“… لهذا السبب قال لي أن آخذ طعام الجراء.”
“ماذا؟”
“لقد أعطاني بعضًا من طعام الجراء… لا، في الحقيقة، لقد أعطاه للانغ.”
لانغ، الصغيرة المستلقية على الأرض بذقنها المستكين على البلاط البارد، فتحت عينيها ببطء حين سمعت اسمها ينساب من بين الشفاه.
لكن آني بادرتها بهزّة رأس خفيفة وابتسامة دافئة:
“آسفة يا لانغ… لم أكن أناديكِ، يمكنكِ العودة إلى سباتكِ الهانئ.”
ردّت كارلا بغمغمة ماكرة:
“حتى أنتِ، نلتِ طعام الجراء… لا بد أن هذا الرجل طيب القلب حقًا.”
“هممم…”
ارتسمت ابتسامة صغيرة على شفتي آني، دون أن تشعر…
لا تزال الصورة حية في ذهنها؛ صورة الشاب الذي ارتبك فور رؤيتها، حتى كاد يصاب بالحازوقة من شدة ارتباكه.
كان كطفل صغير تم القبض عليه وهو يقترف حماقة بريئة.
عجيب هذا العالم، رغم اتساعه، ما زال يحتفظ بأرواح نقية كهذه…
تمتمت آني مبتسمة وهي تنظر إلى لانغ النائمة:
“حتى لانغ صادقت ذلك الشاب، لا بد أنه رجل يمكن الوثوق به… يشبه جروًا ضخمًا مطيعًا.”
ضحكت آني برقة، بينما ضيّقت كارلا عينيها ببطء. أكان ذلك… نسيمًا ورديًا يهب في الأرجاء؟
سألتها كارلا بصوت خافت، تتلمس شيئًا ما بين السطور:
“سيدتي… هل أعجبكِ ذلك الرجل؟”
“لا.”
قطع آني الخيط الواهي قبل أن يلتف حول قلبها. أجابت دون تردد، وواصلت نشر الغسيل كأن لا شيء تغيّر.
طقطق… طقطق…
تراقصت في الهواء رائحة الصابون النقي، تتسلل من بين ثنيات القماش الأبيض، كندى بارد فوق الورد.
لكنه كان يحمل رائحة أخرى… عطر الورد… عطر كان ينبعث من ذلك الشاب الذي منحها طعام الجراء.
عطر الورود… نعم… حتى ذلك الطاغية…
حتى ذلك الرجل المتجبر كان يفوح منه عبير كثيف من الورد، كأن أحدهم قد أغرق جسده بعطر حدائقه، عطر ينفذ إلى القلب كهمسة دافئة.
‘كفى، لا تفكري بالطاغية.’
ارتجفت آني خلسة، فذلك الطاغية كثيرًا ما تسلل إلى أحلامها… وجهه العابس، قبضته على السيف، ملامحه أشد من كوابيس الموت رهبة.
رأت كارلا سيدتها ترتجف، فمالت برأسها في صمت:
‘ما الذي جال بخاطركِ يا سيدتي؟’
اقتربت منها بخفة وهمست:
“لكن يا سيدتي… لم تُكملي القصة… ما قصة الشاب صاحب طعام الجراء؟”
ابتسمت آني ابتسامة خفيفة:
“المثير… أنه يعرف اسمي.”
أضاءت عينا كارلا ببريق لطيف:
“لابد أنها عيناكِ، سيدتي… جوهرتا دْسِف الثمينتان.”
عينان بنفسجيتان كالأحجار الكريمة… إرث نبيل لم يكن ليخفى على الأعين الخبيرة.
عند كلمات كارلا، ارتسم على وجه آني شيء بين السخرية والدهشة، كأنها تفكر: “لعل هذا السبب…”
لقد اعتاد بعض النبلاء في الحفلات التعرّف عليها من لون عينيها وحده… ربما، ربما ذلك الشاب كان أحدهم.
لكنها لم تكن تتوقع رؤيته مرة أخرى… ومع ذلك، قلبها كان قد التقط شيئًا… اهتمامًا خافتًا لا يمكن إنكاره.
الأهم دومًا… من نحب، لا من نصادف.
“لنعد إلى الديار.”
