لم تستطع “آني” أن تبصر وجهه بوضوح، إذ كان قد انحنى أمامها بانكسارٍ شديد. وبسبب صدق اعتذاره ونبرته المفعمة بالندم، آثرت ألّا تُوبِّخَهُ، فصمتت برفقٍ وحِلم.
ثم لحقت بها “كارلا”، معتذرةً بدورها عن صراخها عليه، وكلماتها يغمرها الأسف والندم.
ابتسمت “آني” ابتسامةً رقيقةً وهي تُمعن النظر في مشهد المصالحة هذا، ثم التفتت ببطء نحو الأمام، تستقبل الأفق بعينيها الواسعتين.
راحت تنصت إلى خرير الشلال وهو يتساقط بقوةٍ وحيوية، وعيناها تتوهان في سحر الطبيعة البعيد.
وكانت قطرات الماء المتناثرة تتراقص فوق خديها الورديين، بينما خصلات شعرها البني الغني ترفرف في مهبّ النسيم العليل.
آه، ما أجمل نسمات الطبيعة الصافية… إنّها بلا شكّ تظلّ الأروع مهما تبدّلت الأيام.
استدارت “آني” بجسدها نحو “كارلا”، وضحكت ضحكةً عفوية كضحكة الصبيان الأشقياء.
وقالت بمكرٍ مرح:
“ما رأيكِ؟ أليس الأجمل أن تأتي برفقتي؟”
ضحكت “كارلا” أيضًا بخجلٍ شفيف، وأجابت وهي تحدّق في وجه “آني” المضيء:
“سوف تؤذين شفتيكِ إن واصلتِ طرح أسئلة بهذه المباشرة.”
ثم مدّت ذراعها إلى “آني” بحركةٍ أنيقة، كأنّها أمير يمدّ يده إلى أميرة:
“تفضّلي، سيّدتي، هل تشرّفينني بمرافقتكِ؟”
كانت هذه المزحة عادةً محبّبة بينهما منذ الطفولة، إذ كانت “كارلا”، التي تفوق طول أقرانها، تتظاهر دائمًا بأنّها فارس مغوار.
وضعت “آني” يدها اليمنى بثقةٍ على ذراع “كارلا”، وسارتا معًا تتشابكان كالأم وابنتها، بينما ترمقهما العيون بنظراتٍ دافئة مفعمة بالسرور.
“واو… إنّ المكان يعجّ بالناس!”
فقد كانت المنطقة الممتدّة أمام الشلال معلمًا سياحيًا شهيرًا، يعجّ بالنبلاء والعامة على حدٍّ سواء.
ثياب فاخرة، باعة متجوّلون يبيعون الوجبات الخفيفة، وصخب من كلّ صوب.
امتلأ المشهد بالألوان والوجوه المختلفة:
امرأة ترتدي قبعة صغيرة لأول مرة، رجلٌ ذو شاربٍ كثيف وبنطال واسع، وأناس آخرون يختلفون مظهرًا ومزاجًا.
قالت “كارلا”، وهي تدير عينيها باندهاشٍ بين الجموع:
“كان يجدر بي ألّا أطلب من العم بات تحضير الطعام… كان بإمكاننا شراء كلّ شيء من هنا.”
ابتسمت “آني” برقة وأجابتها:
“لا تقلقي… لا يزال أمامنا متّسع من الشهية لتذوّق بعض المأكولات.”
ثم أردفت “كارلا”، وهي تذكّرها:
“آه، على كلّ حال… ماذا عن يدكِ؟”
لوّحت “آني” بيدها بخفّة وقالت:
“لا بأس، كم مرة يجب أن أؤكّد لكِ ذلك؟”
ومع أنّ كلماتها جاءت مطمئنة، إلّا أنّ “كارلا” لم تستطع أن تمحو من مخيّلتها مشهد المنديل الذي لطّخته الدماء.
حينها التفتت “آني” تبحث بعينيها اللامعتين عن شيء يبهج اللحظة، فوقعت نظراتها على بائع فواكه يعرض ألوانًا زاهية في كشكٍ متواضع.
