعانق ماريان برفق.
“نحن بخير، حضرة الدوق.”
قال فيليكس وهو يلقي نظرة على ماريان التي بالكاد تبقي عينيها مفتوحتين.
“هذا جيّد… ماريان متعبة. اصحبيها إلى غرفتها.”
تمتمت ماريان بنعاس وهي تميل نحو روكسانا قليلًا قليلًا.
“تصبح على خير… فيليكس.”
ارتسمت ابتسامة هادئة على وجهه.
“تصبحين على خير، ماريان.”
وبعد أن ابتعدت برفقة روكسانا، التفت فيليكس إلى جوزيف وقال بصوت خافت.
“أبلغ الخدم أن عيد ميلاد ماريان بعد شهرين. أريدهم أن يبدأوا التحضير منذ الآن.”
في صباح اليوم التالي، طرقت ماريان باب مكتب فيليكس ثم دخلت بهدوء. ابتسمت ما إن رأته خلف مكتبه، محاطًا بأوراقه المعتادة.
“بدأت العمل بالفعل؟”
رفع فيليكس رأسه إليها، وارتسمت ابتسامة خفيفة على شفتيه.
“أجل… ليس لدي ترف التأجيل. وماذا عنكِ؟ ما الذي أتى بكِ في هذا الوقت المبكر؟”
جلست أمامه وقالت بنبرة مترددة قليلًا.
“لا شيء… فقط أردت شكرك على كل ما فعلته لأجلي.”
أجابها بدون تفكير، وكأنه يخشى أن تعطي الأمر أكبر من حجمه.
“لا حاجة للشكر. فعلت ما كان يجب عليّ فعله.”
ساد لحظة صمت قصيرة، قبل أن ينظر فيليكس من النافذة إلى الحديقة الخارجية ثم يقول.
“ماريان… هل تعجبك الحديقة؟”
رمشت ماريان ثم قالت بارتباك.
“أتعجبني؟ نعم… لكنها ستكون أجمل لو احتوت على مزيد من الزهور. ليس عليك فعل أي شيء بالطبع، إنها مجرد فكرة.”
أومأ فيليكس كان قد اتخذ قرارًا بالفعل، ثم قال.
“جوزيف، ادخل.”
دخل جوزيف بانحناءة خفيفة، فنظر إليه فيليكس وقال بحسم.
“أرى أنه علينا إضافة بعض الزهور إلى الحديقة. اسأل الآنسة ماريان عمّا تفضله، ثم أعطِ التعليمات للخدم لزراعتها.”
أومأ جوزيف ثم التفت إليها بلطف.
“آنسة ماريان، هل يمكن أن ترافقيني قليلًا؟”
ابتسمت ماريان.
“بالطبع.”
وقبل أن تغادر، التفتت إلى فيليكس، وابتسامتها هذه المرّة حملت شيئًا أكثر دفئًا.
“شكرًا لك… فيليكس.”
راقبها وهي تغادر برفقة جوزيف. لم يدرِ سبب ذلك اللمعان الغريب في عينيه، إحساسٌ عابر أربكه لحظة. هزّ رأسه وكأنه يطرد شيئًا لم يحن وقت الاعتراف به بعد، ثم أعاد انتباهه إلى أوراقه.
ـــــــــــــــــ
مع اقتراب الليل، وضع فيليكس الأوراق جانبًا على المكتب، ثم أسند رأسه إلى ظهر كرسيه وأطلق تنهيدة طويلة أثقلها الإرهاق. نهض أخيرًا، وخرج من المكتب متجهًا نحو غرفته بخطوات ثقيلة.
ما إن استلقى على السرير حتى رفع يده ليفرك جبينه، محاولًا تبديد الصداع الذي يضغط على رأسه.
ولكن… طرقات خفيفة على الباب قطعته عن أفكاره.
“تفضل…”
قال بصوت متعب.
