آني… كانت فتاةً محظوظة.
بل الأعجب من ذلك، أنّ كلَّ ما تنطق به شفتاها، مهما بدا خياليًّا، كان يتحقّق كحقيقةٍ راسخة لا شكَّ فيها.
لذلك، لم يكن غريبًا أن ينهال عليها من حولها بطلباتهم السخيفة مرارًا وتكرارًا:
“سيّدتي، هلا تكرّمتِ وقلتِ: (إنّ كارلا لن تسلك إلّا طريقًا مملوءًا بالثّراء حتّى آخر أنفاسها)؟”
“سيّدتي دِسِف، قولي: (إنّ رجلًا وسيماً ستهيمين به عشقًا، ويكون لكِ وحدكِ طيبًا، ويهبكِ السعادة الأبديّة)!”
“سيّدة آني، أرجوكِ! قولي إنّي سأفوز بالجائزة الكبرى في اليانصيب!”
آهٍ… كم ضاقت آني ذرعًا بكلّ هذا العبث!
كانت كلّما سمعت أمثال هذه الطلبات، يغمرها الحزن، فلا تجيب إلا بالدموع، ولكنّ الشّكوك حول قدرتها العجيبة لم تتبدّد قط.
“آني، هل أنتِ حقًّا محظوظة؟ قولي الحقيقة! بفضل كلماتكِ، أصبحت المصمّمة سانيل مواطنةً في بوركاوس!”
كانت سانيل، تلك المصمّمة ذات الأنف الشامخ كقبّة كاتدرائيةٍ عظيمةٍ في العاصمة، جوهرةً لا تُقدّر بثمن.
راودتها دول الجوار بأبهى العروض، لكنّها ظلّت عصيّةً على الجميع، لا تُراغب ولا تُخادع.
سانيل، عبقريةٌ مترفّعة، رفضت عروض بوركاوس بسخائها، كما رفضت محاولات هاركنون، العدوّ القديم.
وكما يفعل كبار الفنّانين، كانت تتحرّى الحياد ما أمكنها.
لكنّ كلمةً عابرةً من آني بدّلت مجرى الأمور:
“سيكون شرفًا لنا لو جاءت سانيل د. زاينر إلى إمبراطورية بوركاوس…”
ولم تمضِ أيّامٌ، حتّى اصبحت سانيل في بوركاوس بل وحصلت على الجنسية.
ابتهج النّاس، وقالوا إنّ الملكة سيلفاس قد حقّقت أمنيتها الثمينة.
وحقًّا، فقد كان تجنيس سانيل حدثًا زلزل أرجاء القارّة بأسرها.
وعندما سألها الصحفيّون عن سبب هذا التحوّل، أجابت بوضوحٍ ساحر:
“الحبّ الصادق هو السبب.”
ومنذئذٍ، شاع بين النّاس أنّ قلب سانيل خفق لرجلٍ بوركاوسيٍّ مجهول.
لكن، بالنسبة لآني، لم يكن في الأمر ما يستحقّ الضجّة.
كانت مجرد مُعجبةٍ وفيّة، تسهر الليالي في كتابة رسائل الإعجاب لمعبودتها.
بدعمٍ من العائلة الإمبراطوريّة، شرعت سانيل في عملها الفنيّ داخل الإمبراطورية.
صمّمت الحقائب، الأحذية، الملابس، والإكسسوارات، فأبهرت الجميع بذوقها الرفيع وابتكارها الفذّ.
سرعان ما لُقّبت بـ”نور بوركاوس”، كنور البلّورة الأرجوانيّة الثمينة.
وفي لحظة امتنانٍ صادقة، أقامت سانيل حفلة خصمٍ خاصّةً لمواطني بوركاوس، فخفضت أسعارها إلى النصف!
وكان من بين تصاميمها الفاتنة، حزامٌ كريم اللون حريريّ، تتلألأ عليه مكعّباتٌ فضيّة جميلة… الحزام الأحبُّ إلى قلب آني.
