الفتى ذو الثمانية عشر عامًا… الذي لا يعلم شيئًا عن الحياة
لا شكّ في أنَّ إيزار، حينَ كانَ في الثامنة عشرة، لم يكن يتعمّد مراقبة تلك الراعية الوضيعة. كلّ ما في الأمر أنّ الفتاة كانت تتجوّل في نطاق بصره.
فهي ترعى الأغنام داخل أراضي دوقية أركتوروس، و من الطبيعي أن تكون هناك.
“هل تُصغي إليّ، إيزار؟”
“أُصغي.”
للأسف… يُصغي جيدًا، أكثر مما ينبغي.
أخيرًا، صرف إيزار نظره عن النافذة ليلتفت إلى صاحبة الصوت المزعج.
كانت زوجة أبيه، إلكترا، قد بدأت بالضغط عليه لأجل مسألة الزواج بجدية حالما بلغ الثامنة عشرة، و بشكلٍ أدق، لم تكن تعرض عليه اقتراحات، بل كانت ترفض من يتقدّم له و تنتقده.
“كيف يجرؤون؟! مُجرّد عائلات نتكرّم عليهم بعطفنا، و الآن يريدون دَسَّ بناتهم في بيتنا؟ من الأفضل أن نختار من بين حلفائنا التابعين.”
“…”
“آه، لو أنَّ للعائلة الإمبراطورية ابنة في السن المناسبة!”
تنهدها هذا لم يكن سوى تذمّر و تهكم خفيّ على نسب إيزار.
فلو لم تكن أمّه من عامة الناس، لما انقطعت السلالة الأصيلة، و لربما سنحت له الفرصة للزواج من أميرة المستقبل.
‘هذا حديث مُرهق…’
أعرض إيزار عنها مجددًا، و ألقى ببصره خارج النافذة. في تلك اللحظة، لمح الراعية تضرب خروفًا عنيدًا بعصاها.
عادةً ما تمشي برأس منكسٍ في صمت، لكن ذلك لا بُدَّ أن يكون وجهها الحقيقي.
على أيّ حال، مراقبة ذلك المشهد كانت أرحم من هذا الحديث العقيم.
لم تكن إلكترا تدرك شروده، فتابعت بشيء من الغرور:
“أسرة أَنتاريس ستكون الخيار الأمثل التالي.”
“…”
“إنهم مكافئون لنا من حيث المقام.”
رأى إيزار أن زوجة أبيه بالِغة التطفّل في هذا الصدد.
‘مُجرّد زوجة أبي الثانية…’
تتحدث و كأنها من دم أركتوروس الأصيل، تُنصّب لنفسها حق تقرير مصير دوقية لها جذور تعود لقرون.
“سمعتُ أن ابنة الدوق الوحيدة فائقة الجمال. سيكون من الجيّد أن نُمعن النظر في زيارتنا القادمة للعاصمة.”
“…”
“لم تبلغ سنّ الرشد بعد، لكن سيكون من الأفضل الترتيب مبكرًا للخطبة، ألا ترى ذلك صائبًا؟”
“نعم…”
لم يكن فيما تقوله خطأ، لذلك أجابها ببرود، آملًا أن تضع حدًا للحديث.
كانَ بوسعه تحمّل تدخلها الزائد و صخبها ما داما يشتركان في هدف واحد:
استعادة مجد الأسرة… و إبعادها عن مسارات الزيجات الطائشة.
‘لكن لماذا أشعر بالاختناق؟’
كأنّه حصان فحل حُبس في الإسطبل، يُزاوَج لتكثير النسْل، و يرتبط فقط حسب صفاء الدم.
و المفارقة أنه حينما كانَ يختنق من هذا الشعور، كانَ يذهب إلى الإسطبل ذاته ليتنفّس.
و حينَ وصل، لم تكن الخيول فقط هي التي بادرت بالتحية، بل حتّى الماشية العائدة من المرعى.
“سيدي الدوق!”
“هل عادت جميع الماشية للمرعى؟”
“الفتاة، ابنة المجنونة… ما تزال تبحث عن أحد الخراف الضائعة.”
أطلق إيزار تنهيدة مُتعجّبة.
ما الذي تفعله تلك الحمقاء؟ لقد بدأ المغيب يزحف.