فُتح الباب قليلًا، وظهرت ماريان وهي تطل برأسها بابتسامة صغيرة.
“مرحبًا، فيليكس… أأنت متعب؟”
كان على وشك أن يقول: “أنا بخير.” عادته القديمة في إخفاء كل شيء.
لكن عندما التقت عيناه بعينيها، شعر أن الكذبة لن تمرّ. اكتفى بإيماءة بسيطة.
“أجل… أنا متعب.”
ابتسمت ماريان برفق، بنعومة جعلته يشعر بأن المكان أمسى أكثر إشراقًا
“ظننت ذلك… لذا أعددت لك بعض الحلوى.”
رفع حاجبه، مستغربًا.
“حقًا؟ لم أكن أعلم أنكِ تخبزين…”
ضحكت ضحكة صغيرة.
“لا أفعل هذا كثيرًا، لكنني أجيده.”
اقتربت وقدّمت له الطبق، فمدّ يده وأخذ إحدى لفائف القرفة. فيليكس لم يكن يهتم بالطعام يومًا؛ كان يأكل ليعيش، لا ليستمتع.
لكن ما إن تذوّق أول لقمة… حتى شعر بشيء دافئ ينتشر في صدره وأطرافه، و قد تذكّر فجأة معنى كلمة الراحة.
لم يعرف إن كان السبب هو الحلوى… أم من صنعها.
نظر إليها للحظة طويلة قبل أن يتمتم.
“شكرًا لكِ… إنه… لذيذ.”
مدّت ماريان يدها نحوه، كأنها ستربّت على شعره، لكنها توقفت فجأة، و أعادت يدها إلى حجرها بسرعة، ثم وقفت.
“لا داعي لشكري… سأذهب للنوم الآن. تصبح على خير…”
تابع فيليكس يدها التي لم تلمسه، وفي عينيه شيء يقترب من الشوق. ثم قال.
“أجل… تصبحين على خير.”
فتحت ماريان الباب، وقبل أن تغلقه توقفت والتفتت نحوه.
“بالمناسبة… أنا أساعد الخدم في زراعة الحديقة. سيكون لطيفًا لو زرعت أنت أيضًا شيئًا يعجبك.”
تجمّد فيليكس لوهلة. فكرة أن… يزرع؟ شعور غريب، محرج قليلًا.
لكنّ حماسها كان واضحًا، لم يستطع أن يرفضها.
احمرّ خداه قليلًا، وبلل شفتيه قبل أن يقول بصوت منخفض.
“حسنًا… سآتي.”
أضاءت ابتسامتها الباب للحظة، ثم أغلقتْه خلفها.
عاد فيليكس ليستلقي، يحدق في السقف، محاولًا عبثًا طرد ذلك الإحساس الغريب… ذلك الذي يستقر في صدره ولا يريد المغادرة.
في صباح اليوم التالي، استيقظت ماريان على غير عادتها وقد امتلأ صدرها بالحماس. نهضت من سريرها بخفة، ارتدت أول ما وقع تحت يدها من ثياب، وسرّحت شعرها على عجل قبل أن تنطلق مسرعة نحو غرفة فيليكس. طرقت الباب طرقًا لطيفًا، فجاءها صوته من الداخل، منخفضًا ونعسًا.
“لا تدخل… أريد النوم…”
ابتسمت ماريان، وهي تتوقع ذلك تمامًا، ثم دفعت الباب بهدوء. كان فيليكس مستلقيًا بين الأغطية، رأسه مدفونًا تحت وسادة، وكأنه يلجأ إليها من ضوء النهار نفسه. قالت.
“لقد وعدت بأن تزرع معنا اليوم…”
همهم دون أن يرفع رأسه.
