وفجأة، ومن غير مقدّمات، تنهدت كارلا تنهيدة طويلة، كأنها تطلق أمنية مكبوتة في صدرها:
“ليت الحظ في الرجال يزورني مرةً واحدة فقط… هاااه.”
“… لماذا دومًا يتبدّل الحديث بهذه الطريقة؟”
لكن كارلا تمتمت وكأنها لم تسمع شيئًا، ثم رفعت بصرها نحو السماء من خلال النافذة وقالت، بلهجة حالمة:
“الجو اليوم رائع… لو كنتِ تخرجين إلى الحفلات الاجتماعية لكان هذا الطقس مثاليًا. متى يعود حفل التنكر من جديد؟ آه… كم هو مؤسف أن نُحبس داخل غرفة في مثل هذا اليوم!”
كانت محقّة…
فالطقس كان جميلًا، يدعو إلى التنزه، إلى التنفس، إلى التحرر.
فتحت آني شفتيها أخيرًا، متسائلة كيف سيكون الشعور إن مشت تحت الشمس برفقة كارلا…
“كارلا…”
“أنا قادمة. خذيني معكِ أيضًا!”
“… هل تعلمين إلى أين سنذهب حتى؟”
ففي الواقع، لم يكن في جدول اليوم أي خروج أو نزهة.
والأغرب من ذلك… كيف استطاعت كارلا أن تقرأ أفكارها قبل أن تنطق بها؟
نظرت إليها آني بدهشة صامتة، فما كان من كارلا إلا أن غمزت بعين مرحة وقالت بفخر:
“كارلا هذه، باتت تفهم كل ما يجول في خاطر سيدتي، فقط من نظرة عينيها.”
وفي تلك اللحظة، زحفت لانغ نحو آني بهدوء، فتقدّمت بجسدها إلى ساقي سيدتها، تبحث عن دفئها المعتاد.
راحت آني تمرّر يدها برقة فوق ظهرها، وشعرها اللامع انساب بين أصابعها الرقيقة
ومع ازدياد سرعة ذيلها وهي تهزّه بفرح، سألتها آني برقة:
“أأنتِ أيضًا ترغبين في الذهاب؟”
“هوف!”
“جيّد… سنذهب معًا.”
وفي لحظة، ارتسمت على وجه آني ابتسامة مشرقة كالربيع، فشعرت كارلا بوخزة في قلبها.
آني كانت حنونة.
كانت سيدتها طيبة مع من تحبّ، لكن خجولة، متحفّظة، تنغلق أمام الغرباء.
خاصة من تلتقي بهم لأول مرة… تتعامل معهم بجفاءٍ صامت.
وكأن استمرار العلاقة مع أي منهم يبدو مستحيلًا.
‘لو أن الرجل الذي ستقابله سيدتي كان يحب الجراء…’
فكّرت كارلا بابتسامة دافئة،
‘… أظنّ أن الأمر سيكون مختلفًا.’
من الرائع أن يشترك الأحبّة في الاهتمام بذات المخلوقات الصغيرة.
سألت كارلا فجأة، وهي تمسك بالمكنسة بقبضة حازمة:
“سيدتي، إن كان يحب الجراء… أكنتِ لتفكرين في لقائه؟”
أجابت آني، بنبرة هادئة لكنها حازمة:
“لا يمكنه أن يكون رجلًا عاديًا… سأفكّر بالأمر فقط إن استطاع أن يُؤمّن طعام يالفبي للانغ… مدى الحياة.”
“… فقط قولي إنكِ لا ترغبين بلقائه.”
ضحكت كارلا، لكنها كانت تدرك تمامًا أن طعام يالفبي للجِراء نادرٌ وثمين.
ليس المال ما يُحدّد قيمته…
بل سرعة تلفه، وحساسيته العالية، وصعوبة توفيره.
أيّ رجل في هذا العالم، يحمل قلبًا حنونًا، ومالًا طائلًا، ويهتم حتى بطعام جرو حبيبته؟
من يكون هذا؟ خيال؟ أمنية؟ أسطورة؟
تنهدت كارلا مرة أخرى، ثم خرجت لغسل ممسحتها.
أما آني، فقد ارتجف كتفها من الضحك الخفيف وهي تنظر إلى ظهر كارلا المغادر.
“لا يوجد رجل كهذا في العالم… إنه مجرد وهم. أليس كذلك، لانغ؟”
ابتسمت وهي تمرر يدها مرة أخرى على ظهرها بهدوء.
* * *
“كح! كح!”
في الجهة الأخرى، كان مكتب الإمبراطور يعجّ بصوت السعال والعطاس.
حتى الإمبراطور نفسه، إيجيد، غطّى فمه بقبضته وكتم سعاله المتكرر.
كم مضى من يوم؟ ثلاثة؟ خمسة؟ منذ زيارته لشلالات بوركوس، وهو يعاني من حمى شديدة.
وكان هذا متوقعًا.
ففي ذلك اليوم، صبّ الماء المقدّس على جسده بينما كانت مياه الشلال تتساقط عليه بغزارة.
تبلّل من رأسه حتى قدميه… تمامًا كفأر غارق في الماء.
حاول مساعداه التدخّل للقيام بالمهمة بدلًا منه، لكنه رفض بشدّة.
أراد أن يفعل كل شيء بيديه… من أجل آني.
والنتيجة؟
أُصيب بنزلة برد قوية، وأمر مساعديه بالانسحاب خوفًا من أن ينقل العدوى إليهم.
ومع ذلك، لم يكن ليُهمل شؤون الإمبراطورية.
فحتى في لحظات المرض، كان على رأس مهامه.
وهكذا، مرّت أيّام وهو يعمل في صمت…
يحارب السعال والحُمّى والملفات المتراكمة.
بعد أن انتهى من مهامه اليومية، نزع نظّارته بهدوء، وراح يرتّب الأوراق.
وفي خضمّ تلك الأكوام البيضاء، تذكّر شيئًا…
“هل ستكون آني بخير؟”
ارتسمت ابتسامتها فجأة في مخيّلته…
فارتفعت زاوية شفتيه بابتسامة صغيرة.
أصابتها يومًا ما جرحٌ في إصبعها، لا بد أنه شُفي الآن…
لكن ماذا إن أصابها البرد أيضًا من الشلال؟
كم هو مؤسف أنه لم يستطع تحيّتها، بعد ليلةٍ طويلة قضاها في التمرين وسط الزحام…
لكن الفرصة لا تزال قائمة.
“وبما أن مساعديّ قد عانيا، عليّ أن أعوّضهما.”
نهض من مكانه، وفي لحظة، انفتحت عيناه فجأة…
“آه… طعام الجراء!”
تمتم إيجيد وهو يضغط على لسانه من الغيظ.
تذكّر فجأة كومة طعام الجراء من يالفبي التي كان قد اشتراها مسبقًا من أجل لانغ.
كان يخطّط لطلب يد آني، واشترى الطعام كهدية لجروها الحبيب…
لكنه تسرّع.
ذلك النوع من الطعام ثمين، وسريع التلف… لا يحتمل التخزين طويلًا.
تركه في المستودع كل هذا الوقت؟ كارثة!
التعليقات لهذا الفصل " 37"