كانَ الوقت آمنًا بما يكفي، لا وحوش في الأفق، و الحراسة مشددة. لكن حتّى الأبله يدرك ما قد يحدث لفتاة نحيلة تتجوّل وحدها في الظلام.
خرج إيزار للبحث عنها بدافع من الشفقة فقط.
لا أكثر.
و سرعان ما وجد الراعية عند أطراف الأدغال، تتخبط و تحاول جاهدة الإمساك بالحمل.
“اهدأ، صغيري… كفى عبثًا.”
كانت عند حافة البحيرة، تحاول جاهدة سحب الحمل.
“أحسنتِ، من يجدّ يجد.”
تمتم إيزار، و هو يمسح العرق عن جبينه و يتنهّد. لماذا سقط الحمل في الماء أصلاً؟ كانَ عليه أن يتبع أمّه بهدوء…
لكن فجأة، ركل الحمل الفتاة بحوافره، لتفقد توازنها وتسقط إلى الخلف.
فجأة—
تخبّطت الفتاة قليلًا، ثم غرقت مباشرة تحت سطح الماء.
“تبًّا!”
ألقى إيزار معطفه جانبًا و انطلق يعدو بجنون.
‘لماذا تغرق في ماء ضحل كهذا؟… أيمكن أنها… تريد أن تموت؟!’
كانت الذكريات التي تلت قفزه في الماء و انتشاله لذلك الجسد الطائش مبعثرة، ضبابية كـضوء شاحب عند الغروب.
لم يعد يدري كيف غاص، و لا كيف أمسك بها، و لا كم مرّ من الوقت حتّى سحبها إلى ضفة البحيرة. كلّ ما شعر به آنذاك كانَ الصدمة و الارتباك و الذهول… و كلّها اجتمعت في رأسه مثل طرقات مطرقة على صدغيه.
“مجنونة…”
خرج صوته باردًا كـحدّ السيف، قاسيًا كـالسخط، مشبعًا بغضب لم يعرف له مثيلًا.
‘كيف تجرؤ… أن تموت هنا، على أرضي؟!’
هذه الفتاة، تلك الراعية البائسة، كانت موجودة لسببٍ ما… لتذكّره بأنّ حياته، مهما بلغت قسوتها، ليست الأسوأ.
أن يرى بؤس غيره كانَ بمثابة صكّ عزاء له.
أن تكون تلك الفتاة هناك، صامدة رغم كلّ شيء، كانت هي حجّته الوحيدة لئلا ينهار.
أما فكرة أن تُنهي حياتها… دون إذنٍ منه… دون أن يقرّ هو بذلك…
فقد كانت كفيلة بإشعال كل شرارة غضب خامدة في صدره.
“أ-أعتذر!”
لكن في تلك اللحظة، وقفت الراعية التي كانت قد جلست تتقيأ و تكحّ فجأة على قدميها.
“أرجوك سامحني…!”
و ما إن همّت بالانحناء على عجل حتّى التقت عيناهما للحظة، و رآها إيزار عن قرب لأول مرة.
رغم أنّه كانَ على علمٍ بوجودها منذ زمن، إلّا أنَّ هذه كانت المرة الأولى التي يتأمل فيها ملامح الراعية عن كثب.
وجهها الصغير بدا منهكًا من قسوة الحياة، و تفاصيله تشي بالجروح الصغيرة المنتشرة على خديها و معصميها.
«ابنة المجنونة…» كانَ هذا لقبها بين الخدم.
و من ذلك وحده، استطاع أن يتخيل ما الذي كانت تلقاه عند عودتها إلى البيت.
لكن ما استوقفه في تلك اللحظة القصيرة… كانَ عيناها.
“أنتِ… أيتها الراعية.”
عيناها الواسعتان كانتا أشبه ببحيرتين ساكنتين، فـسيحتين، لكن من يدري أيّ أسرارٍ تخبئان؟
كانت ثيابها مبللة تمامًا، و تشبثت بالحَمَل الشقي كمن يتشبث بخشبة نجاة. من بين الثياب، برزت كتفاها الهزيلتان، الملتصقتان بقماشٍ أثقلته المياه.
“خذي هذا.”
“نعم…؟”
دون سابق إنذار، مدَّ إيزار يده بالمعطف الذي كانَ قد نزعه قبل قليل.
كانَ يرغب فقط في مغادرة المكان، و في ألا تراوح تلك الفتاة بين الأنظار بهذا الشكل المثير للشفقة.
