كان “إيجيد” مُستلقيًا على بطنه، عندَ حافَّة الجُرفِ المُطلِّ على الشلّال، يُراقبُ ما يجري في الأسفل بصمتٍ يُشبهُ صمتَ الغيمِ قبلَ البكاءِ.
حقًّا… قلبُ “آني” نقيٌّ، وجميلٌ أيضًا…
تراءى لهُ أنّ وجودها هبةٌ سماويّة، نزلت من علوٍّ سحيقٍ لتطهّرَ هذا العالمَ المغموسَ في الوحلِ والوحشيّة.
بل ربّما كانت أسمى من “روبي” نفسها… تلك المرأةُ الطاهرةُ، العميقةُ كأعماقِ المحيطِ الهادئ.
كان “إيجيد” يُحدِّقُ فيها بإعجابٍ صافٍ، وشفَتاهُ مفترقتان قليلًا، دون أن يشعرَ بعشبٍ بريٍّ يتسلّلُ إلى فمه، كأنّ الأرضَ ذاتَها تُغازلهُ بلُطفٍ طَفوليّ.
لقد بدا كأنّ روحَهُ قد سُلبت على يدِ امرأةٍ يُضيءُ ابتسامُها العالَمَ أكثرَ من شمسِ الظهيرةِ حين تتجلّى.
كان يُراقبُ “آني” بعينَينِ ناعمتَين، متشبِّثًا بالأرضِ وكأنّها وطنُهُ الوحيد، دون أن يشعرَ به أحدٌ من السيّاح.
وحين ابتعدت قليلًا عن الزحام، رآها فرصةً من ذهبٍ ليقتربَ منها ويهمسَ بتحيّةٍ خفيفةٍ، كأنّه يُهديها نسمةَ فجرٍ خجولة.
وفي غفلةٍ منه، تمتم بشوقٍ:
“هاه… أنا أغارُ من قُبَّعةِ آني…”
كم تمنّى لو كان تلك القُبَّعةَ الزهريّة، التي تظلّل وجهها الصغير! أيُّ حظٍّ ذاك الذي يجعلُ قطعةَ قماشٍ قريبةً من نورِها؟
تنهدَ تنهيدةً عميقةً، تنضحُ بالندمِ والرغبةِ والأمل. آه، كم هو أمرٌ عظيمٌ أن تكونَ قبّعةً تحمي “آني” من لهيبِ الشمس!
غير أنّ غيرتهِ لم تتوقّف عند حدودِ الخيال؛ بل طافَ به الظنُّ إلى عالمٍ سِحريّ، يتمنّى فيه لو أنّ سحرًا يُحوّلهُ إلى قبّعة.
لكنّ ذلك الحُلمَ اللذيذَ انقطعَ فجأة، حين انبعث صوتٌ جادٌّ من خلفه. كان “دوهير” ممدَّدًا هناك، بصوتهِ مهيب:
“أُمم… جلالتُك، إن اقتربت أكثر، ستكون حياتُك في خطر.”
توقَّف “إيجيد” فجأة عن الحركة.
وحين عاد إلى رشده، وجد نفسه مُعلَّقًا بالكاد على حافَّة الجُرف.
‘إنه مُساعدٌ عظيم…’
فـ”دوهير”، الذي لم يُفارقْهُ قط، كان بحقّ رجلًا كفؤًا. ورغم عظمةِ شأن إيجيد، كان قد أثنى عليهِ في سرّه، وقد أجادَ ضبطَ تعابيرهِ كأنّ وجههُ مرآةُ ملكٍ لا تهتزّ.
تلاصق شعرُه الأسودُ الناعمُ بجبهته البيضاء، الذي قد بلّله رذاذُ الشلّالِ الرقيق، فمدّ أصابعَه الطويلةَ النحيلة، يمرّرها خلالَ خصلاتهِ ليُزيحها إلى الخلف، ثم ابتعدَ بخفّةٍ عن الحافّة.
“فيز هنا.”
ما إن ذُكر الاسم، حتّى ظهر.
من بعيد، سُمع صوت “فيز” يصرخ بصوتٍ عالٍ:
“جَـ، جَـ، جَـ، جــلالــتــك! جــلالــتــك!”
“ارْكَع.”