كان لدى لأنغ رأيها الخاص، فردت بحماس رقيق:
“هووف!”
ضحكت آني وكارلا معًا، ضحكة صافية خفيفة، كنسمة تتراقص فوق سنابل القمح.
* * *
وفي زاوية أخرى من هذا العالم…
“إيجيد!”
لم يكن في إمبراطورية بوركاوس كلها من يجرؤ على مخاطبة الإمبراطور بهذه الألفة سوى شخصٍ واحد… روبي.
لم يرفع الإمبراطور جفنه الثقيل، لكنه فتح شفتيه اليابستين بالكاد:
“… ارحل.”
لكن روبي لم يكن لينصت لتوسلات صامتة.
“سمعت أنك مريض مؤخرًا… أتراك بخير؟”
إيجيد كان يرغب فقط في أن يغيب عن الدنيا… لكن روبي لم يكن ممن يمنحون الناس تلك الرفاهية.
حين تمسك إيجيد بغطائه دون أن يفتح عينيه، زفر روبي باستهجان:
“ما هذا؟ أتظن أن رفيق دربك الأوفى يمكنه أن يُصاب بمرض سخيف كهذا؟”
روبي… الصديق… الأخ… والحامي الأبدي.
جلس إلى جواره، مرر أصابعه خلال شعره الأبيض الذي لم يشيخ رغم مر السنين، ثم فتح عينيه ببطء.
نساء القصر كنّ يحسدن أهدابه الطويلة، لكن الهالات تحتها كانت داكنة، قاتمة… تحمل قلق الليالي الطوال.
لقد أخبره دوهير عن مرضه… لكن الواقع كان أسوأ مما تخيل. وجه أبيض كالرخام، وعروق شاحبة تنبض على سطح جلده كخيوط كئيبة.
سأله روبي بهدوء، تخشى كلماته أن تؤذي أكثر مما تشفي:
“كنت مريضًا قبل سبع أعوام… أهو ذات السبب؟”
أوه… كان الحب… الحب السقيم الذي أكل قلبه ذات ليالٍ ماضية.
الآن، خديه محمرتين، وشفتيه ترتجفان بصوت ضعيف:
“ليس… ليس هذا السبب.”
“أحمق.”
مد روبي كفه القوية، ليلملم خصلات شعره الأسود المتعرق، تمتم في ضيق:
“رأيتك منذ كنت في المهد… وها أنا أراك تكبر في العذاب ذاته.”
لطالما كان روبي شاهِد وحدته… ساكن شقوق روحه.
تمتم فجأة، كأنما يتحدث مع نفسه:
“تلك الفتاة… اخترعت لك سيناريو سخيف…”
“… ماذا؟”
“لا شيء… فقط لا تمرض.”
“هممم…”
“قلت لا ترد عليّ بـ ‘هممم’ فقط!”
لكن إيجيد لم يجب، وروبي تنهد بعمق كأن جدران القصر تتآكل من حوله:
“كيف لي أن أنظر في وجه والديك؟”
همس الإمبراطور ببطء:
“ستعيش أطول منا جميعًا.”
“أجل… سأبقى حتى أرى أطفالك.”
ارتسمت على وجه روبي ابتسامة جانبية، شريرة قليلاً، لا تليق بجمال ملامحه:
“أول شيء سأفعله… أطلب رامين في مقهى الإنترنت… أسهر حتى الصباح… أطلب دجاجًا يوميًا… وأملأ كل وجبة بتوكبوكي حار.”
كانت كلمات غريبة… من عالم آخر… فلم يكن لإيجيد رد سوى شهيق مرهق.
لطالما كان روبي يخبره قصصًا من عوالم مجهولة… لكنها جميعًا تنتهي بجملة واحدة:
“انتظر… سآخذك إلى طريق من الزهور… وهناك، إلى جانبك، ستكون إمبراطورتكِ الجميلة… أنت أعظم كنز لي.”
همس روبي بالكلمات الأخيرة، وكان آخر ما شعر به إيجيد… لمسة باردة على جبينه… ثم غرق في سبات.
وفي تلك الليلة… راوده حلم… حلم تكلّم فيه مع آني بأكثر من عشر كلمات…
ولم تفارق الابتسامة شفتيه حتى طلع الفجر.
التعليقات لهذا الفصل " 46"