في مملكة سيليستيكا، كانَ من المتعارف عليه أن يقيم الأطباء المتخصصون في الأعشاب و العلاج داخل قصور النبلاء، لكن حينَ يتجاوز المرض حدود معرفتهم، لا يكون أمامهم سوى اللجوء إلى المعبد.
ذلك لأن الكائنات الوحيدة التي حظيت ببركة الشفاء من الإله “آدامانت” هم الكهنة وحدهم.
و كانت كل مرة يُستدعى فيها الكهنة تُكلّف ثمنًا باهظًا، حتّى صارت مصدر دخلٍ ضخم للمعبد، ما جعل بعض النبلاء يترددون في استدعائهم إن بدأت ثرواتهم بالتراجع.
لكن دوق أركتوروس لم يتردد لحظة واحدة في إرسال الطلب إلى معبد العاصمة رغم فداحة التكاليف، و رغم أن الساعة كانت من عتم الليل.
ما لم يتوقعه أحد داخل القصر، هو أن من أُرسل لأجلها ذلك النداء العاجل… كانت “ابنة زنا”.
“تحية لك، يا دوق أركتوروس، لتحلّ عليك بركة آدامانت.”
انحنى أربعة من كهنة المعبد، الذين قدموا على عجل من العاصمة، بوقار أمام إيزار. كانَ قد تخلّى منذ زمن عن ثياب الحفل، و وقف الآن يحدّق في وجوههم بعينين يملؤهما التوجس و القلق.
فريسيا كانت قد دخلت في نوبة جديدة، ما اضطرهم لوضع قطعة قماش في فمها كي لا تعض على لسانها. لم يعد هناك وقت للتأخير؛ عليهم إيصال هؤلاء الكهنة إلى غرفتها حالًا.
لكن ما إن وقعت عينا إيزار على أحدهم، حتّى اشتعل غضب مكبوت في عينيه.
“أهكذا تردّون على نداء طارئ من دوق؟ أترسلون لي مبتدئين؟”
كانَ من المتعارف عليه، في مثل هذه الحالات الحرجة، أن يُرسل المعبد كهنة أصحاب خبرة طويلة، لكنّ أحدهم كانَ شابًا صغير السن بشكلٍ يثير السخرية.
ذاك الفتى ذو الشعر الفضي و العينين الحمراوتين كانَ أشبه بفارس مقدّس صغير، لا بكاهن متمرس في الطقوس و البركة الإلهية.
بادر الكاهن الأكبر بالتوضيح بصوت خفيض و هو يرمق إيزار بتوتر شديد:
“قد انضم حديثًا إلى معبد العاصمة… لكن قوّته الروحية فائقة، سيدي، أعدك بأنك لن تندم.”
في تلك اللحظة، خفَض كانوبوس عينيه الحمراوتين المتلألئتين تحت خصلات شعره الفضية، محاولًا كتم ابتسامة ساخرة أخذت تتسلل إلى فمه.
“باسم الربّ الأعلى، سأُخلّص المصابة من ألمها بكل إخلاص.”
“من الأفضل لك أن تنجح.”
قالها إيزار و هو يُلقي عليه نظرة قاسية، قبل أن يستدير على عجل عائدًا إلى حيث ترقد فريسيا. أما كانوبوس، فقد سمح لابتسامة خبيثة أن تظهر للحظة بين كمه و هو يتبعه بنظره.
‘هاه… اللقاء الأول بين الأخوين.’
هل سيدرك هذا الرجل أن مَن يسعى لقتله دومًا… يقف الآن أمامه وجهًا لوجه؟
لكن ملامح كانوبوس العابثة ما لبثت أن تلاشت حينَ دخلوا الغرفة.
المرأة الملقاة فوق السرير بدت و كأنها على وشك أن تُبتلع، لا من الفراش… بل من الموت ذاته.
“آه… أَه… أَهغ…!”
“فريسيا!”
هرع إيزار إليها باضطراب، فقد كانت قادرة على التنفس حينَ غادر الغرفة قبل قليل، أما الآن فقد كانت تختنق، تمسك بعنقها كمن يُصارع لابتلاع آخر نفس.
شهق أحد الكهنة خلف كانوبوس وهمس بقلق:
“يا إلهي… إن كانت النوبة بهذا العنف…”
“أنا مَن سيُعالجها.”
