كانت أني تحدق بالشاب المجهول الذي جلس بين الجِراء وكأنّه أحدهم، بينما كان جسده العريض يرتجف في كل مرّة تلامسه نظراتها.
‘لا يبدو شخصًا سيئًا كما ظننت… هل جاء للتطوع؟’
ربما، وربما ظنّ حقًا أن “لانغ” جرْوٌ شارد…
وربما، كما تفعل هي أحيانًا، فقد أطلق كلماته دون روية حين شعر بالضغط.
شعرت بذنبٍ خفيفٍ يسري في صدرها، ففتحت شفتيها بلطف:
“أنا—”
“مرحبًا! أنا… إ…”
قطع صوتُه المرتبك كلمتها، كأنه فزعٌ خجل، وكأن الحروف علقت في حلقه فجأة.
غطى فمه بكفه سريعًا، واحمرّ وجهه حتى بلغ لون أذنيه… وساد بينهما صمتٌ ثقيل، كأن الهواء ذاته توقّف عن الحركة.
‘إي؟ ماذا كان سيقول؟ هل يعاني من مشكلة عقلية؟’
نظرت سريعًا إلى يديه، تبحث عن سلاحٍ أو شيءٍ مثيرٍ للريبة… لكنهما كانتا فارغتين.
رغم ذلك، تراجعت خطوتين بحذر. فالزمن صار غريبًا، لا يؤتمن فيه أحد.
نظرت إلى الباب الخلفي، تسجّل في ذهنها طريق الهروب، ثم ردّت التحية بهدوء:
“مرحبًا بك.”
“هيك!”
ارتفع صوته بفُواقٍ مفاجئ… حاول جاهدًا كتمه بكفيه المرتعشتين، لكن الأمر خرج عن السيطرة.
“هيك! هيك!”
حتى يده التي تخفي وجهه، بدا فيها الاحمرار وكأنه اشتعل.
‘هل هو خائفٌ إلى هذا الحد؟ كأنّه طفلٌ مذعور في جسد رجل.’
ازدادت نظرات أني عمقًا، وهي تتمعّن فيه:
‘هل يُعقل… أن يكون مصابًا برهاب البشر؟ هذا يفسر إخفاءه وجهه بالكامل، حتى في طقسٍ كهذا. بل حتى عجزه عن النظر إليّ مباشرة… كل هذا يدلّ على خوفٍ دفين.’
نظرت إليه بحزن، بينما هدأت نوبة الفُواق شيئًا فشيئًا.
كان جسده رغم ارتباكه، جميلاً منضبطًا. كتفاه عريضان، ويداه شفافتا الجلد حتى ظهرت عروقه الزرقاء، وأصابعه طويلة وأنيقة لا تستقر في سكون.
ملابسه بسيطة، لكنها فاخرة النسيج، سوداء بلا زخرف.
‘من أي منزل نَبَتَ هذا الفتى؟’
حتى أذنه المكشوفة تحت القبعة كانت حمراء من الخجل.
سمعت صوت ريقه وهو يبتلعه بصوتٍ مسموع:
“غَغْ”
ضحكت أني بخفة، تحاول أن تُخفف الجو:
“يبدو أن هناك سوء فهم، هذه الجرو ليست ضالة، إنها لانغ… لانغ، هل تلقين عليه التحية؟”
فتحت “لانغ” عينيها بتكاسل، ورمقت الشاب بنظرةٍ باردة، ثم أعادت إغلاق عينيها دون مبالاة.
ضحكت أني، وهي تقول بتودد:
“لم تتجاهلك، لا تقلق… فقط مع تقدمها في العمر، بدأت تفقد سمعها.”
ظلّ الشاب صامتًا، فآثرت أن تصمت هي الأخرى، حتى لا تُربكه أكثر.
في الخلفية، كانت أصوات الجِراء تركض، تصطدم، تلهو… وكأنها تصنع موسيقى خلف صمتهما.
لاحظت أني خيوط العرق تتسلل من أسفل قبعته وقناعه.
“هوهو، هوهوهو…”
زمجرت إحدى الجِراء الصغيرة برقة، فمدّ الشاب ذراعيه، ورفعها بين يديه بحنانٍ فائق، تمرّ أنامله على فروها اللامع بلطفٍ مُدهش.
‘من الواضع أنه يحب الجِراء من كل قلبه.’
ازدادت أذناه احمرارًا، فتجنبت أني النظر مباشرةً له، مراعاةً لخجله.
رمقت تلة المضغ الممتدة على الأرض، كأنها جبلٌ من العطاء:
“بالمناسبة… ما كل هذا؟ لم أرَ طعامًا بهذا الشكل من قبل.”
ارتبك الشاب، واندفع إلى التل، انتقى بأطراف أصابعه أكبر قطعة وأكثرها نظافة، ثم تقدّم نحوها وقال بصوتٍ خافت:
“سأحملها لكِ.”
استغربت عرضه، فهي لا تحتاج لحمل أي شيء، ولا طعام لا يزن شيئًا يُذكر.
“شكرًا، لكن لا داعي.”
رأت أذنيه تنخفضان بخيبة، فتوسعت عيناها:
‘يشبه الجِراء كثيرًا… بخاصة لانغ حين كانت صغيرة.’
ابتسمت، لكنّه أساء فهم ابتسامتها، فهرع لإعادة الطعام إلى مكانه، لكن بينما يعود، تعثّرت قدماه الطويلتان وكاد يسقط.
“أوه، هل أنت بخير؟”
“نـ-نعم!”
قالها سريعًا، بينما يده تمسح العرق عن جبينه. لاحظت آني توتره:
“تبدو متعبًا… هل أحضر لك دواء طوارئ؟”
“لا! أنا بصحة ممتازة!”
كانت كلماته تفتقد الثقة، كأنّه يخشى أن يُقال عنه ضعيف.
وحين سكتت هي، أضاف بسرعة:
“حقًا… حتى في معركة أوتران… أنا…!”
التعليقات