أخرجت بعض القطع الفضية من جيبها، واشترت ثلاثة أسياخٍ من الأناناس الشهيّ.
حاولت عبثًا أن تضع حبّة أناناس كاملة في فمها، وضحكت بخفّة.
“تعالي يا كارلا.”
“شكرًا، سيّدتي.”
ناولت “آني” السيخ الأول إلى “كارلا”، ثم رفعت رأسها تبحث بين الحشود.
“أين ذهب السائق؟”
لكنّها لم تبصر له أثرًا، لا قبعته ولا قامته.
قالت “كارلا” تخمّن:
“ربّما ذهب قليلًا ليتمتّع برؤية الشلال.”
هزّت “آني” كتفيها بلا مبالاة، وغرست قطعة الأناناس في فمها، ففاضت حلاوة الطعم على لسانها وأزهرت ابتسامةً جديدة على وجهها.
وفي تلك اللحظة، تقدّمت طفلة صغيرة نحو الكشك، تحدّق بسيخ الأناناس بعينين متلألئتين شوقًا.
كانت ترتدي ثوبًا قديما بسيطًا، أنفها يتحرّك جوعًا، ومع ذلك، كانت ملامحها الوديعة تنتمي إلى إحدى أسر النبلاء المتواضعة.
سحبت الصغيرة كمّ والدتها، متوسّلة:
“أمي، اشتري لي هذا أيضًا.”
لكنّ الأم، التي ارتدت ثيابًا فاخرة تخالف حالها، عبست وجهها وضربت يد طفلتها بنفاد صبر.
“توقفي، أتعلمين كم أنفقنا لنأتي إلى هنا؟! كلّ هذا بسبب تلك الفتيات السخيفات اللواتي يتباهين برؤية شلال بوركوس… تبا لهن!”
وانحنت الصغيرة تبكي بصمت، تكتم دمعها في انكسار.
لم تحتمل “آني” المشهد، فتقدّمت بخطواتٍ خفيفة نحو الطفلة وأمها، تبتسم برقة.
وقالت، وهي تنحني احترامًا:
“مرحبًا، سيّدتي. أنا آني ميل دْسِف، من مقاطعة دْسِف.”
سألتها المرأة بحدة:
“ماذا تريدين؟”
أجابت “آني” بلطف:
“إن لم يكن في الأمر وقاحة، هل لي أن أقدّم هذه الفاكهة للطفلة؟”
تشنّج وجه المرأة غضبًا، وكأنّها تجرعت مرارةً لا تُحتمل.
لكن “آني” تابعت كلامها بثقة ولطف:
“لقد ذكّرتني الطفلة بوالدتها… جميلةٌ ولطيفةٌ للغاية، وقد رغبت أن أُهديها شيئًا صغيرًا. بل إنّ الأمّ أجمل.”
تبسّمت السيّدة على مضض، ولوّحت لها بالإذن.
عندها، انحنت “آني” بخفّة، ووضعت الأسياخ الثلاثة بين يدي الطفلة الصغيرة.
تهلّلت ملامح الطفلة، وقالت ببراءة:
“شكرًا لكِ، أختي!”
مسحت “آني” شعر الطفلة الذهبي بلطفٍ وحنان، وهمست لها:
“استمتعي، وإن رغبتِ بالمزيد، فلا تتردّدي.”
نظرت “كارلا” إلى صديقتها بحبٍّ وإعجاب، تمتمت وكأنها تكلّم نفسها:
“كيف يمكن أن توجد سيّدة طيّبة القلب إلى هذا الحدّ؟”
نعم… حتى لو اجتمع رجال العالم كلّه أمام بوّابات القصر الإمبراطوري، ما كان ليدخل أحدهم قلب “كارلا”، لأنّه قد احتلّه بالفعل.
لقد كانت “آني” جمرة من الجمال والذكاء والرقة.
لكن ما لم تدركه “آني”، أنّ رجلاً آخر كان يرمقها من بعيد، بنظرةٍ تفوق في عمقها حتى نظرات “كارلا”…
التعليقات لهذا الفصل " 33"