رغم المرض الذي نال من جسده وأضعف خطاه، ظل يتحامل على نفسه ليُشرف بنفسه، كل يوم، على أمرٍ لم يكن لأحد أن يفهم قيمته سواه.
لكن جسده المتعب خذله أخيرًا، وها هو يُسرع الآن، شبه متمايل، إلى المستودع المخصص لـ طعام الجراء.
صَرير~
نسي أن يُغلق الباب. لم يكن ذلك من عادته، لكنه ذُهل.
ذلك الكنز الذي راكمه بصمت، وحرص، بدا الآن كمقبرة من عظام ناصعة، ممتدة حتى الجدران.
نسمة باردة مرّت عبر الباب المفتوح، فجمّدت الخدم العابرين في المكان، جعلت وجوههم تتلبّد، وأعينهم تتسع في رعبٍ مكتوم.
داخل المستودع، بدا المشهد ككابوس:
طعام جراء أبيض اللون، مكدّس بأشكال تُشبه العظام الميتة… يبعث في النفس رعشة وغموضًا.
> (ملاحظة: بعض أنواع طعام الجراء تأتي على هيئة عظام مطاطية، مما قد يثير الريبة لدى من يجهل حقيقتها.)
“هـه!”
فرّ الخدم، وعلى وجوههم انطباع واحد:
“لقد أصابه الجنون… أصبح يهوى جمع عظام ضحاياه!”
خلع إيجيد قناعه ببطء، وتنهد تنهيدة ثقيلة، بينما تتلاشى أصوات الأقدام الفزعة في البعيد.
لو كان بوسعه… لأعلن الحقيقة أمام العالم بأسره.
أنه ليس ذلك “الطاغية” الموصوم بالدم والجبروت.
لكنه لا يستطيع.
فـروبي، قد حذّره:
> “من يُفشي سرّ الرسالة… لن يعرف الراحة أبدًا. وسيذوق شعبه العذاب.”
حتى حين كان طفلًا، كان روبي يُلقي على مسامعه كلمات لم يفهمها تمامًا، لكن وقعها ظل يترنّح داخله:
> “لقد رفضني والداك، نعم… لكنني بلّغت الرسالة قبل أن تولد. رغم رفضهم، مضى كل شيء كما قيل لي.”
وفي اليوم الذي تبِع الجنازة، عانقه روبي وبكى في صمت، كما لو كان يودّعه.
منذ ذلك اليوم، تغيّر شيء في داخله.
> “إن كان بإمكاني أن أُضحّي بنفسي ليحيا الجميع في سلام… فسأفعل.”
تلك كانت طبيعته. لا إمبراطور متوّج، بل حارس صامت، يخفي قلبه تحت عباءة من البرود.
السلام لا يُهدى، بل يُحمى…
ولكي يبقى، عليه أن يتبع ما كُتب، بحذافيرها.
هو، وإن كره نفسه.
لكن الآن… نظر إلى الأكوام البيضاء أمامه، وتنهّد بقلق:
“ماذا أفعل بكل هذا؟”
أراد، في لحظة حنين، أن يُرسلها إلى قصر آني…
لكنه بالكاد تحدث معها.
لو بعث هذا الكم من طعام الجراء دون مقدمة، ستظنه مجنونًا، أو مخيفًا.
أغمض عينيه قليلًا، وظلال رموشه الطويلة أسقطت ظلمة على وجنتيه.
“جلالتك! جلالتك!”
استدار، ليجد فيز يلهث، وفمه نصف مفتوح، وعيناه كأنما رأتا شبحًا.
“آآآه! هياكل! الشائعات… صحيحة إذًا!”
“سيدي، هل أُحضر لك نظارتك؟”
قال دوهير، الجندي الهادئ، وهو يرمق فيز بنظرة ساخرة.
في لمحة خاطفة، بدا المشهد وكأنه كومة من العظام البشرية.
“إنه… طعام جراء.”
“هاه؟!”
ارتبك فيز، التقط واحدة من الكومة وتذوّقها كالأطفال.
قَضْم… قَضْم…
نظر إليه دوهير وقال بجفاف قاتل:
“ابصقها. الواحدة منها أغلى من راتبك الشهري.”
“جلالتك… أنا فقط أردت التحقق… لم يكن طعمها لذيذًا!”
رمقهم إيجيد، ثم تنهد مجددًا. كم هو ممتن لوجود أمثالهم حوله، رغم ضجيجهم.
قال أخيرًا، بصوت خافت، لا يقبل الجدل:
“تبرّع بها.”
“… بعظامي؟ أوب!”
أطبق دوهر على فم فيز بكفّه الكبيرة، مُنهيًا المهزلة.
* * *
أسفل سفح الجبل، بُني حديثًا مبنى صغير لا يُشبه ما حوله من العمائر الحجرية.
واجهته الخشبية تلمع كأنها تعكس ضوءًا آخر… ضوءًا داخليًا.
وعلى لافتته الكبيرة كُتب:
“ملجأ بوركوس الغربي للجراء التائهة.”
لقد بُني بفضل تبرّعات إيجيد الخاصة.
فهو لم ينسَ أبدًا الجراء التي تُركت، أو التي مات أصحابها، أو التي لم تجد صدرًا تأوي إليه.
لم يعرف أحد أنه المانح.
ظل يخفي هويته دائمًا، لا يقول شيئًا. يكتفي بالصمت، ويمنح دون أن يُسأل.
لكن حضوره كان كافيًا لزرع الخوف.
كان يرتدي قبعة سوداء، ومعطفًا ثقيلًا، وقناعًا يُشبه قناع القَتَلَة.
وجهه شاحب، وعيناه محتقنتان، كأن الليل كله قد سكن فيهما.
حتى العاملون في الملجأ، الذين اعتادوا الترحاب… التزموا الصمت.
كل من حوله تجنّبه… سوى فيز و دوهير، اللذين اقتربا بخطى حذرة.
تلعثم فيز:
“سيدي… أووه، أقصد… سيّدي العزيز.”
دوهير، الذي كان أكثر حذرًا، قال:
“مع كل الاحترام… القناع مُخيف… آسف.”
لم يُجِب. فقط نظر إليهم نظرة طويلة، وقال بهدوء:
“النظافة.”
“أجل، سيدي!”
“كم أنت حكيم!”
تبادلا الضربات الخفيفة في الهواء، ثم انسحبا، خشية أن يُصيبهم شرّ صمته الثقيل.
وبقي هو… وحده.
عينيه المثقلتين أبت أن تُغلقا، رغم حاجته القصوى للراحة.
لكن لا مجال للراحة…
فما زال هناك وعدٌ لم يُكمل.
وعمل لم ينتهِ.
التعليقات لهذا الفصل " 38"