“كاهن كانوبوس؟”
انتهز كانوبوس لحظة ترددهم و تقدّم بخفة نحو فراشها، متعمدًا تجنب الوقوف قرب إيزار.
ردّد ترنيمة منخفضة الصوت، كأنها نغمة وترٍ مشدود، ثم مدَّ يده فوق وجه فريسيا المتصبب عرقًا.
و معَ أن الكهنة الآخرين بدؤوا يدعمونه بقواهم، إلا أن من كانَ يُحيي الجسد المتهالك بصدق… كانَ هو وحده.
المرأة التي كانت تنتفض من شدة اختناقها، رفعت جفنها بصعوبة لتهمس بصوت مبحوح:
“الكاهن…؟”
“اسمي كانوبوس، سيدتي.”
وضع يده برفق على جبينها، و همس بصوت حنون:
“لا تنهضي…”
“أهغ…”
“ستتحسّنين… فقط اصبري.”
كانَ من الجليّ أنها كانت تُكابد أنفاسها تحت وطأة الألم. راح يحدّق في وجهها الشاحب، الذي أغلق عينيه أخيرًا بعد أن ارتجفت حاجباها بضع مرات بتأوّه خافت.
“كم هي مثيرة للشفقة… “
همسه ذاك، المنخفض كأنّه اعتراف حزين، لم يكن كذبًا. في بادئ الأمر، كانَ يأمل أن تكون نقطة الضعف في قلب إيزار. و في المرة التالية التي رآها فيها، ظنَّ أنها تملك البركة ذاتها التي منحها الرب له.
‘امرأة تموت بسبب آل أركتوروس…’
هكذا تُعيد الحكاية نفسها.
هذه المرأة تسير على خُطى والدة كانوبوس ضحية أخرى لاسمٍ نبيل دنّسها، ثم أهدر دمها.
امرأة مسكينة تعذّبت حتّى حُكم عليها بالإعدام، و كل ذلك من أجل رجل لم يستحق منها شيئًا.
تسللت نظرات الكراهية إلى عيني كانوبوس، و تحت خصلات شعره الفضي، حدّق في إيزار باحتقارٍ بالغ.
‘تمامًا كـأبي… ذلك الوغد البغيض.’
في تلك الأثناء، كانَ إيزار، الممسك بيد فريسيا من الجهة المقابلة، يزداد انقباضًا. ما إن وقعت عيناه على كانوبوس حتّى اشتدّ انقباض فكه.
‘كاهن يفترض أن يكون عفيفًا… ما الذي يفعله و هو يحدّق بها هكذا؟’
لمع بريق غريب في عيني الكاهن الحمراوتين و هو يتأمل فريسيا المتألمة. تمنى إيزار أن يكون ما رآه محض خيال، لكن كلّما أمعن النظر، و كلّما اشتدت حواسه…
‘لابُدَّ أنّ بينهما معرفة سابقة.’
‘تماسك، هذا ليس الوقت المناسب لهذا.’
فالمسألة الملحّة الآن هي أنَّ فريسيا، التي لامست حافة الموت، لم تستعد عافيتها بعد.
حينها، سحبها إيزار بلطف بعيدًا عن يد الكاهن و ضمَّ جسدها الواهن إلى صدره.
“هل انتهى العلاج؟ هل يمكن أن تتكرر الحالة؟”
“بفضل الصلوات الأربع، يجب أن تكون بخير. لكن طاقتها منهكة بفعل النوبات، لذلك يجب أن يتابعها طبيب بدقّة.”
أومأ إيزار برأسه ببطء.
و الآن، و قد تجاوزت فريسيا أصعب اللحظات، لم يرغب أن يبصر أيّ رجلٍ ضعفها هذا.
“لقد أحسنتم صنعًا، خصوصًا في هذه الساعة المتأخرة. سيصلكم الجزاء الذي يليق بكم.”
و ما إن صدرت هذه الكلمات من فم إيزار، حتّى تبادل الكهنة النظرات اللامعة. كانَ اسم “آدامانت” على شفاههم، لكن الذهب هو ربّهم الآخر منذ زمن.
و معَ انصراف الكهنة بفرح، كانَ كانوبوس وحده من التفت إلى السرير، ناظرًا إليه من تحت قلنسوة ردائه الأبيض.
المرأة الشاحبة، المضمومة إلى جسد ذلك الرجل الكبير، بدت و كأنها على وشك أن تُبتلع.
