لو كانت الراعية قد عادت يومًا لتعيد له معطفه…فـربما لم يكن قلبه سيمتلئ بهذا الكمّ من الوحشة.
و الده، دوق أركتوروس السابق، كانَ قد سحق المتمردين من قبل. حفنة من الحثالة نبذهم العالم، تختلف أشكالهم لكنهم جميعًا وُلدوا من الحقد و الخذلان.
الابن الثاني الذي لا يرث شيئًا، النبيل الذي فشل فـأُبعد عن أرضه، من حملوا ضغائن ضد عدالة هذا النظام.
و كانَ سحقهم أمرًا لا يحتاج إلى مجد.
لكن…
كانت هناك كلمات، نُقشت في أعماق قلب إيزار، و لم يستطع انتزاعها مهما حاول.
<طفلي الوحيد هو ذاك الذي أنجبته منه. إنه الطفل الوحيد الذي رغبت به… الوحيد الذي أملكه.>
الحب.
قيل إن والدته قد أحبت زعيم المتمردين.
قد يكون حبًا سبق زواجها، أو خطيئة ولدت بين جدران القصر. لا أحد يعلم، و إيزار نفسه… لم يرد أن يعرف.
ما شغل باله هو تلك الكلمات التي قالتها، و الاعتراف الذي تناثر من شفتيها كـتنهيدة مُرّة.
كانَ هناك شيء ما… دليل حيّ على تلك الخطيئة الدنيئة.
و لحسن الحظ، قبل أن تصل الأخبار إلى الإمبراطور، وجد آل أركتوروس الخيط الأول في تلك الفوضى.
كوخ صغير، يختبئ بين الأشجار، بقايا نار، كتب كثيرة، ملابس بأحجام متزايدة.
و كأن أحدهم كانَ يكبر هناك، ينتظر أن يأتي إيزار ليجده.
لكن ما كانَ أكثر جنونًا… هي الكلمات المكتوبة على الجدار، بخطٍ بدا كأنه مخلوط بالدم.
حينَ رآها الفارس، تجمّدت أنفاسه، أما إيزار، فقد حدّق بها في صمت جليدي.
و حينَ طال صمته حتّى خنق القلوب، قال بصوت لا يقبل الجدل:
اخرجوا… جميعكم.”
“و لكن، سيدي—”
“قلتُ، الآن.”
تراجع الجميع، حتّى الفارس الأشيب الذي يفوقه سنًا، لم يجرؤ على الاعتراض.
في النهاية، بقي وحده داخل ذاك الكوخ.
و معَ أنه لم يسمع الصوت من قبل، إلا أن صدى الرسالة ارتطم بجدران قلبه كالسخرية:
<أخي غير الشقيق العزيز… ابن نفس الدم الدنيء، أرسل إليك تحيات أخيك الأصغر، المولود من زواج مبارك.>
زواج مبارك.
رفع إزار عينيه و نظر إلى الكلمة التي انغرزت في الحائط، كأنها خنجر.
ضحك ضحكة قصيرة، بلا نبرة، بلا دفء.
“هاه…”
كانَ عمره عشر سنوات حينَ ورث الدوقية.
أمام أعين جميع النبلاء، كانَ يجب أن يباركه الإمبراطور.
لكنه قال تلك الكلمات و كأنها بصاق:
<ابن مجرمة.>
و غادر المكان.
و في طريقه، نظر ريغيل، حفيد الإمبراطور، إلى الطفل الراكع بنظرة شفقة، نظرةٌ أحرقت أكثر من الكراهية.
في الثانية عشرة، عضّه وحش للمرة الأولى. قتل الوحش، نعم، و تعافى، لكن الألم… لم يذهب تمامًا.
تكررت تلك المواقف عامًا بعد عام.
و في كل مرة، كان يتلقى الضربات وحيدًا، صامتًا.
لكن ذلك اللقيط الذي يحمل نصف دمه… كان محبوبًا.
<الحب.>
هو، الذي كانَ يحمل لقب أنبل عائلة في البلاد… لم يُعطَ حتّى شظية حب.
ضحك، بصوتٍ مختنق، و كتفاه يهتزان.
ثم اشتد الغضب في عروقه حتّى نزف أنفه، و مسح الدم بلا اهتمام.
و أخيرًا، بصوت أجش، همس:
“لا أريده…”
لا يريد هذا الحُب، لا يحتاجه، ليس بحاجة لتلك المشاعر القذرة، المشوّهة.
هو، ابن السلالة النبيلة… يجب أن يكون أبعد ما يكون عن مثل هذه الترهات.
<يكفي أن والدي ارتكب مثل تلك الحماقات.>
لن يسمح لنفسه بالشعور بتلك العواطف، و لن يُفصح عنها أبدًا، حياته لم توجد لأجل أي شيء سوى استعادة مجد عائلة أركتوروس المثالي.