“لكنني أريد النوم… ألا يمكنني المجيء بعد قليل؟”
وضعت ماريان يديها على خصرها بنبرة معاتبة:
“هيا… لا تحتاج حتى إلى الاستعداد! فقط اخرج من السرير وتعال… أرجوك؟”
تلك ال”أرجوك” أسقطت آخر دفاعات فيليكس. تنهد بعمق، ثم رفع الوسادة واستسلم. جلس ببطء، وكان يبدو… مختلفًا. فوضويًا على نحوٍ جعل ماريان تكتم ضحكة. شعره مبعثر، عيناه نصف مغلقتين، وقميصه غير مكوي وقد أغلق أزراره بشكل خاطئ تمامًا. لم تره ماريان هكذا من قبل؛ دومًا كان أنيقًا، صارمًا، متماسكًا… لكن في تلك اللحظة بدا إنسانًا أكثر، وهادئًا على نحو غريب.
وقف وهو يقول بصوت مبحوح.
“أحقًا لا يجب عليّ الاستعداد؟”
ضحكت ماريان بخفة.
“ربما فقط… أعد إغلاق أزرار القميص. أراك في الحديقة!”
وغادرت بالحماس نفسه الذي دخلت به. ظل فيليكس ينظر إلى الباب المغلق مبتسمًا، شيء ما دافئ ومريح أخذ يخيّم فوق صدره. لم يرها سعيدة بهذا الشكل من قبل… وذلك جعله سعيدًا بدوره. فهذا يعني أنها باتت تشعر أن هذا المكان… بيت لها.
تنهد، ثم فك الأزرار الفوضوية وأعاد ارتداء القميص كما يجب، قبل أن يتوجه إلى الحديقة.
كانت الحديقة تضج بالحركة. الخدم، وبعض الفرسان الذين أصرّوا على المشاركة، يجلسون في صفوف متفرقة يحرثون الأرض ويزرعون البذور. كانت الشمس تميل إلى الدفء، والنسيم يمرّ بخفة محركًا خصل شعر ماريان.
جلس فيليكس القرفصاء بجانبها، وقال بابتسامة لطيفة.
“حسنًا… ما الذي يجب عليّ فعله، آنستي؟”
رفعت ماريان حاجبًا.
“آنستي؟ حقًا؟ على أية حال، انظر… تحفر حفرة صغيرة في التربة، تضع البذور، تغطيها… تسقيها. أحيانًا تضيف السماد للماء. الأمر بسيط.”
تنهد فيليكس، ثم بدأ العمل كما أرشدته. حفرة صغيرة، بعض البذور، قبضة تراب، ثم ماء.
ومع مرور الساعات، بينما كانت الضحكات الخفيفة تتناثر حولهما، أدرك فيليكس شيئًا لم يلاحظه من قبل… الأمر لم يكن سيئًا. لم يكن مملاً كما توقع. بل كان… مريحًا. لطيفًا.
ربما لأن ماريان كانت موجودة.
وربما، فقط ربما، لم يكن هناك أي شيء سيء في وجودها مطلقًا.
في القصر الإمبراطوري، كان يوجين وليوناردو جالسين أمام رقعة شطرنج تتوسط الطاولة الرخامية. رفع ليوناردو فارسَه وهو يفكّر، ثم قال.
“ما الهدية التي أحضرتها لماريان؟”
أجاب يوجين ببساطة.
“لن أخبرك.”
ضحك ليوناردو ضحكة قصيرة.
“ولما لا؟ أحتاج فقط لمعرفة ما الذي يجب عليّ إحضاره… لا أعرف عنها الكثير بعد، لكنني لن أذهب بلا هدية.”
ابتسم يوجين ابتسامة جانبية.
“سيعجبها أي شيء تحضره…”
حرّك ليوناردو قطعتَه بتنهيدة.
“هذا لا يساعد.”
أجاب يوجين وهو يدفع القلعة بخفة.
“لم أقل إنه سيساعد. فلنتحدث عن شيء آخر… كيف تشعر مؤخرًا؟”
رفع ليوناردو رأسه.
“لماذا تسأل؟ أنا بخير.”
