نالَت آني استحسان السيدات النبيلات بفضل شخصيّتها الهادئة وموقفها الصادق. وما إن أجابت بإجابتِها الواضحة حتى انفجرت الضحكات في أرجاء المجلس.
كانت السيدات يأملن سرًّا في أن تزداد لقاءاتهن، رغم أنهن لا يجتمعن سوى مرة واحدة في الشهر.
وفي تلك اللحظة، توقفت عينا آني الأرجوانيتان عند وجهٍ واحد.
“…”
راقبت عن كثب تلك السيدة التي ابتسمت لها بهدوء.
لكن يدها كانت ترتجف، ولم تلمس إلا كوب الشاي البارد، على غير عادتها. كانت عيناها محمرّتين، ووجهها بدا أكثر تورّمًا من المعتاد.
سألتها آني بلهجة حادّة:
“فيريان، ما الذي يحدث؟”
“آه…”
رمشت فيريان بعينيها الحمراوين وكأنّها تفاجأت، ثم ابتسمت بسرعة، ابتسامة يائسة.
“لا أستطيع خداعك أيضًا يا آني… في الواقع، خطيبي… يخونني.”
يا إلهي…
السيدة التي فغرت فمها على وسعه كادت أن تهم بالكلام، لكنها امتنعت.
فإذا كان المقصود بخطيبها هو الابن الثاني لعائلة هاردي، فقد كان شابًا وسيمًا، معروفًا بالتهذيب والاهتمام بالآخرين. لكن بعد كل هذا…؟
تابعت فيريان بصوتٍ خافت، وقد خفضت رأسها بتعبير يملؤه القلق:
“المرأة التي يخونني معها هي صديقة طفولته. يقولان إنهما مجرّد أصدقاء، لكنهما يشربان الكُحول ليلًا، ويقضيان الليل في القصر…”
مجرد تخيّل الأمر جعل يدها ترتعش بشدّة، وكأنّ الدم صعد فجأة إلى رأسها.
تلعثمت مرّات عدّة، ثم شرعت تسرد مزيدًا من التفاصيل المؤلمة: الكلمات الجارحة التي تفوّه بها خطيبها، والأفعال التي طعنتها في كرامتها.
لكنها، رغم كل شيء، بدت مرتاحة قليلًا بعد أن باحت بما في صدرها.
كانت تعبث بفنجان الشاي، ويداها لا تزالان ترتجفان بخفّة.
قالت فجأة، بصوت خافت:
“بصراحة، أكثر ما يُخيفني ليس هو… بل هو أنه، لو انفصلت عنه، هل سأتمكن من لقاء شخصٍ آخر؟”
فقالت لها إحدى السيدات:
“فيريان، التعرّف على الناس ليس كصنع المعكرونة. ليس من المنطقي أن تظنّي أن الأوان قد فات للقاء أشخاصٍ طيبين. لا تقلقي.”
وأضافت أخرى:
“بسبب هذا الشخص، من الأفضل أن تُنهي كل شيء الآن، بدلًا من أن تندمي طَوال حياتك. القرار في يدك وحدك.”
مسحت فيريان دموعها وهمست بشكرٍ خافت، ثم واسَتها آني قائلة إن كلّ شيء سيكون بخير.
فهي لا تزال شابّة، والحياة أمامها مليئة بالأيام والفرص.
وما إن هدأت الأجواء، حتى رفعت إحدى السيدات يدها بهدوء.
كانت “جيتينا”، أصغر الحاضرات وأكثرهنّ براءة.
سألت بعينين زرقاوين تتلألآن:
“آني، في الحقيقة… لديّ بعض المشاكل أيضًا.”
“ما هي؟”
“هناك شاب أهتمّ لأمره مؤخرًا، لكنه يُربكني كثيرًا… أحيانًا أشعر أنه يحبني، وأحيانًا أخرى لا أفهمه إطلاقًا.”
بدأت الكلمات تنساب من شفتيها الصغيرتين.
قالت إنها بالكاد تراه، وهو لا يُبادر بالاقتراب منها.
وإنه أهدى لها هدية بسيطة، لكنه لا يُحدّد مواعيد للّقاء، أو يؤجّلها دون سبب واضح.
رفعت آني حاجبيها وهي تستمع.
“جيتينا، لا تُواعدي شخصًا يجعلك تطرحين على نفسك هذا النوع من الأسئلة.”
“ماذا؟ ولماذا؟”
أجابت آني بهدوء، بينما كانت جيتينا على وشك البكاء:
“إذا كنتِ قد بذلتِ جهدك، فابتعدي قليلًا وراقبي. هل يقترب منكِ؟ أم يدفعك بعيدًا؟”
“وماذا لو لم يقترب أبدًا؟”
“جيتينا، لو كان أخوك في موقفك هذا، هل كنتِ لتنصحيه بالبقاء في علاقة مزعجة كهذه؟”
بعد هذه الأسئلة المتتالية، خيّم الصمت على جيتينا.
تنهدت مرّات عدّة، ثم أومأت برأسها.
كانت تدرك أن العلاقة متعبة، لكنها فقط أرادت من يقول لها: كلّ شيء سيكون بخير.
قالت بيأس:
“آني، هل يمكنني أن ألتقي بشخص طيّب فعلًا؟”
أجابت آني بثقة:
“لا أعلم متى أو أين، لكنني أعلم أمرًا واحدًا.”
“و-وما هو؟”
“أنكِ في حياتك، ستلتقين حتمًا بشخص يهتم بك أكثر من هذا الرجل.”
عند سماع كلمات آني الرقيقة، أومأت جيتينا برأسها بقوّة.
كانت آني صريحة كالعادة، لكنها لم تكن قاسية.
وجيتينا أحبت ذلك فيها، لأن آني لا تكذب.
لم يكن من المبالغة القول إن آني كانت أذكى امرأة في بوركوس.
قالت جيتينا مداعبة:
“حقًا، لا تشكّي فيّ يا آني.”
“هذا سخيف، كيف لي أن أشك فيكِ؟”
“أنا فقط أمزح.”
“تسك…”
ضحكت جيتينا، واستعادت طبيعتها المرحة، وبدّلت الموضوع بحماسة، ثم بدأت الدردشة مع الأخريات.
كان من المعتاد أن ينتهين بزيارة مطعمهنّ المفضّل.
التعليقات لهذا الفصل " 15"