“أم تودّ أن ترافقني لاحقًا؟”
شهقة قصيرة حُبست بين أضلاع الفتى، واهتز صدره بانقباض غريب، كأن الهواء بات ثقيلاً لا يُحتمل.
اقتربت منه آني بهدوء، كنسمةٍ خريفية تُلامس صفحة بحيرة، وربّتت براحة يدها على ظهره المرتجف.
ارتجف الشاب، جسده يفضح ضعفًا قاسيًا، كأن لمسة واحدة كفيلة بتمزيق جراح قديمة لم تُخيط بعد.
‘آه… كم قاسَتك الأيام يا مسكين حتى بتَّ تهتزُّ من دفء لمسة؟’
ابتلعت آني تنهيدة مُثقلة، تحاول أن تمنحه القليل من السكينة وسط عواصفه الداخليه، ثم همست بصوت تكسوه السكينة:
“الحياة يا صديقي، موجة تتلاطم بين الحلو والمرّ… فكلما تعثرتَ بألم، كان خلفه فرح يتسلل إليك على استحياء.”
رفعت كفها بلطف، تربت على ظهره كمن يحاول انتشاله من قاع حزنه.
“هل أنت بخير؟”
ردّ بصوتٍ خافت، كأنه يلهث على حافة الانهيار:
“ن-نعم… نعم…”
لكن عيني آني قرأتا ما لم تنطق به الشفاه، فالحزنُ كان يعشش خلف أهدابه، ينهش في روحه بتؤدة.
قبل أن تهمّ بفعل شيء، اقترب شاب آخر يحمل سلةً متخمةً بحبات الفراولة، وضعها عند قدميها بابتسامة باهتة وصوت يخالطه الحرج:
“أتمنى أن تقضي وقتًا سعيدًا.”
رفعت آني رأسها، لتُفاجأ بمشهد سلال الفراولة التي تحيط بها بهدوء على هيئة قلبٍ مكتمل…
كأنهم قد رسموا دائرة من الحلوى الحمراء حولها.
تجمدت نظراتها للحظة…
“ما هذا بحق…؟”
لكن الشاب انسحب بخفة كظلٍّ تلاشى مع الريح، تاركًا قلب الفراولة ينزف حيرة في عينيها.
‘أمرٌ ما هنا… ليس على ما يُرام.’
لم يمهلها تفكيرها طويلًا، إذ علا من بعيد صوت كارلا، يشقّ السكون:
“الحلوى! لقد أحضرت الحلوى!”
نزعت آني قفازاتها بأصابع مرتجفة، نفضت كفّيها برفق، فيما ظلّ الشاب جاثيًا في مكانه، يرفض النهوض كمن سُلبت منه القدرة على النهوض.
مدّت آني يدها إليه، همست كمن يُواسي قلبًا عليلًا:
“امسك بيدي.”
رفع يده بتردّد، خلع قفازه، مسح كفّيه برفق بمنديل أبيض وكأنه يُطهّر يديه من أدران الماضي… ثم أمسك يد آني أخيرًا.
كانت كفّه دافئة، كبيرة، تحوي قسوة العيش وعلامات الكدح…
لم يكن شابًا بسيطًا كما ظنّت، بل يحمل في كفّه حكاية محاربٍ هدّه التعب.
رفعت آني رأسها إليه بفضول…
‘أين رأيت هذا الوقوف من قبل؟’
لكن صوت كارلا شتت أفكارها:
“آنستي! تعالوا! جميعكم!”
ابتسمت آني بخفة، همست للشاب:
“هيا… فلنذهب.”
جلس الجميع على حصيرة سوداء تحت ظلال الأشجار، وها هو الشاب يجلس إلى جوارها، متصلب الجسد، أذناه تشتعلان كجمرتين تحت قبعة قشّ.
رمقتهم آني بلطف:
“لا بأس أن نستريح قليلًا ونتذوق بعض الطعام… أليس كذلك؟”
“بالتأكيد.” ردّ أحد الشبان.
رمشت آني في دهشة…
‘هذا الصوت… أعرفه من مكانٍ ما…’
لكن السعال العنيف قاطعها، فتجاهلته وجلست إلى جوار كارلا، تُراقب الأخيرة وهي تفتح سلّتها العامرة بالمأكولات.
“تفضلوا وانظروا!” قالت كارلا بفخر.
خبز طري تفوح منه رائحة الزبدة الطازجة، محشو بكريمة الجبن ولحمٍ مقدد وخضارٍ مقرمش… مشهدٌ يكفي لإسالة اللعاب.
لكن ما لفت انتباه آني أكثر، هو نظرات الشاب الطويل… عيناه لم تفارقا وجهها للحظة.
‘لماذا يحدق بي هكذا…؟’
أدارت وجهها بلطف، وزّعت الطعام بينهم، لكن الغريب أن أحدًا لم يتذوق لقمة واحدة.
رفعت حاجبها بتعجب:
“لِم لا تنزعون أقنعتكم وتتذوقون؟”
أجاب أحدهم بتوتر:
“لا… نشكرك يا آنسة… لا بأس…”
تبادل الثلاثة نظرات غريبة، ثم انسحب اثنان منهم بهدوء إلى ظلٍّ أبعد، بينما بقي الطويل مُثقلًا بالحيرة.
همست كارلا في أذن آني:
“أراهن أنه زعيمهم…”
ابتسمت آني ابتسامة باهتة لكنها لم تجادلها…
‘قد يكون… لكنه لا يبدو شريرًا…’
ولكن حين التقطت كارلا سلة الفراولة ذات القلب المرسوم، علت شفتيها ابتسامة ماكرة:
“آآه… على شكل قلب… يا آنستي، أهو إعلان حب خفي؟”
تجمد الشاب في مكانه، احمرّت أذناه أكثر، في حين حدّقت كارلا فيه بازدراء.
‘تُفكر أن تسرق قلب سيدتي…؟ لن أسمح بذلك!’
التعليقات لهذا الفصل " 50"