هرول “فيز” نحو “إيجيد” بكلّ حماسهِ، ثم انخفضَ بجسدهِ وصوتهِ دفعةً واحدة، كما لو أنّ الأرضَ ابتلعته.
‘كيف يسمع كلماتِ جلالته من ذاك البُعد؟!’
“دوهير” لم يكفَّ عن التعجّب من “فيز” يومًا.
حين وصل الأخير إلى حافّة الجُرف، كان وجهه قد ازرقَّ، وملامحُه مبلبلةٌ كمن ابتلعهُ القلقُ ثم لفظهُ في اللحظةِ الأخيرة.
شعر “إيجيد” بنذيرِ شؤمٍ يعصفُ في صدره.
“ما الأمر؟”
ارتجف “فيز” عند سماعِ صوتِ جلالته.
“آنِـ… آنـ… الآنسة آني… الآنسة آني!”
‘ماذا بها آني؟!’
“تكلَّم.”
اقترب “إيجيد” منه باضطرابٍ شديدٍ، كأنّه يهمُّ باقتلاعِ الجواب من فمهِ قسرًا، لكنّه كبحَ نفسَه.
همس “فيز”، كأنّه يُخبئُ سرًّا من أعينِ العالم:
“إصبعُها… إصبعُها أُصيبَ!”
ماذا؟!
قفز “إيجيد” من مكانه دون وعي.
فاندفع “دوهير” و”فيز” يُمسكان به من كتفَيه، وضغطا عليه بقوّة.
“تَـ، تَـ، تَـمالك نفسَك، يا جلالتُك!”
“آه، آه! سَيكتشفون أمرَنا!”
آني قد أُصيبت؟! كيف يُطالَب بالهدوء؟! ثم إنّها تنوي كتابةَ كُتُبٍ عن السَّفر، فكيف لها أن تكتب ويدُها مجروحة؟!
‘لقد كان هناك منديلاً ملفوفًا على إصبعها…!’
ما إن تجمَّدت ملامحُ “إيجيد” قلقًا، حتى بدأ المساعدان يرتجفان.
‘…أليس الغرقُ أهونَ من طعنةِ سيف؟’
راود “فيز” شعورٌ بأنّ السقوطَ من هذا الجرف سيكون أرحم من مصيرِه المنتظر.
لكن لا… من الظلم أن يموت بعد كلّ ما تعلَّمه وسعى إليه.
وبينما دموعُه على وشك الهطول، اتَّسعت عيناه فجأةً كما لو أنّ صاعقةً قد ضربت وعيه:
“إنّها ليست إصابةً خطيرة! إن عُولِجت، ستشفى سريعًا!”
‘لا أحدَ يعلم ذلك… آه.’
أراد “دوهير” أن يمنحَه نظرةَ تحذير، لكنه عجز عن الكلام.
‘نعم… لماذا كلُّ هذا القلق ما دام يمكن علاجُها؟!’
اقترب “دوهير” من “إيجيد”، الذي بدا وكأنّه يُفكِّر جِدّيًّا في استدعاء طبيبٍ إمبراطوري.
“يا جلالةَ الملك، لقد خطرت لي فكرةٌ جيدة، استطيع أن إخبارِك بها؟”
أما “فيز”، الذي لم يُدرك شيئًا، فتشبَّث بهما، كأنّه يسعى للاختباء في دفء الجماعة.
وفي نهاية المطاف، اجتمع ثلاثتُهم في حرّ الصيف، يتشاركون دفءَ أجسادهم.
وأخذ “دوهر” يُسرُّ لهما بما يدور في خلده من خطط.
“بما أنّ الشلّال…”
—
وفي تلك الأثناء، كان بعضُ النبلاء الذين لمحوا ظلالَ ثلاثة رجالٍ عند الشلّال، يُحدّقون بدهشة، ويفركون أعينَهم في حيرة.
فـ”إيجيد” طويلُ القامة، لا يمكن أن يُخفى.
“ما هذا؟ ماذا نرى؟”
“أجل، أليس ذلك مكانًا ممنوعَ الاقتراب؟”
وحين أعادوا التحديق، لم يجدوا أحدًا.
“هل كانت… مجرّدَ وَهْم؟”
وسرعانَ ما عادوا إلى مشاغلهم، متناسين ما رأوه، كأنّها رؤيا حلمٍ لم يكتمل.
التعليقات لهذا الفصل " 34"