حتّى داخل الحلم، شعرت بحرارة الدموع و هي تنحدر على خديها بوضوحٍ موجِع… بعد أن قيلت تلك الكلمات، كيف لها أن تجد الإرادة لتقاوم…؟
لفترة طويلة، ظلت تتخبط في الظلام كـكائن بحري جُرِّدَ من مائه و تُرِكَ على اليابسة ليموت.
لكن في النهاية، وسط رؤيتها المشوشة بالدموع، بدأ ضوء خافت يخترق الظلام، شخص ما كانَ يمسح الدموع عن عينيها باستمرار.
“فريسيا…”
“أه…”
“تماسكي، فريسيا… أرجوك.”
اللمسة التي كانت تمسح وجهها لم تكن قاسية. بالكاد فتحت فريسيا عينيها المثقلتين بالدموع.
كانَ إيزار يحدّق بها و هي مستلقية على السرير.
شفته مشدودتان، و فكّه متيبّس من التوتر، و عيناه الذهبيتان تتقدان بحدة جعلتها تصحو في اللحظة نفسها.
نظرت حولها كـفأرة محاصرة داخل سلّة معتمة.
“هنا… أين أنا؟”
“لقد عدنا إلى القصر.”
إذن، التاريخ…
آخر ما تتذكره هو السماء التي كانت تتلألأ فوق قصر أنتاريس، و الآن السماء خارج النافذة مضاءة.
لكن ما إن شعرت بلمسة إيزار على خدّها، حتّى انتفض جسدها غريزيًا على السرير.
“آه…!”
“فريسيا؟”
إيزار، الذي وقف بجانب أتريا.
و الذي نظر إليها نظرة لم تنسها، وسط ضجيج الوليمة.
رغم الوعد الذي قطعه لها.
رغم قوله إنه سيبقى معها.
<ما لم يكن هناك أمر شديد الأهمية.>
في حين كانت تتلوى من الألم، أي حديث “مهم” يمكن أن يجمع بينهما؟
“آهغ…!”
شعور بالاهانة عارم اندفع من جوفها كـغثيان. و بينما كانت تنكمش على نفسها، لم تهدأ تلك المشاعر الكاسحة.
ارتعش كتفاها كما لو أنها أُصيبت برعدة برد، فـأمسك إيزار بكتفيها بكلتا يديه.
“مهلاً… لماذا تفعلين هذا؟”
“لا تلمسني!!!”
صرخة حادّة خرجت من شفتي فريسيا.
رغم أنها عاشت حياة قاسية، لم يسبق لها قط أن رفعت صوتها على أحد، لم تكن في موقع يسمح لها بذلك.
و قبل أن يكون زوجها، كانَ إيزار هو سيّد الأرض التي وُلدت و ترعرعت فيها.
وحدها معرفتها بأن أيامها معدودة كانت تمنحها شيئًا من الشجاعة، لكن أن تواجهه هكذا وجهًا لوجه كانَ دومًا مفزعًا. أشبه بارتكاب خيانة لغريزة الطاعة التي تزرعها الحياة في القلوب المُستَضعَفة.
لكنها الآن، لم تعد قادرة على كبح نفسها، فـصرخت بعنف و هي تحاول أن تفلت منه.
“لا! لا تلمسني! دعني… دعني وشأني!”
لطالما حلمت أن يحتضنها بحنان.
كانت تتمنى ذلك و هي تهمس لطفلها المدفون تحت الأشواك ذات ليلة، عندما بدا العالم خاليًا إلا منهما، و كانت تلك أسعد لحظة في حياتها…
لكنها الآن، لم تستطع تحمّل أن ترى وجهه المرتبك و هو ينظر إليها.
“لا، لا، دعني، آه…!”
هل كانَ هو وحده ما لا تُطيق مواجهته؟
لم تحتمل النبلاء المتغطرسين من حولها، المغموسين بالاحتقار.
هل رغبت يومًا بأن تكون “سيدة دوقة أنتاريس” حقًا؟
كلا، لقد جُرَّت إلى هذا المكان كـكبش فداء مثالي لحقد الإمبراطور على عائلة أركتوروس.
لكن هذه المرة، كانت قد أقسمت أن تحافظ على كرامتها.
ظنّت أنها نجحت بذلك، لكن أن تُسحَب خارج قاعة الحفل، و تُعرّض لذلٍّ كهذا أمام الدوقة و ابنتها…
حتّى و إن كانوا جميعًا بشَرًا في النهاية، فقد كانت هي وضيعةً بما يكفي ليعبثوا بها كما شاؤوا…
لم تكن ضربة سيف، بل رسالة : “نستطيع سحق روحك دون أن نوسّخ أيدينا.”
غير أن أعنف مشاعر السخط التي تملّكتها، كانت في النهاية موجهة لذلك الرجل الواقف أمامها.
