خرج إيجيد من المستودع بخطوات واهنة، وسحب من عباءته لفافةً سحريةً نقشت عليها رموزٌ قديمةٌ لا تُقرأ إلا في الصمت.
وضعها على الأرض بثبات، كمن يؤدي طقسًا مقدسًا.
هــووف…
ارتفع دخان ضبابيٌّ من الدائرة السحرية، يعانق الهواء كأنّه روحٌ خرجت من جسدها، ومعه بدأت كميات هائلة من طعام الجراء تتكوّم كجبال من الرجاء.
تراجع خطوة للوراء، يتأمل المشهد بعينٍ شاحبة، يسعل سعالا جافًا كأن أنفاسه تنهار من الداخل.
البرد قد استوطن عظامه، والحرارة في رأسه بلغت حدًا جعله يظن أن جمجمته على وشك التصدّع.
اتكأ على الجدار الحجريّ بصمتٍ منهك، وعيناه تراقبان الباب الواسع المفتوح…
حيث تدفّقت الجراء كالموج، تتسابق على أرضٍ مغمورة برائحة الطعام الذي يشبه الأمل.
ذيولها ترفرف كرايات نصرٍ لم يُعلَن، وأعينها تمتلئ ببريقٍ لم يذبل بعد.
كان المكان، ببساطة، جنةً مُقامة على أنقاض الخذلان.
مرّر ظهر يده على خده المحموم ومسح عرقه الحارّ، شعر بحكةٍ خفيفة من احتكاك القناع، لكنها لم تكن مزعجة…
بل حقيقية، مثل الحياة.
لقد كان منظرهم وهم يأكلون كافيًا ليُنسيه كل ألمه.
ولم يكن يحب الجراء يومًا.
في طفولته، كاد أن يُقتل على يد وحشٍ اتّخذ هيئة جرو صغير، فغرس فيه الخوفَ من تلك الكائنات التي تُخفي تحت ملامحها البريئة شراسة العالم.
لكن كل شيء تغيّر عندما علم أن آني تربي جروًا.
حينها فقط… بدأ يبحث عن طريقٍ إلى ذلك الكائن، علّه يقترب أكثر من عالمها.
وبمرور الوقت، لم يعد الأمر محاولة. بل تحوّل إلى حبٍّ حقيقي.
وصار إنقاذ الجراء المهجورة رسالته في هذه الحياة.
بل في الآونة الأخيرة، صار يتبرع أيضًا لجمعيات تهتم بالقطط الضالة.
وكلما مضى في هذا الطريق، اكتشف وجهاً آخر للإمبراطورية التي يحكمها.
“كيف يستطيع بشرٌ أن يتخلّوا عن مخلوقات بهذه البراءة؟”
معظم الجراء الذين يلجأون إلى هذا المكان، سبق أن عاشوا في أحضان بشر.
وحين يُتخلّى عنهم، يقضون أيامًا ينوحون، يرفضون الطعام، ينتظرون أصحابهم الذين لن يعودوا.
أما أولئك الذين ذاقوا العنف، فحين يقترب منهم إيجيد، يعضّون يديه وقدميه بخوفٍ مكسور.
لكنه لا يغضب.
كلّ عضة كانت تجرح قلبه أكثر من جلده.
كانت هناك جراء مريضة… جراء طاعنة في العمر… جراء لم تعد “ظريفة” بما يكفي.
تختلف القصص، لكن النهاية واحدة:
“المُلاك كانوا قمامة.”
وضعت القوانين لمعاقبة من يهجرون جراءهم،
لكن بعضهم كان يربطها في الغابات ويهرب…
وكان قلبه يشتعل كلما سمع بذلك.
عيناه الحمراوان توهّجتا كجمرةٍ لم تنطفئ.
وفجأة، قاطعه صوتٌ بريء:
“آه! إنه طعام الجراء!”
“أوه… تبرعت به هذه المرة؟ نشكرك كثيرًا…”
لكن إيجيد تمتم من بين أسنانه، بصوتٍ لم يقصده:
“اقضوا على أولئك…”
تجمّد العاملون في أماكنهم، وتراجعوا.
لم يكن يشعر بما يحدث حوله…
كان غارقًا في لعن أولئك الذين تركوا جراءهم تموت من البرد والجوع.
ثم خفض رأسه…
ليجد جروًا أبيض يتشبّث بساقه، يخدشها بمخالبه الصغيرة، ذيله يتمايل فرحًا.
كأنّه يقول:
“أما زلت تتذكرني؟”
ارتسمت ابتسامةٌ ناعمة خلف القناع:
“جيك…”
* * *
مدّ يده نحوه، لكن فجأة توقّف.
“لا… ليس اليوم.”
خطا خطوةً جانبًا، وتجنّب الجرو.
لكن صوته خرج منه بهدوءٍ دافئ:
“كيف كنت؟”
“هوهو؟! (أين كنت؟!) هوهوهو! (ظننتك مت!) هوهوهوهو! (انتظرتك طويلاً!)”
قفز الجرو نحوه، وكأنه يحتفل بعودة أبٍ غائب.
كان هذا الجرو قد ترك أثرًا غائرًا في يد إيجيد العام الماضي…
جرحًا لا يزال حيًّا.
كان اسمه جيك.
وقد وُجد مربوطًا بسلسلةٍ معدنية حول عنقه، مقيّدًا إلى جذع شجرة،
ينزف ببطء، كأنه يحتضر في صمت.
حاول موظفو الملجأ إنقاذه، لكنهم فشلوا.
فهو كان يعضّ كل من يقترب.
الجميع خاف…
إلا هو.
وحده اقترب…
مدّ يده، ونزع السلسلة، رغم الدم الذي سال من كفه كالنذر.
في تلك اللحظة… لم يكن إمبراطورًا.
بل كان إنسانًا.
التعليقات