كان الجميع في تلك المزرعة الصغيرة غارقًا في ارتباك مُطبق، سوى اثنين فقط… المساعدين المخلصين للإمبراطور.
لا سيما فيز، الذي تأججت عيناه بنيران متقدة كأنها ألسنة لهب مشتعلة في عتمة الليل.
‘جلالتنا العظيمة… قد نزل بنفسه ليطأ الأرض التي يتنفس فيها البسطاء… ليشاركهم نَبض الحياة!’
ها قد أتى اليوم الذي سينسج فيه المجد خيوطه… جلالته، واقف وسط الحقول، بين التراب والثمر!
رفع فيز يديه نحو السماء، صائحًا بحماسة لا تُقاوم:
“أنا أيضًا… سأُشارك!”
“… وأنا كذلك.”
لم يكن دوهير غافلًا عما قد يحدث لو تُرك فيز على هواه، فقرر أن يُضحّي بسكينته مقابل ضمان أن لا ينقلب هذا اليوم إلى مهزلة.
لا بأس… حتى وإن كان الأمر يزعجه، فهذه مسؤوليات لا يمكن التنصل منها.
أومأ إيجيد بخفة، وقَبِل بعفوية مشاركة مساعديه الأوفياء، ثم جالت عيناه الحمراوان بهدوء على الحقل الممتد أمامه، حيث تتلألأ حبات الفراولة تحت أشعة الشمس.
مزرعة تنبض بالحياة، بُنيت لتمنح الزائر تجربة خالدة؛ القادمين إليها يرافقهم مساعدون، يتذوقون طعم العمل البسيط، ويحملون معهم ثمار جهدهم.
ولهذا… لهذا اختارت آني هذا المكان تحديدًا… أرادت أن تخط في دفاتر رحلاتها كيف للقلوب البسيطة أن تنسج لحظات من الفرح في أحضان الطبيعة.
والآن… حين أصبحت له فرصة أن يكون “عامل فراولة” ليومٍ واحد… عقد العزم في صمت… سيقطف لها الفراولة بيديه… وسيحرس ابتسامتها من شوائب العالم…
اتجه إلى العامل، وصوته ينضح وقارًا وسكينة:
“أين قفازات الذراع… وأين القبعات؟”
حينها فقط فهم العامل مقصده الحقيقي… ولم يملك إلا أن يهتف من أعماق صدره:
“دع الأمر لي يا جلالتك!”
* * *
على الجانب الآخر… كانت آني قد خطت إلى قلب الحقل، وأخرجت دفترها الصغير وقلمها الحبيب…
‘لنرَ… الوصول سهل التربة رقيقة…’
لكن… ثمة شيء لم يكن على ما يُرام.
لمعان الفراولة تحت الشمس كان يخفي ارتجافة خفية… شعور عميق بالقلق تسرب إلى أعماق قلبها.
‘… ما الخطب هنا؟’
نظرت حولها… حتى اصطدمت عيناها بوجوه الفلاحين، شاحبة متصلبة كأنما جُبلت من جليد… يبتسمون، نعم…
لكن ابتساماتهم كانت خاوية من الروح، مشدودة كخيوط دمية تُحركها أصابع خفية.
تقدمت وسألت، صوتها يحمل قلقًا رقيقًا:
“أنتم… بخير، أليس كذلك؟”
أجاب الفلاح بصوت مرتعش، وكأنه يختنق تحت وطأة توتر خفي:
“ن-نحن في أفضل حال! ها ها ها ها ها!”
“نحن أيضًا! هو هو هو هو!”
شدّت كارلا على طرف ثوب سيدتها، تهمس بصوت خافت:
“آنستي… هذا المكان يُخيفني… أيمكن أن يكون… تجارة للبشر؟”
لم تجب آني، فقط أومأت بخفة… ثم دسّت يدها في جيبها تتحسس كرة السحر الصغيرة التي تصلها بعائلتها.
قطرات العرق الثقيلة تتساقط من جباه الفلاحين… رغم أن حرارة الشمس لم تشتد بعد.
قبل أن تتفاقم مخاوفها… خرج ثلاثة رجال من خلف الحقل، يخطون بخطوات صامتة ثقيلة.
ابتسم الفلاح ابتسامة مرتجفة:
“هؤلاء… أصدقاء كرام… سيكونون لكم اليوم خير معين!”
انحنوا جميعًا في صمت، وحدقت آني إليهم مليًّا… كانوا كأشباحٍ صامتة… لا يظهر منهم سوى أيديهم المُغلّفة وقبعاتهم الضخمة التي تخفي وجوههم تمامًا.
أحدهم كان طويل القامة بشكل لافت، عريض المنكبين، يشبه المقاتلين أكثر من الفلاحين.
تساءلت آني في نفسها… لمَ هذا الحرص الشديد على إخفاء الوجوه؟ أهي قواعد نظافة… أم هناك أسرار مدفونة تحت القبعات؟
صرخت كارلا تخمن:
“أظنهم عُمّال وافدين.”
شعرت آني بانقباض في قلبها… مهاجرون… غرباء… يعملون بعيدًا عن أوطانهم في غربة قاسية.
تقدّم الشاب الطويل نحوها، قُفازاته وقبعته بين يديه… لكن يديه… كانت ترتجف.
‘… أهو عليل؟ أم مدمن كحول في طريقه للتعافي؟’
لكنها أخفت ريبتها، وابتسمت برقة:
“شكرًا جزيلاً لك.”
لم يرد… ربما لا يفهم لغتها… ربما لا يُجيد الحديث بالأصل.
ارتدت قفازاتها… ثم… رأتها بعينيها… لانغ، جروتها العزيزة، تقفز من العربة وتتجه نحو الشاب الطويل بخطى واثقة.
“لانغ! عودي!”
لكن لانغ لم تُبال… اقتربت منه، ذيلها يرفرف بمرح… ومدّ الشاب يده بحذر، يربت على رأسها بخفة…
فتحت آني عينيها بدهشة… ‘لانغ… ماذا تفعلين؟’
هذه الصغيرة لم تكن ودودة مع الغرباء قط… دائمًا ما تحفظ المسافة… لكنها اليوم… تتقرب دون خوف.
هزّت آني رأسها، تُبعد فضولها… اليوم يوم القطف…
ابتسمت لهم جميعًا وقالت بمرح:
“أتمنى أن نحظى بيومٍ جميل معًا.”
رد عليها أحدهم بصوتٍ نقي:
“ونحن أيضًا.”
ارتفع حاجبها بدهشة… ‘إذن… هو يُجيد التحدث بلغتنا؟’
ثم صرخ آخر بحيوية مُبالغ فيها:
“إلى تجربة الفراولة!”
همست كارلا، مُنقبضة القلب:
“آنستي… لعلهم لا يعقلون شيئًا…”
ضحكت آني بخفة، وإن لم تُفلح في تهدئة ارتجاف قلبها:
“لا بأس… فلنرَ ما سيحدث.”
وهكذا… بدأ يومهم في الحقل يومٌ نُسجت أول خيوطه بالغموض وظلت نهاية قصته تنتظر أن تُكتب.
التعليقات لهذا الفصل " 48"