تردد الصوت كنبض الريح فوق حقل الفراولة، يصخب في الأفق:
“يا سيدي… لا، يا معلمي! معلمي!”
اندفع شاب يركض بجنون، ذراعاه تتأرجحان كأغصان تتقاذفها الرياح، يتبعه آخر بخطى أهدأ.
كلاهما كانا من أولئك العمال المتواضعين الذين حضروا صباحًا بوجه باسم وأيدي صلبة.
توقف الأول لاهثًا أمام البساط، طأطأ جسده كمن أنهكته الأيام، فيما اقترب الآخر بخطوات سريعة من الشاب الجالس هناك…
ذاك الشاب الذي منح الكلاب المضطهدة قطعة من العطف ذات يوم.
همسات متسارعة عبرت بين الشفاه، كأن الرياح تتناقل سرًا عتيقًا.
عينا آني اتسعتا بريبة…
‘ما الذي يدور في الخفاء؟’
وفجأة… انتفض الشاب كمن لسعته جمرة، قام متأهبًا، وقال أحدهما بصوت جاد يخترق السكون:
“المعذرة… حدث أمر عاجل… لا بد أن نغادر حالًا.”
تراجعت آني خطوة، كأن شيئًا في قلبها تهدج، كادت أن تسأل… لكنها ابتلعت السؤال.
كانت تعرف أن كرامة البشر أسمى من فضول العابرين.
وقفت، مدت يدها إليه، صافحها… كفه كان كبيرًا، دافئًا، يرتعش خجلًا.
ابتسمت بحنان وهمست بصوت خفيض:
“لقد أتممت عملك بصدق… عد سالمًا، أيها النبيل الصامت.”
لم ينبس ببنت شفة… فقط رحل… كطيف يعبر الحقول دون أثر.
أرادت أن تمد له كيسًا من الفضة… لكنه انحنى بأدب ورفض، ثم اختفى مع رفاقه وسط همسات الريح وعبير الفراولة.
بقيت آني صامتة… تحدق في فراغ المسافة، كأن شيئًا ما انتُزع منها للتو.
حين عادت كارلا، تراقصت عيناها تبحثان عن أثره، لكنها لم تجد سوى سكون وثمار ناضجة ورفيقة مخلصة تدعى لانغ.
سألتها آني بهدوء ممزوج باليقين:
“كارلا… أنتِ مدينة له باعتذار… لقد قسوتِ عليه دون ذنب.”
لم تجادلها كارلا، فقط أومأت بخجل.
ثم، على طول الطريق، لم تتوقف تساؤلاتها، تهمس:
“أكان مالك الحقل؟ أم رجلًا من السلالة العريقة؟ أم…”
لكن آني أجابتها بابتسامة عذبة:
“أحيانًا… لا نحتاج أن نعرف كل شيء… يكفي أن نلمس النقاء حين يُطل علينا.”
وفي ركن العربة… كانت كارلا تخفي ابتسامة ماكرة، دونت في مفكرتها بخط أنيق:
‘النبلاء لا يحتاجون لألقاب… أحيانًا يأتون خجولين… وسط الفراولة.’
وصلتا إلى بوابة المزرعة، حيث كان الفلاح العجوز ينتظرهما، يمسح جبينه بقطعة قماش بيضاء، والعرق يتلألأ على جبينه تحت شمس تموز الحارقة.
ابتسم الرجل، صوته يحمل نبرة رضا وتعب الأيام:
“هل استمتعتي بزيارتك يا سيدتي؟”
أجابت آني بهدوء يشبه نسمة صيف لطيفة:
“لقد كانت تجربة ممتعة… ولكن، أولئك الفتيان… أولئك الذين غادروا فجأة…”
تلعثم العجوز للحظة، ثم انحنى يعتذر:
“أجل، لقد سمعت… عذرًا… عذرًا شديدًا…”
أدركت آني في قلبها أن هناك قصة لم تُروَ، لكنها لم تُلح.
اكتفت بالنظر إلى الحقول التي خلت من حضورهم، والثمار التي ما تزال تتدلى كدمعة ناضجة على شفاه الأرض.
عندما حاولت أن تدفع الأجر المتفق عليه، لوّح الفلاح بيده، رافضًا برقة:
“لا داعي… لا داعي… لقد حصلتِ على أكثر من ثمار الحقل… حصلتِ على ذكرى.”
ركبت آني العربة، فتحت النافذة، والريح تداعب خصلات شعرها:
“سيدي… من كان ذاك الشاب؟ ذاك الطويل… المُتحفظ؟”
تردد العجوز، ثم همس كمن يخشى أن تفضحه الريح:
“ليس من نسل النبلاء… ولا من أهل المال أو التجارة… فقط… شخص غريب… جاء، وعمل، ورحل.”
أرادت كارلا أن تسترسل بالأسئلة، لكن آني رفعت كفها بلطف قاطع:
“يكفي يا كارلا… لا شيء أكثر نبالة من أن يترك الإنسان أثره دون أن يُعلن اسمه.”
على طول الطريق، ظل قلب آني مثقلًا بشيءٍ لا تعرف اسمه… شفقة؟ امتنان؟ أم شيءٌ أبعد من كل ذلك… شيءٌ يشبه الحنين إلى النقاء الأول؟
وفي الزاوية الأخرى من العربة… دون أن تراها آني… فتحت كارلا دفتراً صغيرًا، كتبت فيه بخط أنيق:
«ذاك الشاب… لا يعبأ بالألقاب… لكن العيون لا تخطئ البريق… من لمسته يد آنسة نبيلة، قد يعود… وقد يكون قلبه هو المكافأة الأثمن.»
التعليقات لهذا الفصل " 52"