لكنّ الحقيقة التي لم يدركها الاثنان… أن قلب ذلك الرجل كانَ قد استسلم بالكامل لتلك المرأة الصغيرة.
✦✦✦
ما إن غادر الكهنة، حتّى بدأ تنفّس فريسيا يهدأ شيئًا فـشيئًا.
لكنَّ وجهها بقي باهتًا، بلون الموت، و في ضوء القمر الشاحب، بدت و كأنّها لا تزال على حافة الرحيل.
جلس إيزار إلى جانبها، يمسح عرقها بين الحين و الآخر بمنشفة مبلّلة.
في الأصل، كانَ ينوي أن يتحدث معها الآن. ليقول إن هذا الزواج لم يكن يعني له شيئًا، و أنها لم تكن تعني له شيئًا… منذ البداية و حتّى النهاية.
لكن بدلاً من ذلك، خرجت من شفتيه كلمات مختلفة تمامًا، همس بها و كأنها اعتراف غافل:
“كُنتِ دائمًا على ذلك التلّ… “
كانَ يعلم بوجودها منذ زمن.
منذ أن كانَ صغيرًا، حينَ كانَ والده لا يزال حيًّا…
<هل تظن نفسك تعيسًا الآن، يا إيزار؟>
قالها الأب يوم رآه يقف عاجزًا، و يداه داميتان من شدة التدريب.
<انظر إلى هناك… إلى من هو أسوأ حالًا منك، تذكّر دائمًا أن من يسقط قد يُصبح مجرد دودة.>
و بعد وفاة والده، تولّى إيزار منصب الدوق بشكلٍ رسمي.
لم يكن هناك وقت للرثاء أو التذمّر في تلك السنوات. لكن أحيانًا، مهما امتطى حصانه و ركض، كانَ شعور خانق يثقل صدره.
و في تلك اللحظات، حينَ لا تُجدي الوحوش في تبديد الضيق… كانَ يتسلل خلسةً ليراقب تلك الفتاة الصغيرة.
الفتاة التي كانت أصغر من غيرها، و التي لم تتمكن يومًا من اللعب معَ بقية الأطفال، بينما كانوا يمرحون قرب النهر، كانت هي تبحث عن عمل بيديها المجروحتين.
إيزار نفسه لم يذهب يومًا إلى النهر، مكانته أعلى من ذلك، و لم يكن لديه وقت للهو.
‘لم أكن الوحيد المحروم من الفرح.’
بل كانت تلك الطفلة الصغيرة، بؤسها أعمق من بؤسه بكثير، كانت تعمل بجدّ و تعيل أمًّا مجنونة.
و مُجرّد مراقبته لها من بعيد… كانَ يشعره بقليل من الخفة.
‘كنت أواسي نفسي بفكرة أنني أفضل حالًا منها…’
كانَ نبيلًا، يعقد مقارنة بينه و بين أدنى من في مملكته، و يشعر بنشوة خفيّة… و كانَ هذا، في حد ذاته، كفيلًا بجعله يسخر من نفسه.
و لعلّ قوله ذات مرة، ”إن كانَ ثمة عمل فائض في القلعة، أعطوه لابنة المجنونة” ، لم يكن إلا نوعًا من الإحسان المبطّن بالشفقة.
و ما اكتشفه لاحقًا… أنَّ “العمل الفائض” ذاك، لم يكن سوى رعي الأغنام، و هو أمرٌ شاق حتّى على الرجال.
حينَ سمع بذلك، شعر بانزعاج غريب، لكن فريسيا و على نحوٍ لم يكن يتوقّعه اعتنت بالخراف بإصرار لا يلين.
و إن كانت تؤدّي المهمة على نحوٍ أفضل مما ظنّ، فهذا وحده كانَ كافيًا.
و منذ ذلك الحين، كلّما التفت بلا وعي خلفه، أبصر تلك الفتاة الصغيرة على التلّ، تسوق الخراف في ضوء الغروب، و شعرها يتراقص معَ الريح.
و حينها فقط… كانَ ذهنه المتوتّر على الدوام يهدأ قليلًا.
تكرّر هذا المشهد مرارًا حتّى بلغ الثامنة عشرة. و إيزار، في ذلك الحين، ظنّ أن ذلك الشعور ليس سوى ترفّع و غرور.
إلى أن رآها ذات يوم… و بغباء طفولي تُضيّع حملًا صغيرًا، و تتيه في الغابة باحثةً عنه…
التعليقات لهذا الفصل " 58"