تنفس يوجين بعمق، كان يعرف الإجابة مسبقًا.
“أسأل لأن والدتك عائدة من مملكتها… وأنت لا تكون بخير أبدًا بوجودها.”
تجمّدت يد ليوناردو فوق الحصان. عند ذكر والدته*، لم يكن هناك ذكرى واحدة دافئة تتعلق بها.
قبل خمسة عشر عامًا…
كان ليوناردو ابن السبع سنوات واقفًا في الحديقة، ينظر إلى والدته وأخته إيلاني وهما تحتسيان الشاي وتضحكان. اقترب بخطوات مترددة، ثم قال بصوت يحمل به أملاً صغيرًا.
“أمي… هل يمكنني الانضمام إليكما؟”
اختفت ابتسامتها فورًا، واشتدّت ملامحها.
“لا. لا يمكنك. أختك فتاة… هذه أمور خاصة بها. أما أنت… فعليك أن تدرس لتظل وريث المملكة. أتريد أن يأخذ ابن تلك العاهرة منصبك؟!”
ارتعش صوت ليوناردو.
“ولكن يا أمي—”
قاطعته وهي تمسك ذراعيه بقسوة.
“لا ولكن! أنت فاشل بما يكفي. اذهب للدراسة. حالًا!”
امتلأت عيناه دموعًا وهو يركض بعيدًا، يهرب من نظراتها، من نظرات عدم الفهم التي انتشرت على وجه إيلاني، من الأحساس الساحق بداخله… من الرفض.
دخل غرفته، سقط على الأرض، وبكى وحده. لماذا لا تحبه كما تحب أخته؟ ربما لأنه فاشل كما تقول… أو ربما… لأنه لا يحاول بما فيه الكفاية. جلس بعد دقائق يفتح كتبه من جديد، محاولاً أن يصبح “جيدًا بما يكفي” لعلها تبتسم له يومًا.
في الغرفة مع يوجين.
استيقظ من غفلته حين قال يوجين بنبرة منخفضة.
“ليو…؟”
هزّ ليوناردو رأسه.
“أنا بخير. لا تقلق. كيف حالك مع الفرسان؟”
راقبه يوجين لحظات قبل أن يجيب.
“المتدربون الجدد جيدون هذا العام… سيكونون بخير. لكن الكثير منهم جاءوا من طرف أخيك. أمرتُ الفرسان الأقدم بمراقبتهم.”
أومأ ليوناردو ببطء.
“بالطبع فعل… لا أعلم ما الذي يخطط له هذه المرة.”
ابتسم يوجين ابتسامة ثابتة.
“سنكون بخير. أنت قائد جيد يا ليوناردو.”
ضحك ليوناردو بخفة.
“أنت تقول هذا لأنك صديقي فقط، أيها المحتال.”
أجابه يوجين.
“ربما… ما المشكلة؟ جرعة ثقة بين الحين والآخر لن تضر.”
وقبل أن يتحرك أحدهما، اندفعت إيلاني إلى الغرفة بابتسامة مشرقة.
“لقد عادت أمي!”
تصلّب جسد ليوناردو فورًا، لكن ابتسامته لأجل أخته ظهرت بلا تردد.
“أنا قادم.”
ثم التفت إلى يوجين.
“عليك الذهاب أنت أيضًا.”
نهض يوجين، وضع يده على كتفه بثقة، ثم
غادر. خرجت إيلاني، ولحق بها ليوناردو، تاركًا رقعة الشطرنج خلفه.
وعند النظرة الأخيرة على اللوح… كانت النتيجة واضحة.
ليوناردو كان المنتصر.
*والدة ليوناردو، غلوريا أورڤين. هي أميرة لمملكة مجاورة للامبراطورية و كانوا على حرب معهم، تزوجت الامبراطور دانيال أورڤين للحفاظ على السلام بين الطرفين.
التعليقات لهذا الفصل " 10"