<لماذا أتيت…؟>
الشخص الذي كانت تتمنى ظهوره أكثر من أي أحدٍ آخر في أسوأ لحظات حياتها… لم يأتِ.
و مهما حاولت تبرير أفعاله أمام نفسها، لم تستطع دفن كل تلك الطبقات المتراكمة من الخذلان والخيبة.
“أنا… أكرهـ…!”
“فريسيا!”
ناداها باسمها.
كانت تُنادى بـ”أنتِ” طوال حياتها، من أولئك الذين اعتبروها أدنى منهم، حتّى والدتها لم تنادِها يومًا باسمها.
لطالما تمنت لو يناديها “زوجها” باسمها ذات مرة.
لكن الآن، في هذه اللحظة بالذات، لم تشعر بأي فرح.
بدت الكلمة غريبة، و كأنها تُقال لامرأة أخرى.
و بينما كانت تشعر بأن قبضته تراخت للحظة، دفعت صدره بضعف.
“هاه…”
و فوق رأسها المنحني، سُمعت ضحكة رقيقة. و حين رفعت عينيها بصعوبة، رأته يبتسم بمرارة و وجهه متجهم.
كأنّه وجد كل ما يحدث… مثيرًا للشفقة، شعرت فريسيا ببرودة قاسية تنساب إلى أطرافها. حتّى صوته كانَ ينضح بالسخرية.
“ألستِ من طلب مني أن أكون لطيفًا معك حينَ تمرضين؟”
نظر إليها و هو يقمع نبرة صوته، يكاد يغلي من الداخل.
لقد انتظر إلى جوارها بصمت، حتّى تستفيق و تستعيد وعيها.
لكن ما إن فعلت، حتّى رمقته بكلمة “أكرهك”.
هي التي لطالما قالت له “أحبك” مرارًا بصوتها المرتعش… تلك الكلمات التي كانَ يظن أنه لن يسمعها قط.
و الآن، الغضب في صدره كانَ كـحد السيف، يكوي حلقه كما لو أنه يُجبر على ابتلاع الجمر.
“ألم تكوني أنتِ من قلتِها في أول يوم؟ أجيبي!”
“أنتِ التي طلبت مني أن أبقى بجانبك… و الآن تغيّرين كلماتك؟”
هي قالتها، بلا شك.
و فريسيا تتذكر.
“ليس الآن…”
لكن كانَ إيزار من كسر ذلك الوعد أولًا.
“لذا أرجوك، فقط… دعني و شأني.”
كانت تندم بمرارة على أنها عادت إليه من البداية.
صمت إيزار و هو يحدّق في جسدها المنحني، و كتفيها المرتجفين.
كانت ترفضه.
“هاه…”
يُقال إن الصدمة تخرج من الجسد على هيئة ضحكة فارغة، و إيزار استمر بالضحك على هذا النحو، بينما الدموع تنهمر من عيني فريسيا.
ضحكة لا يُعرف إن كانت غيظًا أم استسلامًا.
لكنها كانت تؤلم صدره كأنها تحرق رئتيه معَ كل نفس.
حينَ قرر أن يُخبرها بالحقيقة خلف زواجهما، تخيّل ردّ فعلها آلاف المرات.
ظنَّ أنه سيواجه اعتراضها، و رُبما دموعها.
لكنه لم يتخيل أبدًا أن تكون هي من تُدير له ظهرها أولًا.
“ماذا حدث هناك؟”
شدَّ قبضته على كتفيها النحيلتين، و قد اضطر أن يصر بأسنانه حتّى لا يؤذيها بقوته.
“أخبِريني، الآن، ماذا جرى في الحفل؟”
ما حدث لم يكن مجرد مزحة.
ماذا فعلوا بها في الدقائق التي غفل عنها، حتّى خبت تلك النار من عينيها؟
العيون التي كانت تطارده في أحلامه المضطربة، و تحرقه بالرغبة.
“……”
و حينَ تهرّبت فريسيا من نظره، هوى قلبه في هاوية لا قرار لها.
فريسيا، التي لم تتفادَ عينيه أبدًا من قبل، والتي كانت دومًا تتسلل بنظراتها نحوه لتبوح بحبّها…
حتّى ذلك التهرب الطفيف الآن، طعنه كـالسكاكين.
لكن فريسيا… كانت حقًا لا ترغب برؤيته.
رجاءً، اتركني وحدي.
و إلا، ستنفجر به، ستصرخ : لماذا لم تأتِ باكرًا؟ لماذا كُنتَ معَ أتريا بينما أنا…؟
بعد كل تلك الإهانة غير المتوقعة، كانت روحها قد تمزّقت بالفعل.
التعليقات لهذا الفصل " 61"