سيسحق كل نقطة ضعف تافهة، و يصقل نفسه حتّى لا يبقى فيه سوى ذلك الهدف الواحد.
و لكن، تمامًا عندما اتخذ ذلك القرار الحازم…
تلك الراعية الملعونة عادت لتخطر في ذهنه.
الراعية الجاحدة.
قبل أن يقتلع صورتها من قلبه بالكامل، تردّد للحظة.
و لكنها لم تكن سوى لحظة عابرة.
“لقد انتهيت من هذا الأمر…”
كان يرغب بوضع شيء ما في يد تلك الفتاة البائسة، و لكنه لم يجد ما يناسبها، فـفكّر بالحلوى أولًا.
أن يُطعمها الحلوى، أن يخترع لها عذرًا كي تأتي إلى القصر مجددًا، أن يجد مبررًا مقبولًا يمنعها من العودة إلى التلال.
كلها أفكار لا تليق به، بلا قيمة.
فـفي هذا العالم، توجد أشياء أهم بكثير من فتاة بائسة مثلها.
لهذا، عاهد نفسه أن لا يلتفت إليها مرة أخرى.
و منذ تلك اللحظة، كفّ عن إدارة رأسه كلما غزته الحيرة، ثبّت عينيه في الأمام فقط، و ركّز كل كيانه نحو هدفه.
و هكذا، أصبح الأمر سهلاً.
لكن، بين الحين والآخر… حينَ يلتفت دون قصد، كانَ يشعر بأن الراعية كانت تحدّق به أيضًا.
المرأة التي كانت تقف دومًا على ذلك التلّ المكسوّ بألوان الغروب.
و في كل مرة، كان يتساءل بصمت:
ماذا لو… كانت قد عادت لتُعيد له معطفه؟
منذ أن انهارت، ظلت فريسيا تتيه في حلمٍ مألوف… لم يكن ثمة شكٌّ في ذلك.
‘لقد رأيت هذا الحلم من قبل… بلا شك.’
قبل فترة من الزمن، استدعاها إيزار إلى غرفته بلا سببٍ واضح…لم يفعل شيئًا سوى أن نام بجانبها، لكنها في صباح اليوم التالي استيقظت و عيونها منتفخة بالبكاء.
هي و أتريا، في غرفة نوم دوق أركتوروس.
و أنريا تطلّ عليها من علٍ، بينما كانت فريسيا تركع أرضًا.
دائمًا ما كانَ هذا الحلم ينتهي بانعكاس السماء الحالكة في عينيها.
<هاه… أختي الصغيرة المتوحشة، المسكينة.>
صوتها الواضح جمد الدم في عروق فريسيا، و نظراتها كانت كافية لتزرع فيها خزيًا لا تفسير له.
كأنها كُشفت أمام الجميع، لا ترتدي سوى قميص نومٍ شفاف.
<تشه… ما هذا المنظر؟ يا للذوق الرديء… ما هذا الشيء؟>
<عن ماذا تتحدثين؟>
<أنتِ لا تفقهين شيئًا. و طفلكِ هذا لا شيء كذلك. مُجرّد جرذ، لا إنسان.>
و للمرة الأولى، صرخت فريسيا من أعماق قلبها.
<لا! طفلي إنسان! ليس جرذًا!>
<و هذا هو السبب في أنكِ لا تفهمين شيئًا.>
رغم صراخها، و دموعها، و عويلها، استمرت أتريا في الضحك بلا رحمة.
<يا لبؤسكما… لو وُلدتما لأمٍ لائقة، لما آل بكما الحال إلى هذا.>
“هل هذا… ذكرى قديمة؟”
إن كانَ كذلك، فلماذا لا تذكرها إطلاقًا؟
متى قالت لها أتريا مثل هذه الكلمات؟
كانت النار تشتعل في صدرها. أرادت أن تتذكّر، لكنها كانت تخشى أن تفقد عقلها إن فعلت.
تأوهت فريسيا و وضعت يديها على رأسها، تئن من الألم.
اختفى صوت أتريا أخيرًا، لكن الألم في صدرها بقي، وبينما كانت وحيدة وسط الظلام، شعرت فجأة بلمسة دافئة فوق رأسها المنحني.
[يا أيتها الطفلة المسكينة… الوحيدة التي ما زالت تسمع صوتي على هذه الأرض.]
رفعت رأسها، لتقع عيناها على كائن، محاطًا بهالة على هيئة هلال، ينظر إليها بعينين يملؤهما الحزن والشفقة.
كانَ شعره الفضي باهتًا و طويلًا حتّى الأرض، و عيناه… حتّى من خلف أهدابه الكثيفة، تحملان غموضًا قدسيًا.
التعليقات لهذا الفصل " 60"