“افعلي به ما شئتِ.”
“ماذا؟ لكن—”
قالت و هي تحاول لفّ المعطف حول جسدها المبتل، و قد علا صوتها بالدهشة، لكنه كانَ قد أدار لها ظهره بالفعل.
و حينَ ابتعدت خطواتها، سلك هو الطريق المعاكس على عجل.
“هاه…”
احمرَّ عنقه فجأة، و كأن حرارة خفية اشتعلت فيه، و قلبه… بدا و كأن أحدهم قذفه مباشرة في أتونٍ مشتعل.
‘لماذا؟…’
فرك وجنته براحة يده بخشونة، عاجزًا عن تفسير سبب ذاك السخون المفاجئ، و كأن وجهه قد أُحرق… رغم أنّه كانَ مبللًا لا أكثر.
‘لِمَ أشعر بالحرج؟’
لماذا جعلته كتفا فتاةٍ مبللة يشعر بهذا الشكل؟
رغم أنّه هو من أنقذها، و هو من تعرّض للبلل بسببها؟
و معَ ذلك… شعر و كأنّه ارتكب فعلًا مُخزيًا لا يُغتفر.
لكن الأسوأ من كل ذلك… كانت مشاعر التعلق الغريبة بذلك المعطف.
“افعلي به ما شئتِ”، قال.
كانَ معطفًا عاديًا لا يعني له الكثير، لكن ما إن ألقاه نحوها حتّى راوده رغبة خفية في استعادته.
و لكن… أن يُعاد إليه بيدِ من أنقذها.
‘قُلتُ لها أن تتصرف به كما تشاء… لكن لا بد أنها تملك ما يكفي من الذوق و الاحترام كي لا تفعل ذلك فعلًا، أليس كذلك؟’
إذا كانت تمتلك ذرة من الفطرة السليمة، فـستأتي بنفسها إليه لإرجاعه.
فـثياب سيدها لا تُرسل معَ خادم أو تُلقى على عتبة الباب.
‘و إن فعلت، فلن أمنعها.’
هكذا فكّر ببرود… أو هكذا أقنع نفسه.
لكنه لم يكن مرتاحًا لفكرة أن تطرق تلك الفتاة بابه.
“أولًا، عليّ أن أعرف ما تحبه النساء…”
كانت إلكترا و ميروب، رئيسة الوصيفات، ثرثارتين و مزعجتين، لكنه اعترف بجهودهما و احتفظ بمسافة نفسية منهما.
و كذلك النبيلات الشابات اللواتي التقى بهن أحيانًا في العاصمة، كنّ فارغات بالنسبة له، لا يعرفن سوى الأحاديث المصطنعة.
‘على أيّ حال… لا يمكنني أن أُعامل الراعية كما أُعامل أولئك.’
الطعام… قد يكون الخيار الأسلم.
كوكيز السكر، مثلًا، نادرًا ما يتذوقه العامة. أو بتلات البنفسج المُحلّاة، أو زهور الورد المغطاة بالعسل… أطعمة قد لا تذوقها هذه الفتاة طيلة حياتها.
و حينَ يقدّمها لها، كم ستتّسع عيناها الخضراوان دهشة؟
“…”
نسمة هادئة مرّت في صدره.
شعورٌ لم يسبق أن اختبره، لكنه لم يكن سيئًا.
“نعم، لو فقط جاءت…”
حينها سيلومها قليلًا على السقوط في البحيرة، و هي تحمل ما يخصّ سيّدها، لكنه سيجلسها أمامه، و يتأملها بهدوء و هي تأكل تلك الحلوى بتوتر و خجل.
‘رُبما … حينها فقط، سأتحرر من ذلك الإحراج السخيف الذي شعرتُ به بجانب البحيرة.’
لكن… ذلك السيناريو لم يتحقق أبدًا.
كانَ ذلك اليوم…
يوم عودة الفريق الذي تولّى تعقّب هروب المتمردين، محمّلين بأخبارٍ لم يتوقعها.
“هل هو موجود فعلًا…؟”
تجمّدت الكلمات على لسانه، لكن عقله ظلَّ يكرّرها بلا توقف.
ذلك اليوم بالذات، علم إيزار بالحقيقة التي ظنّها مدفونة مع الماضي:
التعليقات لهذا الفصل " 59"