وضعت آني وكارلا أيديهما على أذنيهما، محاولةً عزل صوته المزعج.
لكن الرجل لم يصمت.
“آنستي، لو أنكِ جرّبتِه لمرةٍ واحدة، فلن تقاومي الرغبة في العودة إلى هذا الشلال مرارًا! هيا بنا الآن!”
تدفقت كلماته كالسيل، بلغة بائعٍ لا يعرف الصمت، ثم أمسك بيدَي كلٍ من آني وكارلا، وسحبهما معه نحو الشلال.
“ما الذي تفعله؟ دعني وشأني!”
“اترك يدي!”
صرختا في آنٍ واحد، محرَجتين مما يحدث، لكنه بدا كمن صمّت أذناه عن كل صوتٍ سوى صوته.
تجاوز بهم حدود المنطقة المحظورة، ولم يفلح أحدٌ في إيقافهم.
تعالت همسات الحاضرين، تساءلوا عما يحدث، لكن الرجل لم يُبدِ أي تردد.
“ها هو! اغمسا أيديكما هنا!”
ومع شعورٍ أقرب إلى الدفع القسري، وجدت آني وكارلا نفسيهما تغمسان أيديهما في الشلال. لم تتمكن آني حتى من إزالة منديل يدها.
عبسَتا من برودة الماء الصادمة، والتفتت أفكارهما إلى سلوك الرجل الذي بدا فجًّا وعديم الذوق.
لكن فجأة، حدث أمر لم يكن في الحسبان.
أخرجت كارلا يدها من الماء، وحدّقت فيها بذهول قبل أن تقول:
“آنستي… أظن أن يدي قد بُدلت!”
كانت يداها، الخشنتان المُتعبتان من السنين، قد أصبحتا ناعمتين بيضاء كيد فتاة من طبقة النبلاء لم تمسها الأعمال يوماً. توهجت بشرتها بضياء لم تعهده من قبل.
أما آني، فقد أزاحت المنديل عن يدها بهدوء، لتكتشف أن الجرح الذي كان يؤلمها قد شُفي بالكامل.
وشعرت بحرارة تتسلل إلى أطراف جسدها الذي كان يبرد دومًا، وكأن دفء الحياة عاد يسري فيه.
“…ما الذي يحدث هنا؟”
نظرتا إلى بعضهما، والتعجب يرتجف في وجهيهما. وفي تلك اللحظة، صرخ الرجل فجأة، ثم فرّ هاربًا من الشلال، كما لو أنه ارتكب فعلًا لا يُغتفر.
“ماذا؟”
تبادلت آني وكارلا نظرةً فارغة، وكأن الواقع تأخر عن الحضور.
“أه… آنستي، أعتقد… أعني، أظن أن هذا ليس أمرًا سيئًا؟”
“…لا، ليس كذلك.”
“هل أغسل وجهي أيضًا؟”
“لنفعل.”
كيف يمكن لامرأتين في مثل موقفهما أن تفوّتا هذه الفرصة؟!
الرجل نفسه شجّعهما، والمعجزة أمام أعينهما، فلا مجال للتردد.
إن الخطوط الرفيعة، والتجاعيد، والذبول؛ هي أعداء النساء الأزليين، فكيف بمن يمنح يده للماء فتشرق جلده من جديد، أن يُعرض عن غسل وجهه؟
فكت كارلا قبعة آني على عجل، ثم انهمكتا تغسلان وجهيهما بالماء البارد الذي يحمل أثرًا سماويًا.
ومع هذا المشهد، بدأ من حولهم يتجمهرون.
“هل كان لهذا الشلال مثل هذا الأثر؟!”
“أريد أن أجرّب أنا أيضًا!”
“دعوني أُجرب!”
“وأنا كذلك!”
وفي لحظات، أصبح محيط الشلال كتلة من الفوضى.
وفي زاوية من ذلك النهار المضيء، كانت كارلا تمسح زجاج النافذة بقطعة قماش، والضوء الساطع ينعكس على ملامحها.
لم تكن هناك غيوم في السماء، والشمس كانت لاذعة، ومع ذلك، دندنت بلحنٍ خفيف وهي تبتسم.
وفي الداخل، جلست آني على مكتبها، فتحت غطاء الحبر، واستعدت للكتابة بريشتها.
“يا لحسن حظنا!”
قالت كارلا، وعيناها تشعّان كقلوبٍ صغيرة. لقد اختفى الإكزيما من جلدها، وعادت بشرتها كما كانت قبل أن تُنجب طفلها.
“آنستي… لقد نلتِ بركة شلال بوركاوس!”
آني، بطبعها الرصين، رتّبت أوراقها بصمت، وشرعت في عملها دون أن تنشغل بكثرة الكلام.
كانت العلاقة بينهما تزداد عمقًا رغم اختلاف الطبائع، فآني بالصمت تفكّر، وكارلا بالكلمات تعبّر.
وفجأة، توقفت كارلا عن المسح، وراحت تتنهد مجددًا للمرة العاشرة في ذلك اليوم.
“يا لها من معجزة! هل تظهر مرة كل ألف عام مهما فكّرتُ، آنستي لا بد وأنها مباركة من السماء. جميلة، ذكية، لطيفة… ومحظوظة أيضًا!”
بدت كلماتها كمزحة، لكنها كانت تؤمن بنصفها على الأقل.
فالناس قالوا إن تأثير الشفاء قد زال، وإن ما حدث كان لحظة عابرة، أشبه بالأسطورة.
حتى العلماء اعتبروا الماء كالماء المقدس، لا يُستخدم إلا من قِبل العائلة الإمبراطورية.
وتساءلت كارلا، مازحة مع نفسها، لعلّ أحد الأغنياء المجانين قد نثر قطرات ماءٍ مقدس في مجرى الشلال.
لكنها استدركت الفكرة بسخرية، فمن ذا الذي يملك من الجرأة ما يجعله يهدر قطرة من ماء لا يُقدّر بثمن؟!
حتى أغنى رجال الإمبراطورية، كانت أيديهم ترتعش وهم يصبّون قطرة واحدة.
“في جميع الأحوال! كل هذا بفضل آنستي!”
شعرت كارلا كأن الألم الذي ظلّ يطارد معصمها لسنوات قد تلاشى مع مياه الرحلة.
جلدها أصبح مشدودًا ومشرقًا، حتى إن زوجها سألها عمّا فعلت.
وصديقاتها من الخادمات لم يخفين غبطتهن.
وحين كانت كارلا سعيدة حقًا، شعرت آني بالرضا.
فما كانت تفرح به أكثر من تحسّن بشرتها… هو رؤية النور في عيني كارلا.
التعليقات لهذا الفصل " 36"