ثمّ جاء ذاك الخبر السعيد:
“سيّدة آني! كعكة الليمون السحرية في مخبز العاصمة عليها خصم! اشتري واحدة وخذي أخرى مجّانًا!”
يا لسعادتها!
رمت آني كتابها جانبًا، وأسرعت إلى العربة السوداء.
ذاك المخبز العتيق، الذي لم يعرف خصمًا منذ خمسين عامًا، قد تنازل أخيرًا عن تقليده الصارم.
وكيف تقاوم آني إغراء “كعكة الليمون السحرية” التي توقظ الروح من سباتها؟
لم يكن المال عائقًا، لكنّ خصمًا كهذا جعل قلبها يخفق فرحًا، وجعل لعابها يسيل شوقًا إلى الطّعم الحامض الرائع.
وفي الطريق، كانت خادمتها كارلا تثرثر بحماس:
“سيّدتي، ألستِ أنتِ من تمنتِ خصمًا؟ يا للعجب! تحقّقت أمنيتكِ مجددًا!”
ابتسمت آني، ووجنتاها تتوردان، وأومأت برأسها.
لم تفكر كثيرًا في الصّدفة أو في المعجزات؛ فكلّ ما كانت تفكر فيه هو كعكة الليمون اللذيذة.
ومنذ ذلك اليوم، أُضيف طبق كعكة الليمون إلى قائمة مطبخ آل دِسِف ثلاث مرّاتٍ في الأسبوع على الأقل!
كلّ ما تقوله آني يتحقّق… مهما بدا بسيطًا.
قالت مرة عن خبز أنبِرتِر:
“إنّه خبزٌ سحريّ! ينبغي أن يُكرّم من صنعه!”
وما هي إلا فترةٌ وجيزة، حتّى فاز صانعه بجائزةٍ كبرى وثلاث نجوم من الإمبراطورية.
ابتسمت آني عند سماع الخبر، وقالت بسعادة:
“إنّه شخصٌ يستحقّ ذلك حقًّا.”
بل حتّى المشاريع الصغيرة التي بدأت بها لإنقاذ عائلتها المأزومة ماديًّا، ما لبثت أن تحوّلت إلى نجاحٍ ساحقٍ بفضل مستثمرٍ ذكيّ سدّد كلّ ديونهم دفعةً واحدة.
ولمّا تمنّت يومًا أن تتلقّى الملابس والإكسسوارات مجّانًا من متجرها المفضّل، تحقّقت أمنيتها، وباتت تتلقى الهدايا طوال عامٍ كامل!
حقًّا، حظّ آني العجيب هذا قد رافقها لسبع سنواتٍ متواصلة.
حياةٌ مملّةٌ أصبحت فجأةً دربًا متلألئًا بالفرص والنّجاحات.
وإن كان ذلك مُرهقًا… فهو أيضًا ممتعٌ بما يكفي لجعلها تبتسم دائمًا.
نعم، آني محظوظةٌ… وهذا شيءٌ جميل.
لولا أمرٌ واحد.
الــرّجـــال.
كان حظّها معهم نقيض كلّ حظّها الآخر.
خطيبها الذي رافقها ستّ سنواتٍ خان عهدها.
وفي البلاد الأخرى، لم تجد من بينهم رجلاً سويًّا واحدًا، بل كانوا صفًّا من الخيبات المتراصّة.
أوشكت على فقدان صوابها.
كيف يمكن أن يُحكم عليها بالفشل لمجرّد أنّها لم ترتبط أو تتزوّج؟
أليس الأجدر أن تُحترم الإرادة الحرّة؟
مهما حاولت أن تشرح، كانت عائلتها تضغط عليها بلا رحمة.
وفي لحظةٍ من لحظات اليأس الشجاع، اتخذت قرارها الحاسم:
«لــن أتــزوّج أبــدًا.»
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 1"